وبالعودة إلى الشرق الأوسط، وفي الوقت الذي جاء فيه الموقف الإيراني مغايراً للتوقعات التي أثارت مخاوف لبنان من احتمال تحريك حزب الله لصياغة رد عسكري، وإشعال حرب جديدة مع إسرائيل، فإن الأمور هناك اتجهت نحو تبريد الجبهة الداخلية رغم الامتناع اللبناني عن التصويت على القرار الدولي بشأن العقوبات، والذي لم يكن بعيداً عن الرغبة الإيرانية في تحييد الساحة اللبنانية عن الصراع مع الغرب، وكذلك عن الموقف السوري المنحاز للجانب التركي والراغب في تأمين مظلّة إقليمية واقية، وبنفوذ سياسي متزايد في لبنان يحظى بالتبريك الأمريكي في إطار المراهنة على الابتعاد عن إيران..
وجاءت أحداث قافلة الحرية لتسفر عن توازنات يمكن أن تقود إلى تغيير ملحوظ في خارطة التحالفات السياسية، خاصة وأن تلك القافلة تحرّكت بقرار سياسي تركي يتماشى مع المنهج الجديد للسياسة الخارجية التركية الرامية إلى استعادة الهوية الشرق أوسطية، وقطع الطريق أمام النفوذ الإيراني، وتعزيز الموقف التفاوضي التركي في السعي إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني أن حكومة حزب العدالة أرادت منها تحقيق العديد من الأهداف، يأتي في مقدمتها تحرير القضية الفلسطينية من المصادرة الإيرانية، إضافة لحرصها على الاحتفاظ بشعبيتها المتنامية محلياً وإقليمياً لاستثمارها في الانتخابات البرلمانية المقرّرة إجراؤها في تموز من العام المقبل، أو إجراء انتخابات مبكرة لسد الطريق أمام حزب الشعب الجمهوري المنافس، الذي تزايدت شعبيته مؤخراً..
ورغم أن العلاقات التركية الإسرائيلية وصلت إلى حدود متأزمة، وتزيد من هواجس واشنطن ومخاوفها من تجاوز الدور التركي للحدود المرسومة، فإن الإدارة الأمريكية تعمل على استثمار حادثة القافلة وتداعياتها في الضغط على إسرائيل لإحراز التقدم المنشود على طريق المفاوضات غير المباشرة مع الفلسطينيين، وتنشيط الدور المصري لإنجاح المصالحة الفلسطينية، كما أن هذه الإدارة ترى في صعود الدور التركي فرصة للتواصل مع إيران في بعض الملفات، سواء في العراق أوفي آسيا الوسطى، كما ترى فيه قناة للتواصل مع حركة حماس والفصائل الفلسطينية المتشدّدة، ووسيط لتشجيع سوريا على موازنة علاقاتها الإقليمية، وعلى دفعها نحو استئناف المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، التي ظلت منذ قيامها شريكاً سياسياً واقتصادياً هاماً لتركيا، وأن مستوى تلك العلاقات معها لن يتراجع بالسهولة التي ترددها وسائل الإعلام..
ومن جهة أخرى، فإن معظم وسائل الإعلام والمسؤولين الأتراك يخطئون في تعاملهم مع القضية الكردية، وكأنها مسألة أشقياء وعصاة انفصاليين مرتبطين بـ(أعداء تركيا) وبأجندات خارجية.
وفي حين يكثّف فيه الجيش التركي انتشاره في المناطق الكردية وعلى الحدود مع إقليم كردستان العراق، فإن الاعتقالات تتواصل بحق الناشطين الأكراد، ومنهم تسعة من أعضاء وفود السلام الذين توجهوا إلى تركيا من كردستان العراق في شهر تشرين الأول من العام الماضي.
وفي الوقت الذي يحاول فيه حزب العدالة إثبات فشل المؤسسة العسكرية في تناول تلك القضية بالقوة، فإن هذه المؤسسة تريد من عدوانها اتهام حزب العدالة بالتواطؤ والتفريط بسيادة تركيا، وتستعد لشن عدوان جديد على إقليم كردستان العراق، الذي تتحاشى حكومته توتير العلاقة مع تركيا أو إيران، رغم القصف الأرضي والجوي الذي يطال المدنيين الكرد، وينتهك بنفس الوقت سيادة العراق، وذلك حرصاً منها على إنجاح العملية السياسية وتشكيل حكومة عراقية جديدة في بغداد، لا تزال تعترضها عقبات كبيرة بسبب تحول العراق إلى ساحة مفتوحة للتدخلات الإقليمية، التي تراهن على هذه الجهة أو تلك في تشكيل حكومة لها خصوصيتها.
فهي، أي الحكومة القادمة، من جهة، سوف تحل محل القوات المتعددة الجنسيات بعد خروجها النهائي أواخر عام 2011 ، وسوف يتمتع رئيس وزرائها المقبل، من جهة أخرى، بصلاحيات كبيرة بموجب الدستور، مما يزيد من حدة الصراع على هذا المنصب بشكل خاص.
أما في المجال الداخلي, فقد بدأ إطلاق سراح معتقلي إعلان دمشق، ومنهم الدكتورة فداء الحوراني رئيسة المجلس الوطني, في حين من المرتقب إطلاق سراح الآخرين..
لكن ما يدعوا للاستنكار من جديد هو الإبقاء على الأستاذ علي العبد الله معتقلاً بتهمة جديدة، والحكم على المحامي والناشط الحقوقي مهند الحسني ثلاث سنوات سجن وعلى الأخ محمود سفو عضو اللجنة المركزية للحزب اليساري الكردي بسنة واحدة، واستمرار محاكمة الأستاذ هيثم المالح الطاعن في السن، والعديد من المعتقلين السياسيين الكرد ..
وهذا يعني أن حملات الضغط والاعتقال سوف تتواصل، وتستمر معها الاستدعاءات وملاحقات العاملين في دوائر الدولة وإجراءات وجداول منع السفر..
وفي الوقت الذي يدرك فيه الجميع أن بلدنا يحتاج لتحوّلات ديمقراطية في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي من شأنها تمتين الوحدة الوطنية، وإطلاق الحريات الأساسية، بما فيها ضمان حرية الرأي، ونبذ سياسة الحزب الواحد، والقبول بالتعددية، فإن ذلك لن يكون ممكنا ً إلا من خلال فتح حوار حقيقي، لأنه اللغة الوحيدة للتفاهم والحلول بدلاً من لغة التحقيق والاستجواب والاعتقال، ففي بلدنا سوريا أزمات كبيرة وتحدّيات خطيرة تحتاج للتعامل الديمقراطي الكفيل بحل جميع القضايا التي يعاني منها، اعتباراً من الوحدة الوطنية إلى الاستقلال الوطني، وتحرير الأراضي المحتلة والأزمة الاقتصادية ومشاريع التنمية، وانتهاء بالقضية الكردية التي لن تجد لها حلاً عادلاً بغياب الديمقراطية، حيث تزداد السياسة الشوفينية حدة، من خلال استصدار المزيد من القوانين والمراسيم والإجراءات الاستثنائية، التي تحدّ من تطوّر الشعب الكردي، وتشديد الحصار عليه، بما في ذلك محاولة انتزاع أراضي الفلاحين الكرد الذين يستثمرونها في إطار ما تسمى بـ(أجور المثل)، وكذلك التشكيك بعدالة هذه القضية وبوطنيتها..
ومن المؤسف أن هذه السياسة تجد من ينساق وراءها من بسطاء شعبنا السوري الذين يتخذون من بعض الشعارات المسلوخة عن واقعها ذريعة للتنكر للحقيقة الكردية، التي تعني أن الكرد هم شركاء للعرب وغيرهم من مكوّنات الشعب السوري، وأن القومية العربية لن تبرز سماتها الإنسانية إلا من خلال تلك الحقيقة، وأن سوريا لا يمكن لها أن تكون إلا وطناً للجميع… وأن سياسة التمييز والاضطهاد لن يكون مصيرها سوى الزوال، وإن تمتع الكرد بحقوقهم لا يسيء لأحد، بل يصون وحدة البلاد وسيادتها.
1|7|2010
اللجنة السياسية