الحركة الكردية السورية عامل توحيد لا تفرقة!

أكرم البني
ليس من المبالغة القول إن القوى الكردية في سورية اجتازت مؤخراً، وبنجاح، امتحاناً عسيراً، وبرهنت للمشككين بها صدق نياتها الوطنية والتزامها الديمقراطي، وذلك عندما أحجمت غالبية فصائلها عن المشاركة في مؤتمر بروكسل الذي عقد تحت عنوان تشكيل مجلس قومي في الخارج يمثل مرجعية تمتلك حق القرار والتمثيل لأكراد سورية، وأيضاً بإعلان هذه القوى في اللقاء الذي عقد مؤخراً مع نائب الرئيس السوري، نجاح العطار، تمسكها بوثيقة إعلان دمشق، ووحدتها مع المعارضة العربية، واعتبار المشكلة الكردية جزءاً لا يتجزأ من استحقاق التغيير الديمقراطي العام في البلاد
صحيح أن هذه الفصائل تعرضت لبعض النقد كونها تقدمت بمذكرة تطالب السلطة بالمسارعة إلى إيجاد حل لمئات الألوف من الأكراد المجردين من الجنسية، والذين يعانون في مختلف مجالات حياتهم، ومحرومون من حق السفر والتملك، وتطبق بحقهم مظاهر التفرقة في شروط العمل والتوظيف، لكن يبقى هذا النقد مغالياً ما دامت هذه الفصائل لا تغفل في خطابها السياسي المطالب الديمقراطية الأوسع.

ثم إن التركيز على تخفيف معاناة قطاع واسع من المظلومين ليس بضرر، بل ينفع الميل إلى معالجة هذه المسألة الملحة ويساعد على الحل.

ولعل تجاوز مشكلة إحصاء العام 1962، وإعادة الجنسية لجميع الأفراد والأسر الذين حرموا منها وسجلوا ضمن سجلات الأجانب أو المكتومين، يشكل مدخلاً سليماً ومهماً لدفع المسار الديمقراطي قدماً، يساهم في تخفيف الاحتقانات، وحماية القضية الكردية التي يتعزز حضورها ميدانياً من الاستغلال أو الاستثمار المغرض، وكذلك من التطرف والانعزالية التي تنتعش في المجتمع الكردي كردّ فعل سلبي على سياسة القمع والإنكار والتجاهل.

 

 

والمعروف أنه لم تتضح في سورية معالم”مشكلة قومية كردية” بمعنى المشكلة، إلا بفعل تعاقب سلطات غير ديمقراطية، استمدت مشروعيتها من أيديولوجية مشبعة بالتعصب القومي، لا مكان في دنياها للتنوع والاختلاف، أو احترام التعددية وحقوق الإنسان ومصالح القوميات الأخرى.

 

 

قبل ذاك كان الأكراد السوريون، على كثرتهم وقد أصبحوا اليوم أكثر من مليوني نسمة، جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي، ينتشرون في معظم المدن والمناطق السورية، ويشاركون بشكل طبيعي دون أي تفرقة في مختلف أنشطة الحياة؛ فمنهم من قاد المعارك ضد الاحتلال الفرنسي، كإبراهيم هنانو، ومنهم من وصل إلى مناصب سياسية وعسكرية عليا بما في ذلك رئاسة الجمهورية، كفوزي السلو وحسني الزعيم.

 

 

وزاد المشكلة تعقيدا انتعاش المشاعر القومية لأكراد سورية تأثراً بالحراك الكردي الخارجي، وتنامي أجواء الشك والريبة التي خلفها انجرار بعض القوى الكردية وراء”لعبة” الصراع على النفوذ الإقليمي، الأمر الذي عزز الاندفاعات العربية الشوفينية ضد الكرد السوريين، وشجع غلاة التطرف القومي على ابتكار أساليب قسرية لتمييز الأكراد، وسلبهم حقوقهم كمواطنين، وتغييب دورهم الخاص في التكوين الاجتماعي السوري.

 

 

إن التطرف يولّد التطرف، ومن الخطر تعميم أفكار شوفينية تطعن بحق الوجود الكردي في سورية، في محاولة دأبت عليها قوى التعصب القومي العربي، إن خارج السلطة أو داخلها، لإلغاء دور الكتلة الكردية، واعتبار ما هو قائم من تشكيلات قومية هو نتاج مؤقت وطارئ صنعه الاستعمار ومصالح القوى المتصارعة في المنطقة، دون أن نتوقع رداً من الطبيعة الشوفينية ذاتها، مع ما يترتب على ذلك من آثار سلبية على الجميع، وكأن التاريخ لم يقل كلمته في هذا الصدد، وأنه من المحال فرض حتى السعادة والرفاه على شعب آخر بالقوة والإكراه! وتجربة تفكك الاتحاد السوفييتي لا تزال حاضرة في الأذهان!

 

 

لكن برغم تأثر المزاج والحراك الكردي في سورية بالحراك الكردي في بلدان الجوار، من قبيل حركة التطوع الواسعة لأكراد سورية من أجل دعم البشمركة في شمال العراق(1974-1975)، ثم انجذاب أغلب الشباب والفتية الأكراد للقتال في جبال كردستان إبان الوجود شبه العلني لحزب العمال الكردستاني في الساحة السورية أواخر القرن الماضي، وبرغم الدور المهم الذي لعبته الحالة السياسية لأكراد العراق، قبل وبعد الإطاحة بصدام حسين، ولا سيما ما منحته الفدرالية من حقوق قومية، واختيار جلال طالباني رئيساً للبلاد، وبالتالي إنعاش الحس القومي لأكراد سورية، الذي تجلى في اتساع السجالات والحوارات الدائرة حول شروط حياتهم، ومستقبلهم الوطني، وارتفاع حرارة نضالاتهم السياسية والشعبية، برغم كل ذلك فمن دواعي العدل والإنصاف القول إن تطور وتنامي الحس القومي لم يتكرس أو يظهر على حساب ولائهم لوطنهم، وإذا ما استثنينا قلة من الأصوات المغالية في التطرف التي تروج لأفكار طفولية لا تمت الى الواقع بصلة، فإن الحركة السياسية الكردية كاتجاه عام تتفق جميعها على شعارات تؤكد على الانتماء السوري، وتدعو إلى تمتين أواصر الأخوة العربية الكردية، وتعزيز الحريات العامة والديمقراطية.

وهو ما أظهرته وأغنته المشاركات المتكررة، وأشكال التنسيق المتنوعة السياسية والمدنية والثقافية، بين القوى العربية والكردية لنصرة العمل الديمقراطي العام، ثم التوقيع المشترك على إعلان دمشق، وأخيرا البيان الذي صدر عن الكتلتين الكبيرتين، التحالف الديمقراطي الكردي والجبهة الوطنية الكردية، بأن”القضية الكردية لم تطرح يوما بمعزل عن الحالة الوطنية السائدة، كما لم يطرح حلها في منأى عن الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية في البلاد، بل ظلت هذه القضية مرتبطة ارتباطا وثيقا بمجمل القضايا الوطنية الأخرى لدرجة أصبحت من القضايا الوطنية بامتياز”، ويخلص البيان بعد تأكيده على المهام الديمقراطية وإشاعة الحريات العامة في البلاد الى مطلب يكشف عملياً عمق روح الوحدة والروح الوطنية، وهو”إحداث وزارة خاصة، لها مديرياتها في المحافظات المعنية، تهتم بشؤون القوميات والأقليات القومية”.

 

 

بالمقابل، تحتاج هذه الروح إلى مواقف تنتظر التطور والوضوح وتلاقيها من الجانب العربي، الأمر الذي يستدعي إعادة نظر شاملة بأفكارنا القديمة؛ أي بشعاراتنا ومفاهيمنا عن المسألة القومية بشكل عام، وعن المسألة القومية في خصوصية مجتمعنا.

وهي إعادة نظر ينبغي أن تأخذ في الاعتبار أن بناء المجتمع الصحي لا يمكن أن يتحقق في صيغة إنسانية عادلة إلا على قاعدة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والاعتراف المبدئي والعملي في آن بالتعدد والتنوع القومي والثقافي، والعمل على إرساء مناخ يوفر أفضل فرص التفاعل الإنساني والتكامل بين هذه القوميات والثقافات لمصلحة التنمية والتقدم؛ وبعبارة أخرى، لم يعد بالإمكان الحديث عن المسار القومي وحل مشكلاته دون العمل أولاً لنصرة الديمقراطية في مجتمعنا، خاصة بعد أن تحولت الفكرة القومية إلى فعل استبدادي مغلق ومفرغ من أي بعد إنساني أو حضاري عميق، مثلما لم يعد ينفع لتسويغ شعارات التطرف العربي القول بأننا نخوض صراعاً مع الصهيونية أو مع القوى الخارجية الساعية للهيمنة على المنطقة، فالمهمة الملحة تتمثل اليوم في نقد الفكر الشوفيني، ومحاربة التصورات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من معايير وقيم متخلفة لا تزال تتحكم بعقولنا، وبذل الجهد الأساس لنصرة قيم الحرية والعقلانية والمساواة، فدونها لا يمكن ضمان سلامة تطورنا الإنساني، وحفز العطاء المشترك، وتوفير فرصة للمجتمع ككل للتطور والارتقاء.

 

كاتب سوري

نقلا عن بصفحات سورية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…