فقبل ثورة عام 1905 كان لينين يرفض تطعيم تنظيمه الثوري بأدنى فكرة ديمقراطية وكان يرى في الميل نحو تطبيق القواعد الديمقراطية ميولاً “طوباوية، بل ومسخرة أيضاً” فالمركزية المطلقة هي الفكرة الوحيدة التي ائتمن لينين إليها حزبه في تلك المرحلة.
إن الدكتاتورية، كمثال، خاصية ملازمة لأية ثورة حقيقية وإن لم توصف بها، كذلك الأمر بالنسبة للمركزية التي لا يمكن للثورة التخلي عنها وهذا ما يفسر لنا وصف لينين للديمقراطية بالـ”الطوبوية والمسخرة” لكن التحرج في موقف الثوار الشيوعيين، وهم يواجهون الامتدادات الديمقراطية للّيبراليات القومية الغربية في تلك المرحلة، تجلى من خلال المخارج التنظيرية الخالصة التي لجؤوا إليها.
فالحديث عن ديكتاتورية البروليتاريا ورفع شعار “دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية”! الذي اعتبره تروتسكي في كتابه الثورة الدائمة ذا معنى “رجعي”، كذلك وبالقدر ذاته مصطلح “المركزية الديمقراطية”، ومحاولة إضفاء الصفة الديمقراطية على كل فعل تنتجه الثورة، إنما يخلق لدي شعوراً بأن المسألة لا ترقى لأبعد من كونها محاولات جاهدة لاغتصاب “الديمقراطية” وليّ عنقها.
ولا تزال معظم الأحزاب السياسية في العالم الثالث والمجتمعات المتخلفة تعتمد “المركزية الديمقراطية” منهجاً وأسلوباً في إدارة تنظيماتها من الداخل، رغم أن معظمها لا يصرح بذلك علناً، ولا تكف عن زعم الديمقراطية في كل مناسبة ومن خلال الشعارات التي يتم إطلاقها.
من هنا فإن “المشتكين من نقص الديمقراطية” حسب تعبير تروتسكي، داخل هذه التنظيمات، يتزايدون ويرون في مرتكزات المركزية الديمقراطية داخل التنظيم مجرد قواعد قانونية تسهل عملية الاستبداد من قبل القادة والمسؤولين، وكون “من المتعذر تقديم صيغة واضحة عن المركزية الديمقراطية تزيل نهائياً كافة أشكال سوء الفهم والتأويل الخاطئ” باعتراف من تروتسكي، فمن الطبيعي أن يغدو توضيح وتحديد اعتراضات المشتكين من نقص الديمقراطية في ظل مبدأ المركزية الديمقراطية، أمراً صعباً أيضاً.
لكن أكثر ما هو واضح في كافة الأدبيات اليسارية، التي تحاول شرح وتحديد أسس المركزية الديمقراطية هما مرتكزان اثنان:
أولاً: كل هيئة حزبية تتخذ قراراتها بالتصويت وتخضع الأقلية لرأي الأكثرية.
ثانياً: وحدة الإرادة والعمل وخضوع الأقلية للأكثرية بحيث يمنع منعا باتاً أي تكتل داخل الحزب.
ويكشف هذا اللجوء إلى تسطيح فكرة التصويت وتلخيص نتائجها المتعلقة بالعمل التنظيمي، بخضوع طرف لآخر، جانباً مهماً من الاستبداد الذي يتم تبريره بالاتكاء إلى عملية تصويت قد لا تتكرر إلا مرة كل أربع سنوات في أحسن الأحوال، وأن يكفي تحقيق نسبة 50+1 لإخضاع نسبة 49% من الأعضاء الحزبيين واعتبارهم أقلية!.
والقضية ليست قضية استياء من انكشاف كون هؤلاء المشتكين “مجرد أقلية صغيرة” وبالتالي “ليس في الأمر انتهاكٌ للديمقراطية”، في محاولة تروتسكية لمعالجة المسألة، فالمشكلة تبدأ حين يتم التعامل مع ما نسبته 49% من القواعد الحزبية كمتلقين سلبيين تتاح لهم فرصة التعبير عن رأيهم مرة واحدة كل أربع سنوات من خلال المؤتمر العام أو الكونفرانسات المحلية، وليس أمامهم سوى الخضوع والتنازل التام والكامل عن حريتهم في التفكير والتعبير عن الرأي طالما أنهم قبلوا التأطر في إطار الحزب، عملاً بمبدأ “حرية المناقشة ووحدة العمل” هذا المبدأ الذي لا يتحقق شطره الأول إلا مرة واحدة كما سبق الذكر أو في نطاق ضيق من خلال الخلية الحزبية.
بينما يحق لهذه (الأقلية) الحزبية أياً كان حجمها في ظل الأنظمة الديمقراطية والليبرالية أن تمارس نشاطها بانضباط داخل التنظيم منطلقة من وجهة نظرها الخاصة لتروج لأفكارها، ساعية نحو تحقيق الأكثرية داخل الحزب، مع التزامها الطوعي والأدبي إن صح التعبير خارج إطار الحزب بما تم إقراراه في المؤتمر العام.
فالعلاقة بين المركزية والديمقراطية داخل الحزب لا تغدُ متكافئة، إذ ترجح كفة الديمقراطية مرة واحدة خلال السنين الفاصلة بين مؤتمر وآخر وغالباً ما تكون ديمقراطية شكلية يتم إعدادها بوسائل غير سليمة بتخطيط من قبل المركز الأوحد الذي يقود الحزب بناءً على ما تمنحه إياه المركزية من صلاحيات تخوله بشكل مطلق ممارسة كافة الإجراءات التي من شأنها أن تسهل له تمرير مشاريعه أياً كانت، ومن ممارسات هذه الأحزاب الماركسية والقومية أنها تستسهل عملية طرد الأعضاء الحزبيين كممارسة داخلية حيث لا تكون حاكمة، وأنها تعتقل وتعدم معارضيها حيث تحكم، إنها دون شك حالة طوارئ بالمعنى السياسي، معلنة داخل الحزب، ولم يتوان لينين في تعريف المركزية ودون تردد على أنها “حالة طوارئ ضد المصادر الكثيرة للتذبذبات السياسية” داخل الحزب.
إنه من الطبيعي، أمر نشوء تيارات وأجنحة داخل التنظيم الواحد، ومن الطبيعي أن تتنافس هذه الأجنحة داخل بيتها الحزبي بشكل ديمقراطي يتيح الفرصة أمام كل طرف ليحاول إقناع اكبر قدر من أعضاء الحزب بأطروحاته حول المسائل المختلفة، وهذا إن تحقق، فإنه أولاً يمكن القواعد الحزبية من المشاركة الفاعلة والتأثير المباشر في تحديد الخط السياسي للحزب من جهة وفي إعادة التأسيس المستمرة والمتجددة لأسلوب العمل السياسي والتنظيمي الذي يتطلب تغييراً مستمراً وفق المستجدات والمعطيات المحيطة بالحزب ودائرة نشاطه، ثانياً فإن هذا النهج ينقذ القرار السياسي من احتمالات احتكاره من قبل المركز، وثالثاً فمن شأن هذه العملية طرد ما بات يعرف بالسباتية في التنظيم من خلال تحريض القواعد بشكل مستمر للتدخل وفق آليات ديمقراطية في مختلف القضايا والقرارات.
كذلك فإن المركزية “الديمقراطية”، سبب أساسي في الانشقاقات التي تتعرض لها الأحزاب، حيث يمنع الظهور الطبيعي للأجنحة داخل الجسد الحزبي مما يؤدي إلى التصدعات التنظيمية، والحلول المبدئية تتلخص في توسيع الحياة الديمقراطية في مقابل المركزية الصارمة وإعطاء الدوائر الحزبية في مختلف المناطق مزيداً من الصلاحيات التنظيمية، وتقليص الفترة الفاصلة بين المؤتمرات العامة إلى سنتين كأقصى حد، ويفضل اعتماد مبدأ أغلبية الثلثين في عملية التصويت، والتأكيد على مبدأ التداول في قيادة الحزب، وكشف مداولات الحزب الداخلية أمام وسائل الإعلام أو إشراك أطراف أخرى حيادية، سياسية وثقافية، حسب ما تتيحه الظروف المحيطة، كي لا تتحول العملية إلى عملية انتظار صعود الدخان الأبيض أو الأسود كما هو معمول في كنيسة السيستين في الفاتيكان والتي تحيط عملية انتخاب البابا من بين 115 كاردينالاً بسرية وتكتم شديدين لكن ما ليس سراً أن العملية لا تتم إلا بموافقة غالبية الثلثين.
إن قبول هذه الإجراءات وحده سيضمن لأي حزب تطوره وتفاعله مع مراحل النضال الذي يبرر وجوده، وهذا وحده سيساعد الحزب في مواجهة التناقضات الداخلية والحؤول دون تحولها إلى أزمات وتعينه في نفس الوقت في التغلب على العقبات الخارجية التي تواجهه.
© منبر الحرية
……………………………………………………….
المصادر : “75 عاما على رحيل لينين /إصدار الاشتراكية الثورية”، “المركزية الديمقراطية /بضع كلمات حول نظام الحزب /تروتسكي”، “بين الديمقراطية المركزية والفوضوية هنالك ديمقراطية انضباطيّة!مقال/ سعيد نفاع”.
Amjad_ib@hotmail.com