توفيق عبد المجيد
من المعروف أن جميع الحروب في التاريخ غيرت المفاهيم التي كانت سائدة في منطقة حدوثها وأعادت النظر في بعض الدراسات الاستراتيجية ، التي تمت ترجمتها على أرض الواقع ، كما غيرت تلكم الحروب التاريخ والجغرافيا ، بهذه الترسيمات التي طرأت على الخارطة العالمية من مثل تكوين دول وإمارات ، وتقسيم اللاعبين الأساسيين على تلك الرقعة الجغرافية إلى مهزومين ومنتصرين ، ومن ثم ترتيب الأوضاع من جديد بما ينسجم مع أهداف الذين خرجوا من تلك الحروب منتصرين ، بحسب نظرية نابليون ( التاريخ يكتبه الأقوياء ) .
لن أتوغل كثيراً في تضاريس التاريخ لإلقاء المزيد من الأضواء على تلك الحروب التي غيرت مجراه ، ولكنني سأكتفي بما جرى من هذه الحروب في المنطقة التي نعيش فيها ، وكيف أثرت على الأنماط الثقافية ومنظومة القيم والمفاهيم التي كانت سائدة في المنطقة قبل وأثناء هذه الحروب ، أو العدوانات كما يحلو للبعض أن يسميها ، أو حروب الانتصارات التي فعلت كذا وكذا .
فلو استعرضنا أهم الحروب التي وقعت في منطقتنا ، أو فرضت علينا ، أو فرضناها على غيرنا في القرنين العشرين والحادي والعشرين لوجدنا أن المنطقة شهدت عدداً من هذه الحروب يأتي في مقدمتها الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948 والتي جرت في خضم الحرب العالمية الثانية ، وقد توقع ( بن غوريون ) حينذاك أن تؤدي هذه الحرب – من جملة ما تؤدي إليه – إلى قيام الدولة اليهودية ، التي أقيمت فعلاً ، فكان يقول: ( إذا كانت الحرب العالمية الأولى قد جاءت بوعد بلفور ، فالحرب الثانية ستأتي بالدولة اليهودية) .
أجل لقد برزت الدولة اليهودية إلى الوجود بعد قرار التقسيم رقم (181) الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام 1947 وقسم فلسطين إلى دولتين ؛ واحدة عربية والأخرى يهودية ، والذي رفضته الدول العربية ، ومن ثم شنت حربها الأولى على إسرائيل والتي خسرت فيها كل فلسطين .
ثم كانت حرب السويس التي وقعت أحداثها في عام 1956 والتي أطلق عليها في ذلك الوقت ( العدوان الثلاثي ) على مصر عندما اشتركت فيها إسرائيل إلى جانب فرنسا وانكلترا على خلفية تأميم قناة السويس وكان الإنذار الروسي الشهير للمعتدين ثم الوقفة التاريخية للسيد خروشوف إلى جانب العرب عندما ضرب المنصة بحذائه ، الأثر البالغ والحاسم على الغزاة ، فاضطروا إلى الرحيل عن الأراضي المصرية ، وعلى إثر هذه الحرب تبلور الموقف العربي في ذلك الوقت وغدا أكثر وضوحاً وتوجهاً نحو السوفييت والمعسكر الاشتراكي والاعتماد الأساسي عليه في التسلح مقابل التسلح الغربي والأمريكي لإسرائيل .
إلا أن هذا الانتصار لم يدم طويلاً عندما شنت إسرائيل عدوانها الخاطف والمبيت على الدول العربية المجاورة لها ، واستطاعت أن تكمل احتلال كل فلسطين والضفة الغربية وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان ، حيث أصيب العرب بنكسة شديدة بقيت آثارها حتى الآن ، وازدادت وتيرة الاعتماد على المعسكر الاشتراكي لكسب الدعم العسكري والسياسي وبرز التضامن العربي بوضوح إلى الوجود .
حاولت الدول العربية أن تعيد جزءاً من كرامتها التي أهينت في حرب حزيران ، وتحرك الوضع الراكد في المنطقة ، لتعيد القضية إلى واجهة الأحداث مرة أخرى بعد هذا الركود الطويل ، فكانت حرب تشرين عام 1973 والتي سماها بعضهم بحرب تحريرية ، وسماها آخرون بحرب تحريكية ، استرجعت فيها بعض الأراضي العربية المحتلة ومن ضمنها مدينة القنيطرة السورية ، ومن الجدير بالذكر أن العرب برزوا في هذه الحرب كقوة سادسة في العالم بعد أن استخدموا سلاح النفط للمرة الأولى ، ولكن هذا التلاحم العربي لم يدم طويلاً حيث اخترق السادات هذا الصف وانفرد عن السرب ليغني خارجه فكانت اتفاقيات كامب ديفيد .
أما في الحرب اللبنانية الإسرائيلية التي وقعت عام 1983 فقد استطاع الصهاينة أن يرحّلوا قادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس بعد أن وصل احتلالهم إلى مدينة بيروت العاصمة .
بعد هذا الاستطراد السريع والموجز لأهم أحداث المنطقة ، نقف عند الحرب اللبنانية الإسرائيلية والتي وقعت بعد أن تمكن حزب الله في شهر تموز الفائت ، وفي الثاني عشر منه تحديداً ، أن يؤسر جنديين إسرائيليين ، وأن يقتل ثمانية منهم ، وسأحاول قدر الإمكان معالجة هذا الموضوع الحساس والخطير متسلحاً بالحياد ، والموضوعية ، والعقلانية ، والرؤية الشمولية ، والنظرة الاستشرافية للمستقبل ، والتأمل الأكاديمي لما جرى ولما سيجري في هذه المنطقة ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن من يتبنى مثل هذه المواقف من قضية ملتهبة وبقوة في هذه المنطقة ، ثم ينفرد عن سرب التيار العربي العاطفي سيتعرض للكثير من النقد ، والتجريح ، الذي يصل أحياناً إلى حد التخوين ، وسيوصف بالسذاجة والجهل بقراءة التاريخ الذي تعودوا على قراءته كما يحلو لهم ، ناسين أو متناسين أن حركة التاريخ إلى الأمام دوماً حتى إذا عاكس مصالحهم ، كما سأحاول تنقيط الحروف ، وتسمية الأشياء بمسمياتها ، مخالفاً مرة أخرى منظومة المنطقة الثقافية التي كانت تسبغ على الهزائم أثواب الانتصارات ، لأنني شبه متأكد من أن معادلات كثيرة لا بد أن تتغير في هذه المنطقة ، وأن ملفات جديدة ستوضع على طاولة البحث عوضاً عن ملفات قد تهمل أو تتأجل وتتراجع إلى الخلف ، أو يلغى دورها نهائياً ، ثم تؤرشف في سلة التاريخ ، أي أن المشهد الذي سيتصدر المخططات التي تحاك للمنطقة سيكون مختلفاً جداً عن مشهد ما قبل الثاني عشر من تموز شاء من شاء ، وأبى من أبى ، وستفتح فيه كما قلنا ملفات جديدة لتحقيق أهداف تعثر تحقيقها في المنطقة لعدة أسباب قد يكون الخوف من تصدر الأحزاب الدينية للواجهة السياسية أبرز هذه الأسباب على خلفية نشر الديمقراطية في المنطقة ، أما الملفات التقليدية القديمة فسيعاد النظر فيها لكن ضمن رؤى مختلفة ، وشروط مغايرة لسابقاتها ، فقد بات من المسلمات والبديهيات أن مجريات الأحداث على الساحة اللبنانية كانت اختزالاً للصراع على منظومة متشابكة من المصالح الدولية والإقليمية المعقدة ، والمشاريع التي تعثرت أو أحبطت ، وأن جميع اللاعبين الأساسيين على هذه الرقعة حركتهم مصالحهم بالدرجة الأولى ، لخلق معادلات جديدة ، وهذا يتلاءم مع منطق التاريخ بغض النظر عن كونه يتعارض مع مصالح البعض ، فالتقت إرادات كثيرة ، وتقاطعت مصالح متشابكة لأكثر من طرف ، فكانت النتيجة هذه الحرب المدمرة لهذا البلد المسالم ، والتي تضافر الدوران الأمريكي والإسرائيلي مع التذمر العربي الخجول ، بشكل شفاف لا غموض ولا ضبابية فيه ، على دولة عربية صغيرة تختلف اختلافاً جذرياً عن غيرها من الدول العربية لأنها كانت تسمى ذات يوم ( سويسرا الشرق ) فكانت إسرائيل هي القابلة التي حاولت أن تخفف من آلام مخاض ولادة هذا الشرق الأوسط الجديد .
يتبع ………
21-8-2006