فأحداث آذار الأليمة لا تزال تشكل جرحاً لم يندمل بعد، لأنها خلقت حالة غير مسبوقة من الاحتقان، لم تتغذى فقط من حجم الضحايا وضخامة الخسائر، بل كذلك من طريقة تعامل السلطة مع تلك الحوادث التي وصفها بأعمال شغب، والتعامل مع ضحاياها من شهداء وجرحى ومعتقلين ومنهوبين، كخارجين على القانون، والامتناع عن فتح تحقيق عادل وشفاف لمحاسبة المسؤولين عن افتعالها ..
ومنذ ذلك الوقت حرصت تلك الجهات الشوفينية على إثبات حضورها، واستغلال أية مناسبة تتعلق بالشأن الكردي بقصد الإساءة والإرهاب، كانت آخرها احتفالات نوروز الرقة، لتقوم باستفزاز المحتفلين واستغلال ردود أفعالهم في ممارسة هواية إطلاق النار والقتل العشوائي، مما أثار هذه المرة أيضا استنكار واستهجان العديد من القوى السياسية ومنظمات حقوق الإنسان في الداخل والخارج، والتي أبدت قلقها من هذا الاستهداف المريب الذي لا تستطيع ذرائع السلطة، إخفاء بشاعته، وطالبت جميعها بتحقيق عادل لمحاسبة المدانين، ووضع حد للتشدّد الأمني الذي بات يشكّل السمة الأساسية للتعامل مع كل ما هو كردي، انطلاقاً من دوافع لم تعد تخفى على أحد، والتي تترافق مع محاولات تلك الجهات لاستعداء الرأي العام الوطني على الكرد والتشكيك بولائهم الوطني.
وتستمد تلك الدوافع أسبابها من عوامل متشابكة، تعاونت معاً لخلق حالة من الاغتراب تنعكس نتائجها الخطيرة على المجتمع الكردي على شكل تعبيرات لم تألفها الثقافة الوطنية الكردية، مثل الانعزالية والتطرّف، الذي انتعش أصلا مع علاقات السلطة بجهات كردستانية، أرادت منها ابتزاز الجوار الإقليمي، من جهة، وتحويل أنظار الكرد إلى الخارج الكردستاني، بهدف استنزاف طاقات الشعب الكردي، وإلهاء حركته الوطنية وإيجاد ما يلزم من المبرّرات اللازمة للتشكيك بولائه السوري، من جهة أخرى.
ورغم أن تلك العلاقات استنفذت أغراضها الآن، فإن السلطة لا تزال تشجّع ظاهرة الانعزال والشعارات المسلوخة عن واقعها، بطرق غير مباشرة لأن تـلك الشعارات تثير شركاءنا في الوطن، وتدفع النخب الثقافية والسياسية العربية أحياناً باتجاه الفهم الخاطئ للقضية الكردية، والاصطفاف إلى جانب النظام في تنكره لوجود قضية كردية، تحتاج إلى حل وطني، كما أنها تبرّر سياسة الحرمان والقمع التي تجيدها السلطة، ولا تتناسب قساوتها مطلقاً مع حجم حراك ديمقراطي سلمي متواضع هنا، أو احتفال فني صغير هناك..
مما يعني أن استهداف الكرد له أسباب أخرى تنطلق بعضها من الانتقام جزاءً على تفاعل الحراك الكردي مع النضال الديمقراطي العام، وعلى المشاركة الكردية في أطر المعارضة الوطنية، وخاصة إئتلاف إعلان دمشق الذي بني أصلاً على خلفية اليأس الذي خيّم على القوى الوطنية المؤتلفة من إمكانية الإصلاح، والاعتراف بالآخر السياسي والقومي، ومن إطلاق الحريات العامة، بما في ذلك يأس الجانب الكردي من تفهّم السلطة لقضيته وإمكانية إيجاد حل ديمقراطي عادل لها في المدى المنظور، خاصة في ظل دعم سياستها المنتهجة حيال الشعب الكردي بمزيد من القوانين والمراسم الإستثنائية التي لا تستثني أحداً في المجتمع الكردي المهدّد بالتفكّك والفقر والهجرة الاضطرارية، مما ينعكس ضرراً على تطوره الاقتصادي والثقافي وحراكه السياسي، ويخلق بيئة خصبة وموبوءة بكل أشكال الانحراف، بما في ذلك التطرّف الذي نؤكد، مرة أخرى، على مسؤولية السلطة في إنعاشه من خلال الإمعان في تطبيق المشاريع العنصرية وإنكار الوجود الكردي والتنكّر لحقوق وعدالة الحركة الكردية، والتهرّب من الاستحقاقات الوطنية..
جميعها تخلق حالة من اليأس وتضعف أواصر الانتماء الوطني، وتهدّد مصداقية السياسة الموضوعية التي تنتهجها الحركة الكردية، بمختلف أطرافها.
تلك السياسة التي تستحق الاحترام والتجاوب من قبل السلطة لأنها تعبّر عن إرادة شعب مظلوم ومضطهد لن يكون مصيره حالة شاذة في التاريخ، فالشعوب لا تبقى محرومة إلى الأبد، والكرد في سوريا لن تنقصهم مقوّمات الصمود في وجه محاولات الصهر والقهر، وأن المستقبل كفيل بجلاء الحقيقة الكردية، وبخطأ الحسابات الشوفينية، وأن حتمية فشل سياسة التمييز لا تحتاج للمزيد من الأدلة، وأن ذلك المستقبل ليس ببعيد، وأن تلك الدلائل تؤكد بأن الضغوطات الممارسة منذ سنوات لم تنل من إرادة الوطنيين الكرد، ومن إيمانهم بقضيتهم وثقتهم بحلفائهم الكثيرين في هذا الوطن، الذي لا يعيش خارج التاريخ، وأن ما يجري حول هذا الوطن من تطورات ليست بعيدة عنا، وأن علينا أن نأخذ منها العبر والدروس، فالعراق كبلد، يفتخر الآن بتجربته الإنتخابية الأخيرة التي وفّرت للمنطقة عموماً فرصة نادرة لإمكانية التغيير الديمقراطي السلمي ولسهولة تداول السلطة، وأعطى بذلك درساً بليغاً زاخراً بالتنوّع السياسي والمذهبي والقومي، فالكرد هناك يتجهون إلى بغداد للمشاركة في صنع مستقبل العراق، وأن الكرد في سوريا أيضاً ينتظرون أن تفتح أمامهم أبواب دمشق السياسية لكي يستعيدوا قدرتهم على التضحية في سبيل وطنهم.
كما أن مبادرة آردوغان الديمقراطية رغم ما تعيقها من عراقيل واعتراضات العسكر والقوميين المتشدّدين، فإنها تتحرك نحو النجاح، بعد أن فتحت الحكومة فضائية كردية تشجّع الفولكلور الكردي وتحمي وتطور اللغة الكردية، وبعد أن فاق عدد البرلمانين الكرد المائة في البرلمان التركي، وبات الاعتراف الدستوري بالوجود القومي الكردي مسألة وقت.
وبالتأكيد فإن الآفاق المفتوحة هناك تجعل من إغراق الجانب الكردي السوري في العتمة، والشطب على الحقيقة الكردية، والإصرار على إخضاع الكرد لسياسة تمييز قومي عفا عليها الزمن، أمراً غير مقبول على الإطلاق.
فالتضييق على احتفالات نوروز ومنع تداول اللغة الكردية مثلاً لا يفيد أحداً سوى أعداء العيش المشترك، في حين يعبّر الامتناع عن إعادة الجنسية للمجرّدين منها، عن مجرد نزعة الإساءة للأخوة العربية الكردية والإساءة للوطن الذي سيظل جميلاً بألوان مكوّناته..
ولن تستطيع السياسة الشوفينية إجبار الحركة الكردية أن تحيد عن خطّها الوطني، وستظل تنطلق من مصلحة الشعب السوري، بما فيه الكردي، ومن مصلحة الداخل الوطني، بعيداً عن الأجندات الخارجية.
كما ستظل وفيّة لوثيقة الشراكة الوطنية، لتصون وحدة سوريا وسيادتها وتنتهج النضال الديمقراطي السلمي، الذي سيبقى طريقنا للمستقبل.
* الجريدة المركزية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)– العدد (200) آذار-2010