الكرد وأزمة التفكير العقلاني

حسين عيسو

تطور فكر الانسان الأوربي حين استخدم النقد واكتشف أن الفكر العقلاني في جوهره فاعلية نقدية , وأن العقل اذا لم يستفزه النقد يستكين للواقع , صحيح أنهم في فترة القرون الوسطى استكانوا للفكر المسيحي ونظرته للعالم الدنيوي بأنه فاسد ومؤقت وتحضير لحياة الآخرة الصالحة في ملكوت السماوات , وأن المشاركة في الصلوات بدل الواجبات المدنية كانت تدل على الانسان الصالح , الا أن الارث الأوربي في الفكر النقدي , وخاصة اليوناني الذي كان أقدم من وصول المسيحية اليهم بكثير نبهت المثقفين الى أن الكنيسة تمادت في النيل من فكره وحولته الى شبه آلة تتقبل كل ما يأتيه منها مثل “براءات الغفران” فظهر فيهم مارتن لوثر الذي انتقد الكنيسة في القضايا الخمسة والتسعون , ومن بعده جون كالفن , وعاد العقل الأوربي الى حقيقة أن المعارف البشرية بحاجة دائمة الى نقد منهجي لتصحيح الأفكار وتطوير النظريات , فظهر فيهم مارتن لوثر وجون كالفن وعصر النهضة ثم الأنوار , ليصلوا الى ما هم فيه اليوم.
فالشعوب التي اعتمدت الفكر النقدي كآلية لمراجعة تصرفاتها واكتشاف ما فيه من أخطاء , حفزت العقل للتمييز بين ما في موروثها من ايجابيات وسلبيات وبذا تمكنت من التعرف على ذاتها وتلمس مشكلاته لتصحيحها وابتداع الطرق الخلاقة من أجل بناء مستقبل أفضل , فمهمة النقد ليست رسم صورة جميلة للماضي أو الحاضر , وإنما هو مرآة المجتمع التي يجب أن تعكس صورته الواقعية بكل ما فيها من سلبيات بحيث يتمكن ذاك المجتمع من إصلاحها , فبدون النقد وإصلاح الأخطاء , يبقى مسار التاريخ دائريا , أي نبقى ندور ضمن الدائرة دون الاستفادة منه , يقول فيخته : “التاريخ هو الإجابة على منشأ الحالة الحاضرة , والبحث في الأسباب التي أوصلت دنيانا الى ما نحن فيه اليوم” فالحاضر نتاج الماضي وإرهاص بالمستقبل , وحين يعيد التاريخ نفسه فهذا يعني أننا لم نستفد من عبره ويبقى مساره دائريا , ويصبح مساره طوليا الى الأمام اذا تفادينا الأخطاء واستفدنا من الانجازات ليبني كل جيل على انجازات الأجيال السابقة كما يقول “كانط”.


بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 وهزيمة صدام حسين أمام جحافل التحالف ثم انكفائه الى داخل العراق حيث انقلب على الشيعة بداية ثم الكرد فهجَّر أكثر من مليون منهم الى داخل الحدود التركية , يومها كانت تغييرات عديدة قد بدأت في العالم والمنطقة فقد تفكك الاتحاد السوفييتي وتبدلت التحالفات في منطقتنا , فإيران أصبحت دولة شقيقة وإسرائيل جارة وتركيا صديقة ولأن هنالك كتابا يعتاشون من كتاباتهم في الصحف وأغلبهم يعملون لدى تلك الصحف فعمن سيكتبون , نظر أولئك الكتبة حولهم فلم يجدوا غير الكرد وهم أضعف الحلقات في المنطقة ليصبوا عليهم اللعنات , فهم سبب كل بلايا الأمة العربية من محيطها الى خليجها , وكأنهم من حرضوا أوربا والغرب وأسسوا التحالف الدولي لضرب العراق حامي البوابة الشرقية التي لم تعد ايران الطرف المعادي فيها , لذا كان الكرد كشعب وحيد تستطيع أن تتهمه بما شئت دون أن يكون هنالك من يستطيع الدفاع , فلم تكن هنالك في تلك الأيام لا انترنت ولا فضائيات ولا من يحزنون والكرد العراقيون لاجئون الى دولة معادية أخرى وهي تركيا وقادته موزعون بين دول العالم , فلا معين حتى جبالهم لم تعد صديقة لهم , يومها كنا نعمل في السعودية , وأسسنا “رابطة المثقفين الوطنيين الكرد” وكانت تتألف من المرحوم عادل يزيدي وأنا وشخص آخر من الكرد المقيمين هناك , الا أن ذلك الشخص انسحب بعد أيام لأسباب خاصة فلم يبق غيري وعادل , وكان عملنا يتلخص في إرسال البيانات بداية باسم الرابطة الى إذاعات لندن وصوت أمريكا وبعض الصحف العربية , والعمل على نشر الوعي حسب إمكاناتنا المتواضعة بين العمال الكرد هناك , بأن الفضية الكردية لن تنتهي بتهجير كرد العراق أمام صمت العالم الغربي المنافق , وأن اليأس وحده هو القاتل , ومن جهة ثانية كان هدفنا هو الرد على كل الأقلام العنصرية التي حاولت أن تنال من الكرد وتاريخهم , وللحقيقة أقول ولأن أخي عادل اليزيدي انتقل اليوم الى دار أخرى , وحتى أكون صادقا مع نفسي ومعه , فقد كان الرجل أجرأ مني وأكثر حركة بما لا يقاس , فتنقل هو بين الإذاعات العالمية وفيما بعد الى الفضائيات مدافعا شرسا عن حقوق شعبه المغلوب وما يتعرض له من مصائب , أما بالنسبة لي فقد كان عملي وكما كان يفعل عادل أيضا فهو الرد على الأقلام العنصرية التي لم تجد غير الكرد لبث سمومها فيه بعد أن لم يبق في المنطقة غير الكرد يجوز التهجم عليهم دون رادع , يومها كتب “غسان الإمام” وهو أحد الكتاب في جريدة الشرق الأوسط  مقالة بعنوان ” من تكريد أوربا الى استكراد أمريكا” , نفث كل أحقاده في الكرد يومها وكان ردي عليه قاسيا , لا شاتما وانما دحضا لما يدعيه , وهكذا استمرت المناوشات بيني وبينه على صفحات الشرق الأوسط التي وللحقيقة كما كانت تنشر مقالاته كانت تنشر ردودي القاسية أيضا , بعد حذف بعض الجمل ولكنها كانت تثبت ديمقراطيتها وأنها مع الرأي والرأي المخالف أيضا , الى أن كتب الرجل وبعد أسابيع مقالة بعنوان “ماذا يعطي المظلوم للمحروم” أي العرب للكرد وقرأت في مقالته تلك اعتذارا عما ذهب اليه , فسكتت المناوشات السجالية بيننا والتي استمرت من 23-04-91 الى 09-07-91 , وهكذا استطعنا أن نرد كل من جانبه وباسمه الحقيقي على كل أولئك وكانت صحف الشرق الأوسط والحياة تنشر ذلك بموضوعية رغما أنها وكما ذكرت كانت تنشر لنا ضد كتاب يعملون لديها , لكن المشاكل بدأت معي حين اقتربت من الممنوع , أي حين حاولت نقد الذات أي ال “نحن”  يومها فُفتحت النار علي من كل صوب , فأن أنتقد الآخر شيء جميل , لكن انتقاد قياداتنا المعصومة وما نعانيه من مآسي فهي جريمة .
تذكرت أمس كيف أن المتنور الإسلامي المصري “محمد عبده” حين حاول “قبل مئة عام” خوض المعركة على جبهتين: أولا ضد الهجوم على الإسلام كعقيدة ومن جهة أخرى ضد رجال الدين الرجعيين , في محاولة لتنوير عقولهم فثار عليه شيوخ الأزهر رافضين دعوته للتجديد , واستمر محمد عبده رغم هجمات المغرضين , معربا عن أمله في تنوير العقل المصري لكن تكاثرت عليه الهجمات من رجال الدين وأزلامهم وقذف بأقذع الشتائم لإسكات صوته , حتى لا يوقظ الشعب المصري المغلوب من سباته , وقبله تعرض أستاذه الأفغاني الذي قال : “لا يمكن أن تحكم العلم بالجهل” للكثير من الاتهامات , بعد ذلك وفي كردستان العراق تعرض كل من عبد الله كوران ويونس دلدار الى الهجوم والتشنيع والاتهامات أودت بأحدهما الى السجن والآخر توفي في ظروف غامضة , وفي العام 1970 حين تأسست “حركة راونكة” الأدبية على يد كل من الشاعر شيركوه بيكس والقاص حسين عارف وغيرهم والتي حاولت خض الواقع الفكري والثقافي الكردي بعيدا عن الولاءات السياسية الحزبية والاجتماعية , ودعوتهم الى تحرر المرأة , تعرض مؤسسوها للتهديد بالقتل , ليس من الحكومة العراقية , بل من رجال الدين والأحزاب الكردية النافذة يومذاك , وخرجت فتاوى من مساجد السليمانية  تقضي بإهدار دم مؤسسي “راونكة” , كل ذلك حصل رغم أن لدينا أمثالا لو فهمناها وعملنا بها لما كنا في ما نحن فيه اليوم وقد كررته أكثر من مرة وأحدها يقول بعد ترجمته الى العربية : “صديقك ليس من يضحك في وجهك ويمدحك” وأرى أن هذا المثل يعني النقد بعينه , لكن حين انتقد أولئك الناس الواقع المزري لشعبهم تعرضوا لما ذكرت.
منذ أيام وحين حاولت الاقتراب من الممنوع أي نقد الذات “النحن” بنقد محاضرة لأحد الأحزاب ثم بعدها انتقدت قرارات مؤتمر حزب آخر نشرت بعض الردود التي تنتقد ما ذهبت اليه وهذا أمر طبيعي , فمن يدعي امتلاك الحقيقة جاهل , يقول سقراط بأن أهم اكتشاف وصل اليه هو “أنه يعرف بأنه لايعرف” .

لكن من بين تلك الردود التي نشرت كانت إحداها باسم “خسرو آزيزي” لم تكن نقدا لرأيي وانما مجرد اتهامات لي , وقد فندنها واحدة واحدة , ثم نشر ردا جديدا وفيها وبعد أن اتهمني في رده الأول بأني مناضلي رياض الترك , أي شيوعي , هذه المرة غير رأيه واكتشف بأني من مناضلي يكيتي الأشاوس “أشاوس أوربة” كما قال , ومع أني قلت له في ردي الأول عليه بأني رغم انتقادي لهما فاني قريب من الحزبين وكوادرهما وأن النقد ليس شتيمة بالنسبة لمن يفهم , لم يأبه لذلك وانما أراد الرد وهذه المرة وصل الى اكتشاف جديد وهو “أني لا أعترف بقرابة برلماني وقف مع السلطة في آذار الدامي ووصل الى مجلس الشعب” , غريب هذا الرد فمن قال بأني لآ أعترف بهذه القرابة التي يعرفها الجميع وليست سرا , وأكرر واقول نعم هذا صحيح ومن ليس له قريب بهذا الشكل “خاصة بين الكرد السوريين” فليرميني بحجر , ومع أني لا ألتفت الى هكذا كلام بل وأرثي له , سواء كان شخصا أو جهة , لكني أقول أن استخدام الاسم “خسرو” قصد به اهانة شخصية عظيمة في التاريخ الكردي ألا وهو كيا خسرو مؤسس الامبراطورية الميدية , وثانيها الكنية “آزيزي” أي قرابة الاسم لي عشائريا وهذا أيضا أراه نوعا من الاستهتار , فنحن ككرد توقعنا أننا خرجنا من هذه القوقعة , لكن أرى القصد من وراء ذلك كله هو الهوبرة !, هنا وحتى أقطع الطريق على اكتشافات جديدة للسيد “خسرو” أقول له أن اسمي في الهوية هو حسين العيسى والسبب في تبديله الى حسين عيسو لم يكن لأسباب عنصرية لكن الحقيقة هو أن أحد الكرد رد علي ذات مرة برسالة يشكرني فيها على رد حاسم لي ضد أحد الأقلام العنصرية , موجها الشكر فيها الى الأخ العربي الشهم حسين العيسى , متوقعا بأني أنتمي الى عائلة سعودية معروفة بهذا الاسم ولأني كنت أعمل في السعودية وعنوان الفاكس من السعودية لذلك وحتى لا يحصل أي التباس استخدمت اسمي حسين عيسو وما زلت.

 
 يبقى الاصرار الثاني من السيد “خسرو” هو رأيي في حق تقرير المصير للكرد هنا لن أريح هذا الاسم وأقول له انني لست في محاكمة أو مقابلة صحفية , تنتقدني انتقد , ولكنك لست مسؤولا عن رأيي , وأن كل الهوبرات لن تمنعني من نقد أي رأي أراه وحسب معرفتي خاطئا أيا كانت علاقتي مع تلك الجهة أو ذاك الحزب ولأني أعتبر جميع الأحزاب الكردية في سوريا تمثلني أمام الآخر السوري وأتأثر به , أيا كان رأيي فيها , وأن النقد دليل صحة وتطور فكر .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

زاكروس عثمان ما كاد الكورد ينتشون بهروب الرئيس السوري السابق بشار الاسد وسقوط نظام حكمه الدكتاتوري، حتى صدموا سريعا بمواقف و تصريحات مسؤولي مختلف اطراف ما كانت تسمى بالمعارضة السورية والتي غالبيتها بشكل او آخر تتبنى الموقف التركي من قضية كوردستان ڕۆژئاڤا و هو الرفض والانكار. السوريون من الدلف إلى المزراب: اذ بعد هيمنة هيئة تحرير الشام على…

شكري بكر لو أردنا أن نخوض نقاشًا مستفيضًا حول الواقع السياسي لحزب العمال الكوردستاني، يمكننا إعطاء صورة حقيقية لكل ما قام ويقوم به الحزب. سنجد أن الأمور معقدة للغاية، ومتورطة في مجموعة من الملفات الدولية والإقليمية والكوردستانية. يمكن تقريب الصورة عبر معركتي كوباني وشنكال، حيث يتضح أن “كل واحد يعمل بأصله”، دون الدخول في تفاصيل وقوع المعركة في مدينة كوباني…

في اللقاء الأول بعد سقوط الاستبداد ، والأخير للعام الجاري ، للجان تنسيق مشروع حراك ” بزاف ” لاعادة بناء الحركة الكردية السورية ، تم تناول التطورات السورية ، وماتوصلت اليها اللجان مع الأطراف المعنية حول المؤتمر الكردي السوري الجامع ، والواردة في الاستخلاصات التالية : أولا – تتقدم لجان تنسيق مشروع حراك ” بزاف ” بالتهاني القلبية الحارة…

بعد مرور إحدى وستِّين سنةً من استبداد نظام البعث والأسدَين: الأبِّ والابن، اجتمعت اليوم مجموعةٌ من المثقَّفين والنّشطاء وممثِّلي الفعاليات المدنيَّة الكرديَّة في مدينة «ڤوبرتال» الألمانيّة، لمناقشة واقع ومستقبل شعبنافي ظلِّ التغيُّرات السياسيّة الكُبرى التي تشهدها سوريا والمنطقة. لقد أكَّد الحاضرون أنَّ المرحلة الحاليَّة تتطلَّب توحيدالصّفوف وتعزيز العمل المشترك، بعيداً عن الخلافات الحزبية الضيِّقة. لقد توافق المجتمعون على ضرورة السّعي…