عمليةُ عضِّ الأصابع لاتزالُ مستمرة مابين النخب السياسية التركية الديمقراطية منها والطورانية حول الإنفتاح على القضية الكردية !!.

بابليسوك حسين

عندما أراد أتاتورك خلع العمامة الإسلامية ، وارتداء القبعة الأوربية ، لجأ إلى إحراق آلافِ الأطنان من الكتب الدينية ، ومشَّط الواقع الإجتماعي التركي من مظاهر الدين والتدين ، واستورد بدلاً من ذلك الثقافة الغربية المتمثلة في الديمقراطية والعلمانية ، ساعياً إحداث تغييرٍ بنيويٍّ في المنظومة الثقافية ، والإجتماعية ، والإخلاقية التركية .

غير أنَّهُ أجبر الديمقراطية والعلمانية أن يمرَّا تحت ” بندقية العسكر ” بحجة الحفاظ على العلمانية ، وتماسك الدولة ، وصيانة الإستقلال .

وهو الأمر الذي أضفى على الأجواء السياسية دوماً التوتر الذي كان يصل في بعض الأحيان إلى الصدام ، وإراقة الدماء .

ومع ذلك بقيت الحكومات المتعاقبة منذ عام ألف وتسعمائة وثلاثة وعشرين وحتى اليوم متمسكة بما استورده كمال أتاتورك من الغرب.
وفي الوقت نفسه ظلت تلك الحكومات تتجاهل القضية الكردية تجاهلاً كاملاً ، وتنعت ملايين الأكراد بأتراك الجبال.

ولتثبيت مفاهيمها الطورانية كانت تغرق المناطق الكردية في كثير من الأحيان بدماء أبنائها ، وتعمل لإبعادها عن يد الإعمار والتطوير والتقدم ، وتسعى أجهزتها المختصة لبثِ مفاهيم دينية قروسطية بين صفوف أبناء الشعب الكردي، وإلهائهم بأمور لم تكن تمت إلى القضية الكردية لامن قريب أو من بعيد.
وعلى الرغم من أنَّ الراحل توركوت أوزال قد سعى لحلحلة القضية الكردية في تركيا تحت ضغوطات حزب العمال الكردستاني من جهة ، وظهور مستجدات على الساحة الدولية من جهة أخرى.

غير أنَّ أيدٍ خفية قد أنهت حياته تحت عنوان القضاء والقدر.

ومع نجاح حزب العدالة والتنمية في الإنتخابات التشريعية للمرة الثانية ، وتمكُّنِ حزب المجتمع الديمقراطي الكردي من تخطي حاجز الأخطاء والعثرات ، واستلام ثمانية وتسعين بلدية في المناطق الكردية عن طريق صناديق الإقتراع .

أقدمت الحكومة التركية برئاسة أردوغان من الإقدام على خطوة جريئة خطتها في ” حقل ألغام ” صنعته الأوساط الطورانية في مخيلتها عبر بث ماهبَّ ودبَّ من الدعايات والأكاذيب الملفقة والتي جعلت القضية الكردية بمثابة خطر ماثل يهدد الوجود التركي.
غير أنَّ حكومة أردوغان استطاعت أنْ تفتحَ ثغرةً في جدار ” القلعة ” الكمالية المسوَّرة بالأمن والعسكر ، والإنفتاح على كرد تركيا ، والإعتراف المعلن بالهوية الكردية وثقافتها ، متخطية بذلك ” إرث ” طويل من الحقد ، والإستكبار ، والجرائم بحق الشعب الكردي والأقليات الأخرى ، ومتحدية كذلك توجهات المؤسسة العسكرية الرافضة جملة وتفصيلاً لهذا التوجه .

ولهذا بدت اللوحة السياسية االمسيطرة على المشهد التركي تشي بملامح صراع حادٍّ وعميق بين النخب السياسية في حزب العدالة والتنمية وبعض القوى والأطراف والشخصيات المتنورة من جهة ، ومن بين الحرس القديم المشبع والممتلئ بأفكار ومبادئ كمال أتاتورك القديمة من جهة أخرى .

وتمكن هذا الأخير مع بعض القوى القومية الطورانية من استصدار القرار الصادر من المحكمة الدستورية بحلِّ حزب المجتمع الديمقراطي الكردي .

الأمر الذي يشي باستمرار عملية عض الأصابع بين الطرفين تبعاً للتغيرات الدولية ، والقوى الداخلية الداعمة لهذا الطرف أو ذاك .
وإزاء المشهد كان من المفترض بالقوى الكردية السياسية ، والمدنية ، والشرائح العلمانية والديمقراطية ، وخاصة حزب العمال الكردستاني تفهم خصوصية ” الوضع ” ، وتقبل الوضع الجديد على علاته ، بهدف العمل والنضال في الشارع التركي بغية غسل وتنظيف أنفاق ، ودهاليز ، ومساريب الوعي لدى كثير من النخب والشرائح الإجتماعية التركية مما علق بها من لوثة العنصرية الطورانية .

وذلك بسياسات معتدلة وواقعية تتفهم الوضع الداخلي ، والإقليمي ، والدولي ، وتتخلى ـ وفي هذا الظرف الحساس والدقيق ـ عن السياسات الغائمة والمضطربة ، والإبتعاد بقدر الإمكان عن ” الشخصنة ” لمِا لها من مضارٍ على مسار القضية الكردية.
 فالمظاهرات ، والإعتصامات ، والإنتفاضات في هذا الوقت بالذات يجب أن تصبَّ كلَّها في مجرى ومسار الحقوق والمطالب .

لا لأنَّ الشعبَ الكرديَّ لايقدِّرُ زعماءَهُ .

بل لأنَّ الزعيمَ ، والقائدَ ، والشهيدَ ، والمفكرَ ، والعبقريَّ كلَّهم جزءٌ من متتممات القضية المقدسة ، وكلُّ السواقي يجب أن تتجه نحو الرافد العظيم لا إلى الشخص مهما كانت قدراته فذة ، ومواهبه نادرة .
ومهما كان قرار المحكمة الدستورية التركية ومفاعيلها ، فإنَّ من الحكمة والكياسة السياسية استيعاب الوضع ، والإلتفاف القويٍّ حول الحزب الكردي الجديد الذي سيولد بعد القرار الصادر من المحكمة الدستورية  بهدف استقطاب الشارع الكردي حوله ، وتشكيل قوة جماهيرية ديمقراطية تسطيع كسب الرأي العام التركي أولاً ، والقوى المحبة للسلم والديمقراطية في العالم ثانياً ، وإقناع الإدارة الأمريكية والأوربية ثالثاً ، بأن الشعب الكردي قادر ، وبأساليب ديمقراطية حقيقية من تفهم خصوصية المرحلة ، والدفاع السلمي الديمقراطي  عن حقوقه القومية المشروعة.
وبموازاة ذلك فإنَّ النخبَ السياسية الكردية في تركيا مطالبة تفهم هذا الإنفتاح ، وتقبل ماأفرزته من إعتراف بالهوية الكردية وثقافتها ، وعدم الركون إلى اليأس والعدمية إزاء القرار الصادر من المحكمة الدستورية ، والعمل على دعم هذا الإنفتاح لدى النخب السياسية التركية المنفتحة على القضية الكردية ، وخاصة لدى حزب العدالة والتنمية ، لأنَّ ذلك يكون بمثابة ” الخطوة الأولى على مسافة الألف ميل “.


أما أن ينزل مثقفونا وكتابنا إلى ساحة العراك ، مدججين بكم هائل من المسبات والشتائم ، معتقدين أن كل العالم مضطلع على مايدبجونه من قصائد هجائية ، يشتمون فيها الولايات المتحدة الأمريكية ، والشعب التركي ، ناسين أو متناسين بأن وقود السياسة هي العلم والمعرفة والمهارة ، لاالبكاء واللطم ، والمسبات والشتائم ، وإنما تفجير الواقع بالمظاهرات السلمية ، والإضرابات ، والإعتصامات ، والإحتجاجات ، عبر إنزال مئات الآلاف من أبناء شعبنا الكردي إلى الشوارع على مدار الساعة في كبرى المدن التركية والكردية ، وهو ماسيوفر ، حتماً ، الدواء الناجع للجرح الكردي النازف.
ونعتقد أن مئات الآلاف من الأصوات التي أوصلت المرشحين إلى البرلمان ، وإلى البلديات لهي قادرة إلى إيصال صوت الحق إلى مراكز القرار في العالم وفي تركيا بالذات.

19.12.09 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…