على هامش الحدث السويسري ثلاث ملاحظات في (الاتساق والدولة)

رستم محمود

ـ 1 ـ
إن كان الاستفتاء السويسري حقاً يشكل انتهاكاً لحرية المعتقد، ولا يخدم ثقافة العيش المشترك، بل يغذي ثقافة القلق والارتياب والكراهية في المجتمع، ولو كان مذموماً من حيث المبدأ، لأنه عرض أحد مكونات حقوق الإنسان لفكرة الاستفتاء ـ بنود حقوق الإنسان معطيات قبلية ومطلقة وغير قابلة للإلغاء حتى عبر السنن والقوانين حسب الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ـ وإن كانت تلك الفعلة تشكل نمطاً رثاً للممارسة الديمقراطية.

ولو كان الاستفتاء السويسري مستبطناً لكل تلك النعوت وأكثر، فهل ذلك مباشرة يعني أنه من حق أي كان أن يشجب ويذم ويقدح بتلك الممارسة السويسرية من موقع نصائحي ووصائي ومتعالي.
فأي اتساق ذهني عقلي، وثقافي أخلاقي، يسمح لدولة ـ لاحظ دولة بكل اتزانها وليس فردا بحرية آرائه ـ لا تسمح بإعادة ترميم الكنائس القديمة، ولا يرتفع فيها رتبة الضابط المسيحي أكثر من نقيب، كالدولة التركية؟ كيف لوزارة خارجيتها أن تصدر بيان تقول فيه: (القرار يعد تطوراً خطيراً مناهضاً للقيم الإنسانية الأساسية والحريات والتنوع الثقافي والتسامح واحترام حقوق الإنسان الأساسي التي تحمل أهمية كبيرة للهدوء المجتمعي والسلام)؟ فهل الممارسات التركية بحق مواطنيها المسيحيين ـ وهم مواطنون أصليون وليسوا مهاجرين على نمط المسلمين السويسريين ـ هي التي تحرض على التسامح واحترام حقوق الإنسان والهدوء المجتمعي؟!.

وهل لدولة كالدولة المصرية، ما زالت تطبق قانوناً عثمانياً قروسطياً، فيما يخص شأن المباني الكنسية، حيث لا يحق للمواطنين المصريين الأقباط حتى تعديل بعض المباني في كنائسهم إلا بموافقة رئيس الجمهورية، هل يحق للمؤسسات الرسمية لتلك الدولة أن تشجب الفعلة السويسرية، وأن تصدر مؤسستها الدينية الرسمية بياناً تقول فيه: (لقد سمعنا بأسى بالغ عن هذه المبادرة التي لا تعتبر هجوماً على حرية الاعتقاد فحسب، بل أيضا محاولة لإهانة مشاعر المجتمع الإسلامي داخل سويسرا وخارجها، أنه قرار يؤدي الى بذر بذور الكراهية والتمييز ضد المسلمين في سويسرا).

أليست الدقة والحصافة والاتساق الأخلاقي والعقلي يفترض أن ينطبق مضمون ذلك البيان والموقف بالضبط على ما يمارس بحق المواطنين المصريين الأقباط.

وكلام قريب من ذلك يمكن ان يقال بحق باكستان وإيران والعربية السعودية والسودان… الخ.

حيث كانت مواقفها من ذلك الحدث نوعاً كاريكاتورياً من الانفصام العقلي والأخلاقي تجاه الحدث السويسري، وهو ما يحدث بحقها كدولة، من المفترض ان تكون أكثر اتزاناً وعقلنة واتساقاً من مواطنيها، الذين في هذا الشأن يمكن لك ان تتحدث عنهم ولا حرج.

الممارسة السويسرية سيئة، لكنها ابداً لا تعني أن الأسوأ بات في مكانة افضل.

ـ 2 ـ
الكثيرين انطلقوا في شجبهم وقدحهم من منطلق أن سويسرا (دولة حيادية)، وأن هذا الفعلة لا تليق بذلك الحياد.

السؤال الموجه لهؤلاء الذين بنوا موقفهم على ذلك الأساس: سويسرا حيادية بالنسبة الى ماذا؟.

هل كانت سويسرا كدولة، يوما ما حيادية تجاه قيمها العامة، أم كانت سويسرا حيادية بالنسبة لمواقفها السياسية الخارجية تجاه الصراعات الأوربية.

بقول آخر، هل سويسرا حيادية بالنسبة للصراع السياسي بين الجارتين الالمانية وفرنسا مثلا، أم أنها حيادية حيال الصراع بين القيم الراديكالية والليبرالية بين مكونتها المجتمعية والقانونية والدستورية الداخلية كمثال آخر.

الصحيح أنها حيادية تجاه الموقف الأول، وهو منبع حياديتها كدولة.

لكنها بالتأكيد كدولة ليست حيادية تجاه الموقف الثاني، لأنها تملك مجموعة من الاعتبارات الفكرية والسياسية التي تبنى عليها كيانيتها كدولة.

وافتراض القادحين ان الدولة السويسرية يجب ان تكون حيادية تجاه كل القيم، وأيا كانت، يفترض سلفا في باطن وعي القادحين، إحساساً بوجود صراع ما بين تلك القيم، وهي القيم المسيحية والإسلامية في النموذج السويسري، وهذا هو منبع تصور وجود صراع للحضارات في باطن وعيها.

وقد كان دلالة ما قاله المفكر الإسلامي العراقي الدكتور طه جابر العلواني لأحد الصحف السويسرية عميقة في هذا المنحى، قال: (لماذا تصبح اليهودية ـ وهي غير النصرانية ـ جزء من تلك الهوية الوطنية ويعترف بالأقلية اليهودية، ولا يلتفت الى أن الأقلية المسلمة في وجودها، لا ينبغي أن تكون أقل شأناً في التأثير في الهُوية السويسرية من اليهودية، هذا ليس حياداً).

الحياد السويسري سياسي وليس قيمي، والافتراض بغير ذلك الاتساق يعني ممارسة فجة لصراع الحضارات.

وكيف لمن يمارس صراع الحضارات ان يحبذ الحياد في الآخرين!.

ـ 3 ـ
بالرغم من موقفها غير الشعبوي، واتخاذها لموقع إيجابي، فإن الحكومة السويسرية انزلقت بذاتها الى ذلك الشكل من المخاتلة، حينما طلبت من بعض الدولة ذات الأغلبية المسلمة التدخل لدى مواطنيها المسلمين السويسريين.

بل وذهبت الى المقارنة بين الحالة الحميدة لمواطنيها المسلمين وغيرهم من المسيحيين في البلاد ذات الإسلامية!! ـ السؤال الذي كان وجهه موقع www.swissinfo.ch الرسمي الى بعض المفكرين من المناطق الإسلامية كان: لماذا لا تنال الأقلية المسيحية في البلدان الإسلامية نفس الحقوق، ولا يتم التعامل معها بنفس الأريحية التي يطالب بها المسلمون في بلداننا؟ ـ فهل حقا ترى الدولة السويسرية مواطنيها المسلمين كمواطنين هي مسؤولة عنهم أولا وأخيراً، أم أنها تراهم رعايا لدولا أخرى يعيشون على أرضها، وتطلب بين الحين والآخر من تلك الدول ان تهدأ من خواطر مواطنيها المسلمين؟ وبالمقابل كيف تنظر الى الوضع القانوني للمواطنين المسيحيين في البلدان الأخرى، وهو شكل غير متسق في فهم الوضع القانوني لمواطنين يعيشون في دول ذات سيادية وواجبات تجاه مواطنيها، وأيضا تجاه من تراهم مواطنين في بلدان أخرى.

يبدو أن الدولة تحت ضغط بعض الأحداث كتلك، تغض النظر عن اتساقها الدولاتي.

عن صحيفة الإتحاد العراقية 12 – 12 – 2009

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…