الإضراب عن الخوف

مصطفى إسماعيل

يشهدُ سجنُ عدرا المركزي السوري بدمشق، منذ 30 أكتوبر المنصرم وإلى تاريخه، إضراباً مفتوحاً عن الطعام، لجأ إليه المعتقلون والسجناء السياسيون الكورد السوريون من أنصار حزب الاتحاد الديمقراطي (الكوردي السوري)، ردَّاً على مجمل ظروف السجن القاهرة التي يُكابدونها، مُضافةً إلى ظروف الاعتقال التعسفي التي طالت البعضَ منهم قبلَ نقله إلى السجن المذكور، وفرض قضاء الاستثناء السوري أحكاماً جائرةً بحقَّ البعض الآخر، وهي الظروفُ التي أشارَ إليها المعتقلونَ والمساجين في بيانهم المُسرَّب إلى الإعلام والمنشور في العديد من المواقع الإلكترونية الكوردية.
يمكنُ إيجازُ مطالب المعتقلين والموقوفين والسجناء الكورد المُضربينَ عن الطعام، استناداً إلى بيانهم المنشور، في دفع إدارة السجن إلى ” السماح لهم بتلقي الزيارات الدورية المقررة، وتوفير الاتصال مع العالم الخارجي، وتحسين أوضاعهم داخل السجن، ورفع حالة العزلة المفروضة عليهم، والسماح لهم بالتنفس والتشمس، وفتح الأبواب فيما بينهم لأجل التواصل مع بعضهم البعض, وتوفير أجهزة الاتصال (راديو وتلفاز) أسوة بالموقوفين والمحكومين الجنائيين “, كما ولم يغفل المضربونَ عن الطعام مُطالبةَ السلطات السورية بإجراءِ محاكماتٍ عادلة، ورفع حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وإلغاءَ الأحكام الصادرة عن محكمة أمن الدولة الاستثنائية، التي تصدرُ أحكاماً قاسية بحقَّ الوطنيين وأصحاب الفكر والضمير الحي.


دوافعُ الإضراب عن الطعام تلك، تشكلُ مطالبَ الحدَّ الأدنى للموقوفين والسجناء في هكذا حالات، إذا ما علمنا أنَّ المبادىء الأساسية لمعاملة السجناء المُعتمدة والمُعلنة بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 45/ 111 بتاريخ 14 ديسمبر 1990، والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء المُعتمدة من مؤتمر للأمم المتحدة في جنيف عام 1955 وأقرَّهُ لاحقاً المجلس الاقتصادي والاجتماعي بموجب قرارين في عامي 1957 و1977، تتضمنُ العديدَ من النقاط والإجراءات الكفيلة بتحسين أوضاع السجون والسجناء على حدٍّ سواء، وصولاً إلى نظامٍ نموذجي للسجون ومعاملة السجناء، ولا تشكل مطالبُ الموقوفينَ والسجناء الكورد في سجن عدرا السوري سوى جزئية بسيطة من القواعد الواردة في الاتفاقيتين الأمميتين، ومن هذه القواعد على سبيل المثال لا الحصر: ضرورةُ مُعاملةُ السجناء باحترامٍ، وعدم التمييز بينهم على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غير السياسي أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثورة أو المولد أو أي وضع آخر، واحتفاظُ السجناء بحقوق الإنسان والحريات الأساسية المُبيّنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتوفيرُ سبل حصول السجناء على الخدمات الصحية، وإلغاءُ عقوبة الحبس الانفرادي أو الحدِّ من استخدامها، وتوفير المتطلبات الصحية كافة لغرف المسجونين، ومراعاة الظروف المناخية والتهوية والإضاءة والتدفئة لغرف المسجونين، والاهتمام بنظافة غرف السجن والنظافة الشخصية للمساجين، وتأمينُ وجبات طعام ذات قيمةٍ غذائية كافية، وتأمين ممارسة المساجين للرياضة، وتأمين اتصالهم بالعالم الخارجي عبر المراسلات والمكالمات الهاتفية وتلقي الزيارات والإطلاع على الصحف والمنشورات ومتابعة التلفاز والاستماع إلى المذياع… إلخ.
إذا كانت بعضُ تلكم القواعد تُراعى في حالة السجناء الجنائيين، سيما منها المتعلق بالاتصال بالعالم الخارجي، فإن السجناء السياسيين والموقوفين السياسيين السوريين عامة والكورد منهم خاصة يبدون محرومين من جلِّ تلكم القواعد المشار إليها، وإلا لما توجهوا بكامل اعتراضهم إلى الإضراب المفتوح عن الطعام، الذي أكمل لحظة كتابة هذه الأسطر الشهر دون استجابة من إدارة السجن إلى مطالب السجناء الكورد المضربين عن الطعام، بحسب تأكيد البيانات الصادرة عن إعلام حزب الاتحاد الديمقراطي وفضائية روج الكوردية في نشراتها الإخبارية اليومية، بل على العكس منعت إدارة السجن عن الموقوفين والسجناء زيارات أهاليهم وذويهم، ليتعمق لديهم القلق أكثر حول مآل أولادهم خلال فترة الإضراب.
إذن، فإن تصعيد سجناء الرأي والضمير الكورد الذين أثبتوا بإضرابهم عن الطعام أن لا مستحيل خلف القضبان، ولا خوف، يُقابلُ بتصعيدٍ من إدارة سجن عدرا المركزي، ومن خلفه وزارة الداخلية السورية، وإذا ما سارَ الأمرُ على هذا المنوال من بعد، فإنه يُخشى على صحة السجناء من التدهور وذبول حيواتهم، وهو ما يستدعي على جناح السرعة تحركاً من الحكومة السورية، برَّاً بالتزاماتها القانونية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان, واتفاقيات حقوق الإنسان الدولية التي دخلت سوريا طرفاً فيها، وضمان توافق ظروف مراكز الاحتجاز مع المعايير الدولية، ومنها قواعد الحد الأدنى لمعاملة السجناء المعيارية التابعة للأمم المتحدة، ومجموعة مبادئ حماية كل الأشخاص في أيِّ شكلٍ من أشكال الاحتجاز أو السجن، سيما وأنَّ المُضربين عن الطعام هم سجناءُ رأي وضمير، وسياسيون مختلفون عن السجناء الآخرين، لما يحملونه من منظومة قيم ومبادىء واختلافٍ مفاهيمي مع السلطة السورية، وكان لذلك بالغُ الدور في عدم حصرهم لمطالبهم بتحسين أوضاعهم كسجناء وتحسين ظروف مكان احتجازهم، بل أبعد من ذلك، استهدفوا بإضرابهم الجريء عن الطعام المحاكمات الجائرة المفصلة أمنياً، التي لا تتوفر فيها سبل التقاضي القانوني العادل، وقانون الطوارىء التي ترزح البلاد تحت أحكامه منذ مارس 1963، ومحكمة أمن الدولة العليا بأحكامها الاستثنائية التي تقتطعُ منهم أجملَ سنيَّ عمرهم.
يمكن لسوريا أن تكون أجمل ومفارقة حين تحدث قطيعة مع حقبة احتجاز أصحاب الرأي والضمير، ومن شأن ذلك تقوية سوريا وتحصينها، أما إلقاء أصحاب الرأي والضمير ونشطاء الشأن العام في غياهب السجون، فلا يولد سوى الأحقاد والضغائن وتفتيت الوحدة الداخلية في البلاد وحواجز نفسية بين المواطن ووطنه.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…