حل عقلاني لمشكلة مزمنة!

  ميشيل كيلو

بعد عقود امتدت إلى حوالى قرن، جربت تركيا خلالها الحل القومي للمشكلة الكردية، تنعطف سياستها اليوم تجاه مواطنيها الكرد نحو حل ديموقراطي يقر بتنوع مكونات شعبها، وباختلاف انتماءاتها الإثنية وأصولها الثقافية، وبضرورة وجود قدر من التعدد المتوازن والمتوافق عليه في إدارة شؤونها، كما في تعبيرها عن ذاتها في حاضنة الدولة التركية.


كانت تركيا تسمي الكرد «أتراك الجبال»، وتقمعهم لتبنيهم مطالب تناقض هويتهم التركية المزعومة، فصارت تسميهم اليوم كرداً، وترى أن مطالبهم مشروعة وهويتهم السياسية، التي تعبر عن انتمائهم إلى الدولة التركية، لا تتعارض مع هويتهم الإثنية والثقافية، المختلفة عن هوية الترك كقوم أغلبي، وتقول إن سيطرة هذا القوم على الدولة لا تتطلب إنكار وإخماد هويات وخصوصيات غيره من أقوامها، خاصة تلك التي تمتلك، كالكرد، وزنا كبيرا وفاعلية مؤثرة، وتعد قوة تكوينية لديها من القدرات ما يمكنها من تقوية الدولة أو إضعافها.
تخلت تركيا في السنوات الأخيرة عن سياسات قومية، استهدفت دمج الكرد وتذويبهم في كيانها القومي، التركي الطابع.

وفعلت ذلك لسببين:
ـ أولهما أن دولة تريد لعب دور إقليمي شبه قاري، لا تنجح إن كانت منقسمة على ذاتها، تكبحها تناقضات ومشكلات داخلية غير محلولة، وتحول دون امتلاك واستخدام قدرات تعينها على إنجاح خططها وأفعالها.

للعب دور إقليمي ناجح وكبير، تحتاج الدول إلى وحدة ما في مجالها الداخلي من قوى، وهذه لن تكون متاحة دون حلول عقلانية وواقعية لمشكلاتها، التي قد تتيح للخارج الإفادة من تناقضات وتباينات مكوناتها، إن بقيت دون حل.


ـ وثانيهما أن صراع تركيا الأطلسية مع السوفيات زيّن لمؤسستها العسكرية فكرة خاطئة رأت أن أفضل وسيلة للتعامل مع الداخل هي ضبطه بوسائل القوة والتحكم وكبت ما فيه من نقاط ضعف، وخاصة منها المشكلة الكردية، التي يمكن للسوفيات استغلالها.

هذا المنظور القومي / العسكري، رأى في الكرد أداة محتملة في صراع الخارج ضد الداخل، التركي أساسا.

وزاد من هذه الشبهة أن حزب العمال الكردستاني كان يعتبر نفسه ماركسيا / لينينيا.

باختفاء السوفيات، انتفت مبررات سياسة هي بالأحرى هلوسات تخوينية، عبرت عن موقف مؤسسة عسكرية / سياسية متشددة قومياً تجاه من أسمتهم «أتراك الجبال»، واعتبرتهم خونة لمجرد أنهم لم يقبلوا الصفة التي أطلقتها عليهم، ولم يتصرفوا بوحيها، بل اعتبروا أنفسهم كرداً، قوماً غير تركي، وطالبوا بحقوق ديموقراطية وثقافية خاصة وبرروا مطالبتهم بهويتهم المختلفة، غير التركية.


تتخلى تركيا اليوم عن سياساتها القومية التقليدية تجاه المسألة الكردية.

وتتبنى سياسة بديلة، ديموقراطية، تعطي الكرد حقوقا أرضيتها مساواتهم في المواطنة مع بقية الأتراك، وتقر بأن الاعتراف بثقافتهم لا يتعارض مع كونهم مواطنين في الدولة، بل يعزز وجودهم فيها ويقويها بهم، أي بجعلها دولة لجميع مواطنيها لا تميز بينهم ولا تقصي أحداً منهم.


تتبنى تركيا سياسة ديموقراطية في المسألة الكردية هي شرط لازم لنجاح دور إقليمي جديد بدأت تطبقه في منطقة الشرق الأوسط بأكملها.

ومع أن مؤسستها العسكرية وجزءاً من نخبتها القومية ينظران بحذر وريبة إلى توجه حكومتها الداخلي الجديد، ويعتقدان أنها تبالغ في التنازل أمام الكرد، فإن موافقتهما على الدور القومي الموسع، الذي تتبناه الحكومة في الخارج ـ وهو ضرب من تعويض ناجح عن السياسة القومية الفاشلة في الداخل ـ قد تحد من رغبتهما في نقض الحل الديموقراطي العتيد للمسألة الكردية، الذي لا شك في أنه سيقوي كثيرا الدولة التركية، الآن وفي المستقبل.


تنبع أهمية الحل التركي العملية والرمزية من إدراك النخبة التركية الحاكمة أن الحل القومي للمسألة الكردية محكوم بالفشل، كما ينبع من اللحظة التاريخية الراهنة، التي تمر فيها سياسات دول المنطقة تجاه هذه المسألة، وخاصة في العراق، حيث فشل الحل القومي في طمس اختلاف الكرد عن العرب، وفي دمجهم القسري داخل الدولة عبر إطفاء مطالباتهم بحقوق ثقافية ودور سياسي خاص، وجد ترجمته في السنوات القليلة الماضية، بعد إسقاط نظام البعث، في إدارة ذاتية موسعة شملت إقليم كردستان، وحولت العراق إلى دولة اتحادية لا يستبعد أن يلحق بها في زمن غير بعيد السودان ودول عربية أخرى.


فشل الحل القومي في تركيا والعراق، ويبدو أن الحل القومي بغطاء إسلامي يواجه مقاومة متصاعدة في إيران، حيث ترفضه الأقوام غير الفارسية، التي يقال إنها تشكل نيفا ونصف شعب إيران، وترى فيه حلا إسلاميا بالاسم، يغطي حلا قوميا فارسيا يلبس لبوس الدين، أظهرت حركة الاحتجاج الشعبي الأخيرة اتساع رفضه من قبل قطاعات شعبية كردية وعربية وبلوشية وآذرية واسعة، تنكر السلطة حقوقها باسم الإسلام، الذي تدعي أنه لا يعترف بالقومية لأنه لا يعرفها! إلى متى ستستطيع إيران التمسك بحل فارسي ذي غلاف إسلامي لمسألة الأقوامية عامة ولمسألة القوم الكردي خاصة، التي تتحول إلى جزء من قضية عابرة للدول، يكتسب حلها منذ بعض الوقت طابعا إقليميا بكل معنى الكلمة، ويرجح أن يؤثر نمطه التركي في علاقات البلدان المجاورة مع كردها؟ أخيرا، إلى متى يمكن «الحل الإرجائي» السوري تجاهل فشل السياستين القومية والإسلامية في بلدان المنطقة، التي تضم مواطنين يتحدرون من إثنيات متباينة، وتجاوز التغيرات الإقليمية عامة والتركية خاصة حيال قضية الكرد؟ يرجح مراقبون كثيرون أن يرسم البلدان في الفترة المقبلة سياسات مختلفة عن تلك التي يعتمدانها في هذه القضية، وتجعلها الحلول التركية بحاجة إلى إعادة نظر جدية؟
ليس التخلي عن الحلين القومي والإسلامي، والتحول الإقليمي نحو حل ديموقراطي للقضية الكردية بالأمر القليل الأهمية.

إنه علامة على تخلق زمن مختلف لن يتمكن أحد من تجاهله، سيأخذ بحلول تمليها حاجة مجتمعات المنطقة ودولها إلى الديموقراطية، بعدما خاب أملها في حلول أخرى أوصلتها إلى مأزق يمس حاجتها إلى رؤيته بأعين صاحية، وإلى البحث عن بدائل ناجعة له!

السفير

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…