غير إن وفاة الرئيس اوزال الفجائي في نيسان 1993 ألقى بكل آمال إقامة الجمهورية الثانية وحل المشكلة الكردية في تركيا إلى مضيق البوسفور .
ولو قيض لهذا الزعيم الكبير إتمام مشروعة الحداثي التركي لدخلت تركيا إلى العصر الجديد منذ أكثر من عقد ولوفرت دماء آلاف المواطنين الأكراد والأتراك ضحايا النزاع العرقي والقومي الذي طال أمده.
وذهبت أمال الزعيم أوجلان في مهب الريح في هذه المرحلة .
في 5 / آب /2005 أي بعد12 عاما من مشروع الرئيس أوزال فتح أردوغان كوة في جدار الجمهورية التركية حينما اعترف علنا في خطاب ألقاه أمام حشد من الأكراد في ديار بكر بوجود أخطاء ارتكبتها الدولة مع الأكراد وقال:المشكلة الكردية تعنينا كلنا كما أنها تعنيني شخصيا في المقام الأول
وتجددت الآمال مرة أخرى وأعلن حزب العمال وقف إطلاق النار من طرف واحد لعدة مرات لإعطاء مزيدا من الفرص .
والحقيقة أن أردوغان خرق بهذه العبارات الواضحة كافة التابوهات والخطوط الحمراء التي سنتها السياسة التركية تجاه القضية الكردية منذ عهد مصطفى كمال في بداية تأسيس الجمهورية .
ومنح أردوغان ضمن هذا الإطار عددا من الحقوق للأكراد فاقت كثيرا ما منحته لهم الحكومات السابقة , وتحولت اليوم مجموعة من الآمال الكردية إلى وقائع حية على الأرض كإصدار صحف باللغة الكردية وتخصيص قناة تلفزين تبث باللغة الكردية…الخ.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الأكراد يستفيدون من التحسن العام الذي طرأ على حرية التعبير عن الرأي .
وإذا قارننا بين مشروع الرئيس أوزال ومشروع الرئيس أردوغان فالأول كان استراتيجيا شفافا لدى معظم الأكراد بينما مشروع أردوغان مشروعا تكتيكيا وغامضا في معظم جوانبه لدى غالبية الأكراد, أو دعاية انتخابية.
وعدة شغل في نظر البعض أو يفتقد إلى المصداقية بنظر البعض الآخر وهذا هو لب المشكلة .
أعتقد أن أردوغان بحنكته الحزبية وتجربته السياسية وصل إلى قناعة تامة أن صندوق الانتخاب وأصوات الناخبين سيدا الديمقراطية التركية وهما الفيصل في حكم تركيا في القرن الجديد وهذا يسجل له , واعتمادا على هذه المعادلة الصحيحة فان مبادراته بشأن حل المشكلة الكردية عادت بالنفع عليه وعلى حزبه .
ففي الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهر يوليو (تموز) عام2007حاز حزب العدالة والتنمية على 47 % من أصوات الناخبين الأمر الذي جاء بمثابة انتصار حاشد له ولحزبه ليس فقط على مستوى المناطق التركية بكاملها بل أيضا على مستوى المناطق الكردية في جنوب شرق الأناضول حيث حقق حزب أردوغان هناك أيضا فوزا ساحقا على كافة الأحزاب الأخرى بما في ذلك حزب D.T.P الكردي الذي تحتم عليه دخول جولة الانتخابات بالائتلاف مع مرشحين مستقلين لكي يستطيع تحقيق الحد الأدنى المطلوب من الأصوات أي العشرة بالمائة.
لقد أحرز حزب العدالة والتنمية في المناطق الكردية ما يقارب 52 % من مجموع الأصوات.
وقد نال الحزب في دياربكر وحدها في الانتخابات التشريعية الأخيرة 41 % من الأصوات وفاز 75 نائبا كرديا في المناطق الكردية على قوائم حزب العدالة والتنمية من أصل 340 نائبا في عموم تركيا فيما كان قد حاز عام 2002 على 16 % فقط من الأصوات في المناطق الكردية.
لهذا فإن اردوغان راح يصف حزبه بأنه “الممثل الحقيقي للأكراد”.ولكن حزب أردوغان تعرض لنكسة كبيرة في الانتخابات البلدية ، التي جرت يوم 29 مارس 2009، عندما فشل في الحِـفاظ على تفوّقه النّـوعي الكبير وتراجعت أصواته بثمانية نقاط كاملة بحصوله على 38.9% من أصوات الناخبين الأكراد.
وللحقيقة فقد كان الجميع ينتظر ما ستؤول نتائج الانتخابات بين أكراد حزب العدالة والتنمية وأكراد حزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجلان المعتقل في امرالي ومؤيده حزب المجتمع الديمقراطي الكردي بزعامة أحمد نرك.
وكانت المفاجأة أن حزب العدالة والتنمية ، ليس فقط لم تتقدّم أصواته في المناطق الكردية ، بل تراجعت عما كانت عليه بحوالي 18 نقطة وخسِـر أيضا بلديات كانت بيده، مثل سعرت (مسقط رأس أمينة زوجة اردوغان) ووان.
والحقيقة أن المعركة الانتخابية في المناطق الكردية كانت ثنائية بين حزبي العدالة والتنمية والمجتمع الديمقراطي،.
ولعل نتيجة بلدية ديار بكر، كبرى المدن الكردية ، كانت رأس حربة المواجهة ، حيث نجح مرشح المجتمع الديمقراطي الكردي السيد عثمان بايديمير في سحق خصمه، مرشح العدالة والتنمية قطب الدِّين أرزو بـ 65% مقابل 30% من الأصوات.
ونجح كذلك المجتمع الديمقراطي في استرداد بلديتَـيْ “سعرت” و”فان” وكذلك “ايغدير” والاحتفاظ بخمس بلديات رئيسية كانت بحوزته ، وهي ديار بكر وتونجلي وباتمان وحكاري وشرنخ.
وازداد ثِـقل الخيبة لدى رجب طيب اردوغان، عندما فشل حزبه في الاحتفاظ بتلك البلديات ، و اعترف اردوغان بـ “الهزيمة” ووعد بدراسة الأسباب والعمل لأخْـذ العِـبر والدُّروس.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا المقام هو :هل طروحات أردوغان حول حل المشكلة الكردية طروحات استراتيجية على خطى الرئيس أوزال من أجل الانتقال الى الجمهورية (الثانية) الديمقراطية ؟
وهذا مايريده ويرغبه كل من يريد الخير للشعب التركي والشعب الكردي ولتركيا دولة وشعبا ولشعوب الشرق الأوسط ولسوريا والعراق وإيران ؟ أم أنها طروحات تكتيكية وأشكال جديدة من الخداع والغاية منها اللعب على الورقة الانتخابية الكردية الرابحة والتي تمثل بيضة القبان في حكم تركيا على مدى المستقبل؟
واذا كانت العملية برمتها تكتيك وخدعة من أردوغان وحزبه فإنها سوف لن تنطلي على الشعب الكردي وحركته السياسية والعسكرية في هذه المرة وسرعان ما ستنكشف اللعبة وحينئذ لن تقوم قائمة لأردوغان وحزبه وسيخسر في الانتخابات التشريعية القادمة سواء على يد الأكراد أو الأتراك وينتهي كما انتهت الحركة القومية التركية المتمثلة بحزب الشعب الحمهوري والحزب القومي التركي بقيادة بخجلي .
واذا ذهبنا أبعد من ذلك فان الحل الاستراتيجي لا يخدم الأكراد والأتراك فحسب بل يخدم الدول الإقليمية وخاصة سوريا التي وقعت اتفاقا استراتيجيا مع تركيا وهذه الاتفاقية مرهونة بالاستقرار على طرفي الحدود بين الدولتين السورية والتركية والأكراد الموجودون على طرفي الحدود الطويلة بين البلدين من مصلحتهم أن تتطور العلاقات بين البلدين إلى أعلى المستويات طالما أنها تخدم السلام الإقليمي والرخاء الاقتصادي والسياسي.
والصور التي تأتي من أنقرة بين يوم وأخر تحيرنا فمن جهة بدأ أردوغان وأقطاب من حزب العدالة والتنمية يتجنبون استخدام لغة من شأنها إثارة الاحتجاج في صفوف العسكريين والأحزاب القومية التركية المعارضة لحل المشكلة الكردية وراح يتعمد هو أيضا استخدام اللغة القومية كما مرر عبر البرلمان قانون مهاجمة حزب العمال الكردستاني خارج الحدود , ولم يسع أردوغان إلى إيقاف الحرب مؤقتا كتعبير عن حسن النية تجاه الأكراد .
ومن جهة أخرى رحب و سمح لوفد السلام الكردي القادم من جبال قنديل ومعسكر اللاجئين الأكراد في مخمور بناء على طلب زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان بالدخول إلى تركيا .
وفي النهاية أعتقد أن الأكراد أمام حلين لا ثالث لهما إما:
أن يكونوا مواطنين على قدم المساواة مع الأتراك ضمن تركيا واحدة موحدة.
وإما :
أن يكونوا مواطنين أكرادا في دولة تعبر عن شخصيتهم القومية .
واختيار الحل الاستراتيجي على خطى الرئيس أوزال على ما عداه هو المدخل لحلِّ المشكلة الكردية وازدهار تركيا وازدهار المنطقة …..وان غدا لناظره قريب.