استراتيجية الفكر الكوردي المعاصر «المواطنية في سوريا»

عبد الرحمن آلوجي

في جلسة ودية خاصة بأصدقاء وزملاء – وفي جو علمي مفعم بالفائدة – دار الحديث عن ” الهوية المواطنية كقضية إشكالية “, ذات طابع توثيقي ومنهجي انطلق بها الصديق العزيز الكاتب “الأستاذ حسين عيسو” حول المواطنية في سوريا , وما تندرج تحته قيم ومعايير المواطنة الحرة , مما ينسجم مع حقوق الإنسان والمقاييس الدولية والمفاهيم الإنسانية, ومدى اكتمال الشخصية السورية مع تلك المعايير والاعتبارات, وما للحرمان من آثار سلبية تقود إلى التراجع والانكفاء , وانعدام الفاعلية , أسوة بالقانون الطبيعي في المجتمعات الإنسانية الحرة حيث جاء في البحث : (..

تعرض مفهوم المواطنية كأحد أشكال الهوية الاجتماعية السياسية للكثير من النقاش والنقد خاصة في دولة تعددية مثل بلدنا سوريا
 ففي حين يراها البعض من المثقفين العرب مجرد حيازة للجنسية في القطر العربي السوري , يرد العض من المثقفين الكرد باعتبارها نوعا من الخنوع والتفريط في الحقوق القومية للكرد , وهكذا يدور السجال بين طرفين متخندقين بعيدا عن البحث في الأسس التي تبنى عليها المواطنية, وهي قيم المساواة وتحقيق الحرية وتطبيق العدالة, كمقومات أساسية لبناء الدولة المدنية الحديثة , ” دولة الحق والقانون ” التي تمارس الحياد تجاه مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية والطبقية…).

وقد عرج الكاتب على البعد التاريخي لإشكالية المفهوم , “والحصص المتساوية لمواطني الدولة” كما ذهب إليه المشرع الإغريقي “ليكورغوس” قبل ثمانية وعشرين قرنا, ثم ما طبق من تشريع في الإمبرطورية الرومانية – امتدادا للمفهوم الإغريقي الذي ” أجاز صفة المواطنة بمجرد حيازة عقار في المدينة – الدولة , حتى من الأجنبي المستوطن  ..” .


والولاء للهوية الوطنية يبقى قوق أي اعتبار من شأنه أن يجر إلى عصبية قومية أو دينية أو مذهبية , تصل بالمواطن في انتمائه المحدد إلى حد المغالاة والتشدد والتطرف, بما يفقد المواطنة حرارتها وقوة تأثيرها , حيث استطاع المواطن السويسري أن يحقق البعد العميق في مواطنيته  “خلال الحربين العالميتين في القرن العشرين والتي دارت رحاها بين ألمانيا وفرنسا بشكل خاص , وتعرض البلدان نتيجتها للدمار الشامل وملايين الضحايا ..

علما أن الألمان والفرنسيين يشكلون القوميتين الرئيسيتن , حيث بقي هذا البلد – العريق في وطنيته – على الحياد , ولم تنقسم , ولم تحترب القوميتان ..”
 وقد رصد الكاتب وضع الفرد في الدولة الملكية والأخرى المستبدة برفع الصفة المتقلة عنه وجعله تابعا أو ملحقا تذوب شخصيته في إطار الولاء والطاعة والإذعان , في حين يجد المفضل والمصان في الدولة القومية والمؤدلجة ليرى نفسه المحور , مقابل الآخر المفضول والمحارب والمعزول قوميا ومذهبيا وعقائديا , مما يصيب المواطنة في هذه الأحوال جميعا بضير كبير , يفقد المواطنية قيمتها و ” ..

يفكك المجتمع , ويفرغ مفهوم المواطنية من مضامينه السياسية والمجتمعية ..

في حين تتحدد علاقة الفرد – المواطن – في الدولة المدنية الحديثة بالدولة كعلاقة قانونية, فالمواطنية مرتبطة بدولة القانون, التي تقوم على منطق احترام التنوع والمساواة في الحقوق والواجبات دون تفضيل – خارج هذا الاعتبار – ..

” إضافة إلى العلاقة الحميمة والتواصل بين المواطنين أنفسهم , وما أعدته الدولة من برامج تربوية مديدة أفرغت التعصب بين المواطنين بسبب جنس أو لون أو معتقد من مفهوم العصبية والولاء غير المشروط وغير المعقول أيضا , , حيث يغدو ” مبدأ المساواة والإحساس بالإخاء فهما لقواعد المجتمع كما يقول “روسو” ..

” لتحل محل ” ثقافة الضجيج وما أنتجته – عبر سلسلة طويلة من الإعداد والتربية الموجهة – من مجموعات الغوغاء والطفيليين والفساد وقمع الرأي الآخر ” مما أغرق المجتمع في الفقر والبطالة واللامباة وانعدام الثقة والتفكك والانكفاء والتراجع , مما يطرح المهمة الكبرى على عاتق المثقفين والمتنورين لمعالجة وترتيب وضع مجتمعاتنا وانتشالها من وهدة الفراغ القاتل, والتسيب, والخلط الشديد بين الخصوصية القومية والمواطنة , ورفض الآخر , والإصرار على اللون الواحد ونفي ورفض الاحتكام إلى المنطق التوافقي, والديمقراطية ,  وانعدام الثقة ومثالب غياب المواطنة الحرة .

 
وعلى الرغم من الطابع الموضوعي والرصين للجلسة, وتبادل الآراء المختلفة , والوقوف على تنوع الخلفيات الثقافية, في حوار حر استغرق وقتا كافيا في جو من المصارحة والوضوح , إلا أن بعد الثقافة المتأصلة والرؤية القومية , باتجاه السائد والمسود والأغلبية والأقلية..

وما للأغلبية من حق الأرض والهوية والتاريخ والجغرافيا, كان واضحا لدى البعض ممن وجد في الحق العروبي المقدس – وإن لم يصرح به نصا – شيئا لا يمكن تجاهله أو المساس به , أو تجاوزه , مما يدل على عمق الجهد المبذول سنين متطاولة في ترسيخ مفهوم ا” لأنا القومية المتحكمة ” والتي من الصعب التنازل عنها لصالح المواطنية السورية, وترجيحها , وجعلها من المحاور المميزة للعلاقة الوطنية بين الدولة ومواطنيها , وبينهم أفرادا وجماعات , إلا في ظل متابعة وجهد واجتهاد وتربية وتوجيه , وعمل فكري جاد يضع الأفضلية للقدرة والكفاءة والإبداع , إذ أن مفاهيم العرفي وعروبته ” وشرف الانسلاخ عن أية قومية والالتحاق بالأمة العربية المجيدة ” والموصللي ولاءاته واستئصالاته المعروفة ” في وجوب بتر ومحو كل مواطن سوري من أصل كوردي , إن هو فكر تفكيرا قوميا ” وغيرهما ممن ينكرون أي وجود للآخر, من أي مكون سوري , إذ أن هذه المفاهيم لا تزال تفعل فعلها , وتحرك عقول كثير من المثقفين العرب باتجاه بديهة ظلت تراود قناعاتهم , هي الوجود العربي الطام والقاطع والساحق والراسخ, دون أي اعتبار للآخرين , إلا بمقدار التفضل عليهم بالإيواء والاحتواء والإذابة , و بالتالي إسقاط أية التزامات يمكن أن تترتب على أي اعتراف بالآخر غير العروبي أوغير المنسلخ من انتمائه القومي الآخر مهما تكن تلك الالتزامات , ورفض أي خصوصية , تأتي تهمة الانفصال جاهزة للتخويف والتخوين و  التحذير من التآمر على سلامة الوطن, وتهديد وحدة ترابه , مما يتجافى تماما مع قواعد المساواة والعدل والمواطنية وقيمها وعراقة توجهها , وعمق مستندها القانوني والاجتماعي والإنساني , وحقها في الدولة المدنية الحديثة .

 إننا بحاجة فعلا إلى مراجعة جذرية وشاملة وعادلة لمعايير وقيم الانتماء الوطني واستحقاقاتها , وتوعية النخبة المؤثرة والموجهة والعاقلة أولا , والجماهير الشعبية ثانيا رغم جسامة وصعوبة التحديات , ورغم التراكمات الثقافية والفكرية الهائلة والتوجسات والأحاسيس والتوترات والاحتقانات , ولكن تطور الحياة ومنطق العلم واختراق الحدود التقليدية للدول والقارات , والاتصالات غير المحدودة والهائلة بين المجتمعات الإنسانية , وبدء بلورة ثقافة موضوعية منصفة ذات بعد عالمي … كل ذلك يدعو إلى التفاؤل , وضرورة تجاوز العقد الاستعلائية في العدد والقدرة !! وعوامل محو وتذويب الآخرين؟! , وسياسة القمع والبطش والتنكيل والمعايير المضطربة والمختلة وغير المتوازنة ..

, مما يطرح التساؤل ما حظ أي فكر متعصب وعنصري استعلائي من البقاء والامتداد والتأثير ؟؟!! وما مدى ما تحققه المواطنية الصالحة للمجتمع المدني من عمق وقوة وامتداد وتأصل ؟؟! سؤالان سوف تحكم عليها حقائق الحياة والتاريخ !! .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…