الإحصاء الاستثنائي، نموذج صارخ للظلم والإجحاف

  جريدة الوحدة (YEKÎTÎ) *

  إن تقدم الدول والمجتمعات يقاس بمدى الالتزام بالقوانين التي تنظّم العلاقات بين الدولة ومواطنيها، وتحديد حقوقهم وواجباتهم، لكن في حالة الإحصاء الاستثنائي الذي جرى في محافظة الحسكة بتاريخ 5|10|1962، وفي يوم واحد، فإن القانون نفسه تعرض للشطب والطمس لصالح السياسة الشوفينية التي تتحكم بالقرارات المتعلقة بالشأن الكردي.

  فالإحصاء، كمشروع عنصري، تم إجراؤه في عهد حكومة رجعية جاءت على خلفية عملية الانفصال بين مصر وسوريا اللتين توحّدتا عام 1958..
ولكي تغطي تلك الحكومة جريمتها المرتكبة بحق الوحدة، فإنها ارتكبت جريمة خاصة بحق الكرد، في إطار تحويل أنظار الرأي العام الوطني السوري عن تلك الجريمة، مستغلة في ذلك الأجواء الإقليمية المحيطة، وخاصة ما تتعلق منها باندلاع ثورة أيلول في كردستان العراق، وما كانت لها من انعكاسات على الجوار الكردي، كما أنها استهدفت من جهة ثانية حرمان الفلاحين الكرد من الانتفاع بقانون الإصلاح الزراعي الذي تم تطبيقه في تلك الفترة.


  ورغم التضليل الذي مارسته تلك الحكومة، وكذلك كل الحكومات المتلاحقة، فإنها لم تستطع إخفاء الخلفية الشوفينية التي وقفت وراء مشروع الإحصاء الذي برَرته في البداية (بتسلل كردي من تركيا) وسمّت الضحايا بموجبه ( بأجانب أتراك) ، لكن بعد اعتراض الحكومة التركية على هذه التسمية تحوّل الإسم إلى ( أجانب محافظة الحسكة )..

وللدلالة على الحقيقة الشوفينية للمشروع، فإن ما حصل في سجلات الإحصاء من شطب عشوائي كان هدفه فقط تغيير الطابع الديموغرافي لمحافظة الحسكة ذات الأكثرية الكردية، فقد جاء مثلاً اسم توفيق نظام الدين في البداية بين المجرّدين من الجنسية، وتم تدارك الموضوع بعد أن أثار فضيحة كبيرة، لأن السيد نظام الدين كان قد شغل منصب رئيس أركان الجيش السوري قبل تلك الفترة.

وهناك أمثلة كثيرة تثبت تلك الحقيقة، منها وجود إنسان مواطن وله آخ يقيم معه في نفس البيت مجرد من الجنسية، وأمثلة أخرى عن أب مواطن وابن مجرد، وبالعكس، مما يعني أن الموضوع لا يتعلق بقوانين خاصة بالجنسية، أنما بموقف سياسي تجاه مكوّن أساسي في هذا البلد لا تريد السياسة الشوفينية الاعتراف بوجوده، والإقرار بحقوقه، والدليل على ذلك أن هذا المشروع دعم ولا يزال بمشاريع عنصرية أخرى وبقوانين استثنائية لا تقل خطورتها على المواطنين الكرد من تجريدهم من حق المواطنة، لأنها تطال الجميع مثل المرسوم (49) الذي يبيح لهم بيع ما يملكون دون أن يتسنى لهم امتلاك ما يريدون، وذلك في إطار عرقلة تطور المجتمع الكردي الذي يعاني نتيجة هذه السياسة من نزيف الهجرة، سواء إلى الخارج وما يعنيه من ضياع وانحلال في الدول الأوربية، رغم حصول المهاجرين الكرد على جنسية تلك الدول خلال سنوات قليلة، مما يشكل مفارقة عجيبة تدعو للاستنكار، أو إلى الداخل حيث تكتظ ضواحي دمشق بالهائمين على وجوههم من المهاجرين الذين تهددهم الانحرافات بمختلف أشكالها نتيجة الفقر والجهل والبطالة، ويشكل المجردون من الجنسية في الحالتين غالبية  هؤلاء المهاجرين، مما يعني أن الإحصاء، كان ولا يزال، يشكل قضية وطنية تهم كل الحريصين على مصلحة هذا البلد، وعلى طاقات بشرية لا يستهان بها، تنزف على يد المشاريع العنصرية الجاثمة على صدور الضحايا من المواطنين الكرد
  ورغم عجز السلطة في الدفاع عن هذا المشروع، وارتفاع العديد من الأصوات الداعية إلى إلغائه، أو تعديله، حتى من داخلها فإن تطبيقات الإحصاء لا تزال تغذي حالة اليأس والاغتراب، لدى أبناء شعبنا الكردي الذي لا يفصل هذا المشروع عن السياسة الشوفينية، التي تحاول اختصار القضية الكردية في سوريا بقضية الجنسية، وتسعى لمقايضة الجانب الكردي على هذا الأساس ودفعه للتنازل عن حقوقه القومية، مقابل حل جزئي لموضوع الإحصاء.

لكن الذي لا تريد تلك السياسة أن تفهمه هو أن الإبقاء على هذا المشروع لا يسيء فقط لضحاياه بل يسيء كذلك لمصلحة هذا الوطن الذي لن يشهد التقدم المطلوب على حساب حرمان مواطنيه وشل قدراتهم وهدر طاقاتهم، كما أن القضية الكردية هي بالأساس قضية شعب محروم من كامل حقوقه القومية، وان الإحصاء وغيره من المشاريع جاءت في سياق الحد من نضاله، وإرهاب حركته الوطنية، وان أية محاولة لإنهاء هذه القضية لن يكتب لها النجاح، لأنها مرتبطة بمصلحة البلاد، ويخدم حلها المصلحة والوحدة الوطنية، التي ستظل بحاجة لها لإحراز التقدم على طريق التغيير الديمقراطي المنطلق من الداخل السوري بعيداً عن الأجندات الخارجية..
  أخيراً أن الحكمة تتطلب إنهاء العمل بهذا المشروع.

فليس من مصلحة أحد في هذا البلد أن يجرّد إنسان من جنسيته السورية، ويحرم بموجب ذلك من حق العلم والعمل والتملك، فالإبقاء على هذا المشروع يغذّي حالة الاحتقان القائمة أصلاً.

ويثير الحساسية، في حين أن إلغاءه سيشيع الارتياح، ويعيد اندماج الضحايا بمجتمعهم السوري، ويعزز أواصر الانتماء الوطني، ويرفع سوية الاستعداد للتضحية في مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية.



*
الجريدة المركزية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)–العدد (194) أيلول -9 200م

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…