عنْدمَا تنوحُ الغربةُ على فراقِ الأَحبةِ . . !

أحمد حسين ـ ألمانيا ـ

بمناسبة رحيل السياسي والكاتب الأستاذ محمد ملا أحمد { توز } :
هاأنتَ تخرجُ بتثاقلٍ من عُشكَ الآخيرِ الذي ضم صقيعَ هرمِكَ .

.
 تخرجُ كالوَهْجِ تبددُ ظلماتِ الجُرحِ الكُردي النازفِ .

.
 تُلمْلِمُ الشظايَا والخيوطَ المبعثرة .

.

تنسجُهَا .

.

تحبكُهَا .

.

 لتكونَ دربَ آلامِكَ الممتدةِ مِنَ الأراراتِ  ، ومِنْ زاكروسَ إلى آخرِ قريةٍ { خربةٍ } في الجنوبِ الحزينِ .
 ناضلتَ منذُ انبثاقِ الخيوطِ الأولى لفجرِ عمرِكَ ، فانْخرطتَ في الحراكِ الإجتماعي والسياسي ، وسعيْتَ في الوقتِ نفسِهِ رغمَ الفقْرِ والحاجةِ لنيلِ الشهادةِ الجامعيةَ في زمنِ ندرةِ الشهاداتِ ، وكنْتَ تَطْمَحُ أَنْ تكونَ مربياً حقيقياً تُشارِكُ غيرَكَ مِنَ الغيورين على الأوطانِ لإعادةِ الإعتبارِ للأخلاقِ التي سحقتْهَا أحذية العسكرِ { العقائدي } ، و { خفافيش الليل } مِمَنْ زُرِعُوا في مساماتِ الأجسادِ ، وسعيْتَ بدأبٍ لتكشفَ الغطاءَ عنْ كذبِ ونفاقِ كتَبَةِ تاريخِ السلاطينِ ومصاصي الدماءِ ، وتزيحَ الغطاءَ عنْ عوراتِ تلكَ الخفافيشِ وأسيادِهَا الوالغيْنَ ، الناهبيْنَ خيراتِ ومقدراتِ البلادِ .

فأندفعَ ” سدنةُ ” الهياكلِ المقدسةِ ، والمنتفخون بإيديولجيات العض والنهشِ لشطبِ اِسمكَ والآلاف من المناضلين مِنْ أمثالكَ ، فبقيْتَ غريباً في وطنِكَ ، جائعاً ومنْ حولِكَ المنافقونَ ، والمتسلقونَ ، وهواة العُهْرِ والرذيلةِ يتمتعونَ بخيراتِ الوطنِ ، وينهلونَ مِنْ مباهجِهِ ، ويتربعونَ على أشلاءِ أبنائِهِ البائسيْنَ .
 منعوا عنكَ كل شيءٍ ، فاقتفوا آثارَكَ ، لاحقوُكَ ، أحصوُا أنفاسَكَ ، زجُوْكَ في غياهبِ الأقبيةِ والزنازينِ ، حاربُوكَ في لقمةِ رزقِكَ ، هادفينَ إذلالَكَ وتركيعَكَ أمامَ بابِ ” السلطانِ ” .

ولكنْكَ بقيْتَ وحرمَكَ المصون ” keca kurd ” قوييْنِ ، أبيينِ .

وآثرتُمَا الجوعَ والحاجةَ والمعاناةَ على الرفاهِ المغمسِ بطعمِ الإذلالِ المهينِ .
وعندما تأكدْتَ أنهُم في طريقهِم إلى قطعِ ” أوكسجين ” الحياةِ عنْكَ ، اضطرَرْتَ أن تتأبَطِ آلامَكَ ، وذكرياتِ طفولتِكَ ، وفتوتِكَ ، وشبابِكَ ، وشيخوختِكَ ، وهرمِكَ على أكتافِكَ ، وألقيْتَهَا أمامَ مَنْ يقدرونَ الإنسانَ والإنسانيةَ .

.

فاحتضنوكَ ، وحموْكَ ، ورعوْكَ ، ووفروا لكَ الأمنَ والطمأنينةَ ، والعيشَ الكريمَ ، فضخْوا بذلك دفقةً منَ الآمالِ المتوهجةِ ، لتُنْعِشَ قلبَكَ ، وتُلوِنَ آفاقَكَ .

.


وفي ليلةٍ ربيعةٍ ألمانيةٍ صاخبةٍ ضاجةٍ بأريج أزاهير الأقحوانِ ، وفتنةِ شقائقَ النعمانِ ، وتحتَ أضواءٍ نيونيةٍ ناعسةٍ كسلى ، تتشظى ، وتتبعثرُ على الرصيفِ المقابلِ في ” هاييم ” مدينةِ ” دورتموند ” من عام ألف وتسعمائة وستةٍ وتسعين ، لمحتُكَ منبثقاً كدفقةِ نور .

.

محملاً بالآلامِ والآمال .

.

وكنتُ متهالكاً .

.

مرمياً على كرسي منزوٍ .

.

ملتفاً بوشاح من الحنين والشوق .

.

.

وعندما كنُا في حالةِ اشتباكٍ عاطفيٍ متوهجٍ .

.

كنتُ أشعرُ بأنني أحتضنُ الوطنَ ، وأتنشقُ عبقَ قرانَا ومدنِنَا الغارقةِ دوماً في الحزنِ الدفينِ .

وبعدَ أنْ تنفسْنا الصعدَاءَ ، وكأنَنَا ألقيْنْا عنْ كواهلِنَا أطناناً مِنَ العذاباتِ والأشواقِ ، جلسْنَا والقاسم المشترك بيننا هموم الوطن ، وعذابات شعبنا .


والتقيتُ بك مرةً أخرى ، ولكنْ بعد سنينَ طويلة .

.


وكنتَ كمَا كنتَ كالسنديانةِ العريقةِ تتشبثُ بالأرضِ .

.
 وكطير ” الكناري ” ، تشدو ألحان الغربة .

.


وكعاشق ولهان تعزفُ على أوتار الآلام والأوجاع .

.


وتحرض دوماً على متابعة النضال بتفاؤل ، رغم عمرك الموغل ـ وأنت تداعب ذوائب السنين ـ في أدغال الكهولة والهرم ، وتحلقُ في الأفاقِ صامداً ، قوياً ، تقاومُ المرضَ الخبيثَ على مدارِ الساعةِ ، وفي لحظاتِ إنهاككَ إياهُ ، كنْتَ تمتشقُ قلمَكَ لتدونَ تاريخَ حركةِ شعبِكَ ، وتفاصيلَ الحراكِ الإجتماعي والسياسي منذُ تكويناتهِ الجنينيةِ وحتى أيامِنَا هذهِ .

 
نَعمْ سيدي .

.

!
وأنا أُدرِكُ أنَ ينابيعَ الدموعِ قدْ جففَتْهَا معاولُ ومداحلُ الطغاةِ .

.


فلم نعُدْ نملكُ دمعةً نطفيءُ بها لهبَ الجمر في قلوبِنَا .

.
ولكنْنَا نَعِدُكَ أنْ نسْتَمدَ مِنَ الجمرِ وهجَهُ .

.

ومنَ الصخرِ صلادتَهُ .

.

ومِنَ السنديانةِ التي ” تموتُ وهي واقفة ” الصبرَ والتحملَ .

.

لحين إيصالِ قارب النضال لشواطئِ البهجةِ والخلاصِ .

  30 ـ 9 ـ 2009

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…