بمناسبة رحيل السياسي والكاتب الأستاذ محمد ملا أحمد { توز } :
هاأنتَ تخرجُ بتثاقلٍ من عُشكَ الآخيرِ الذي ضم صقيعَ هرمِكَ .
.
تخرجُ كالوَهْجِ تبددُ ظلماتِ الجُرحِ الكُردي النازفِ .
.
تُلمْلِمُ الشظايَا والخيوطَ المبعثرة .
.
تنسجُهَا .
.
تحبكُهَا .
.
فأندفعَ ” سدنةُ ” الهياكلِ المقدسةِ ، والمنتفخون بإيديولجيات العض والنهشِ لشطبِ اِسمكَ والآلاف من المناضلين مِنْ أمثالكَ ، فبقيْتَ غريباً في وطنِكَ ، جائعاً ومنْ حولِكَ المنافقونَ ، والمتسلقونَ ، وهواة العُهْرِ والرذيلةِ يتمتعونَ بخيراتِ الوطنِ ، وينهلونَ مِنْ مباهجِهِ ، ويتربعونَ على أشلاءِ أبنائِهِ البائسيْنَ .
منعوا عنكَ كل شيءٍ ، فاقتفوا آثارَكَ ، لاحقوُكَ ، أحصوُا أنفاسَكَ ، زجُوْكَ في غياهبِ الأقبيةِ والزنازينِ ، حاربُوكَ في لقمةِ رزقِكَ ، هادفينَ إذلالَكَ وتركيعَكَ أمامَ بابِ ” السلطانِ ” .
ولكنْكَ بقيْتَ وحرمَكَ المصون ” keca kurd ” قوييْنِ ، أبيينِ .
وآثرتُمَا الجوعَ والحاجةَ والمعاناةَ على الرفاهِ المغمسِ بطعمِ الإذلالِ المهينِ .
وعندما تأكدْتَ أنهُم في طريقهِم إلى قطعِ ” أوكسجين ” الحياةِ عنْكَ ، اضطرَرْتَ أن تتأبَطِ آلامَكَ ، وذكرياتِ طفولتِكَ ، وفتوتِكَ ، وشبابِكَ ، وشيخوختِكَ ، وهرمِكَ على أكتافِكَ ، وألقيْتَهَا أمامَ مَنْ يقدرونَ الإنسانَ والإنسانيةَ .
.
فاحتضنوكَ ، وحموْكَ ، ورعوْكَ ، ووفروا لكَ الأمنَ والطمأنينةَ ، والعيشَ الكريمَ ، فضخْوا بذلك دفقةً منَ الآمالِ المتوهجةِ ، لتُنْعِشَ قلبَكَ ، وتُلوِنَ آفاقَكَ .
.
وفي ليلةٍ ربيعةٍ ألمانيةٍ صاخبةٍ ضاجةٍ بأريج أزاهير الأقحوانِ ، وفتنةِ شقائقَ النعمانِ ، وتحتَ أضواءٍ نيونيةٍ ناعسةٍ كسلى ، تتشظى ، وتتبعثرُ على الرصيفِ المقابلِ في ” هاييم ” مدينةِ ” دورتموند ” من عام ألف وتسعمائة وستةٍ وتسعين ، لمحتُكَ منبثقاً كدفقةِ نور .
.
محملاً بالآلامِ والآمال .
.
وكنتُ متهالكاً .
.
مرمياً على كرسي منزوٍ .
.
ملتفاً بوشاح من الحنين والشوق .
.
.
وعندما كنُا في حالةِ اشتباكٍ عاطفيٍ متوهجٍ .
.
كنتُ أشعرُ بأنني أحتضنُ الوطنَ ، وأتنشقُ عبقَ قرانَا ومدنِنَا الغارقةِ دوماً في الحزنِ الدفينِ .
وبعدَ أنْ تنفسْنا الصعدَاءَ ، وكأنَنَا ألقيْنْا عنْ كواهلِنَا أطناناً مِنَ العذاباتِ والأشواقِ ، جلسْنَا والقاسم المشترك بيننا هموم الوطن ، وعذابات شعبنا .
والتقيتُ بك مرةً أخرى ، ولكنْ بعد سنينَ طويلة .
.
وكنتَ كمَا كنتَ كالسنديانةِ العريقةِ تتشبثُ بالأرضِ .
.
وكطير ” الكناري ” ، تشدو ألحان الغربة .
.
وكعاشق ولهان تعزفُ على أوتار الآلام والأوجاع .
.
وتحرض دوماً على متابعة النضال بتفاؤل ، رغم عمرك الموغل ـ وأنت تداعب ذوائب السنين ـ في أدغال الكهولة والهرم ، وتحلقُ في الأفاقِ صامداً ، قوياً ، تقاومُ المرضَ الخبيثَ على مدارِ الساعةِ ، وفي لحظاتِ إنهاككَ إياهُ ، كنْتَ تمتشقُ قلمَكَ لتدونَ تاريخَ حركةِ شعبِكَ ، وتفاصيلَ الحراكِ الإجتماعي والسياسي منذُ تكويناتهِ الجنينيةِ وحتى أيامِنَا هذهِ .
نَعمْ سيدي .
.
!
وأنا أُدرِكُ أنَ ينابيعَ الدموعِ قدْ جففَتْهَا معاولُ ومداحلُ الطغاةِ .
.
فلم نعُدْ نملكُ دمعةً نطفيءُ بها لهبَ الجمر في قلوبِنَا .
.
ولكنْنَا نَعِدُكَ أنْ نسْتَمدَ مِنَ الجمرِ وهجَهُ .
.
ومنَ الصخرِ صلادتَهُ .
.
ومِنَ السنديانةِ التي ” تموتُ وهي واقفة ” الصبرَ والتحملَ .
.
لحين إيصالِ قارب النضال لشواطئِ البهجةِ والخلاصِ .