بعد أن أكد أكثر من مسؤول سياسي تركي في الفترة الماضية , و خاصة في أوساط حزب العدالة و التنمية , و بالأخص على لسان رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان , على المضي في مسعى حل المسألة الكردية في تركيا , في إطار مشروع الإنفتاح الديمقراطي للدولة على أكرادها , فإن أهم ما يثير الإهتمام هو مراقبة حزب العمال الكردستاني ب ك ك لما يجري من خطوات متسارعة في هذا الشأن , من دون أن يلوح في الأفق (حتى الآن على الأقل) بوادر حوار سياسي تركي ـ كردي يكون للحزب فيه دور , من أجل إنجاح الجهود و المساعي لحل نهائي و دائم للقضية الكردية في تركيا.
فتح قناة تلفزيونية تبث برامجها باللغة الكردية كانت أولى الخطوات.
أما فيما يتعلق بإعادة تسمية البلدات و المدن و القرى الكردية بأسمائها الكردية الأصلية , فهو مشروع لم يلق أي إعتراض مهم حتى الآن .
الحكومة التركية تحاول بكل الوسائل أن تبرهن على قدرتها على حل القضية الكردية من دون التحاور مع حزب العمال الكردستاني.
الخلاف السياسي في كيفية الوصول الى الحل تتجذر على وقع الخطوات التي تقدم عليها الحكومة.
و هي قد تسفر في حال لم تتعثر أمام محاولات المعارضة الجمهورية و القومية التركية لإفشالها , عن واقع و مشهد كردي مغاير , لما يقارب من سبعة عقود من سياسة الإنكار و الطمس بحق الهوية القومية و الثقافية للشعب الكردي.
فما تطرحه حكومة العدالة و التنمية من أفكار و خطوات مرتقبة بشأن المسألة الكردية في تركيا , في سياق مشروع ديمقراطي واسع و بجداول زمنية لم يشكف عنها بعد , لا تختلف في الجوهر , عن ما يطرحه حزب العمال الكردستاني , بشكل أو بأخر , من رؤى و أفكار حول المسألة الكردية في تركيا.
أردوغان سمى رؤيته بمشروع الإنفتاح الديمقراطي على الكرد , و هو يعني ضمنا ً القبول بالتعدد القومي و الثقافي في تركيا , كما لم ينفي عزم حكومته على إجراء تغييرات دستورية على المدى البعيد في هذا الشأن .
أوساط العمال الكردستاني , و لا سيما على لسان زعيمه , إمتعضت من مساعي الحكومة.
في البداية قللت تلك الأوساط من أهمية الإنفتاح الثقافي و اللغوي للحكومة على اللغة الكردية , و إعتبرت أن إي إنفتاح ثقافي , بغض النظر عن الضمانات الدستورية , كلام فارغ , لن يلق الإهتمام .
و لكن عندما بدأ أردوغان بالحديث عن التغييرات الدستورية على المدى البعيد , و التي قد تشمل بعض النصوص التي تضمن حق الكرد في تعلم لغتهم و ممارسة ثقافتهم , تغيرت لهجة الحديث , و نبرة الصوت عند العماليون الكردستانيون و زعيمهم .
و ما يثير الآسى و يسبب الصدمة هو مسعى أردوغان لنقل المناقشات بشأن المسألة الكردية الى أروقة البرلمان التركي , الأمر الذي يعني جعل المسألة مشروع حوار وطني تركي بإمتياز , و هو ما يعني محاولة تحقيق هدفين في آن واحد .
الأول سد الطريق على ذرائع المعارضة القومية و الجمهورية , و من خلفها العديد من أوساط الجيش , التي تتهم الحكومة بتسيير البلاد في إتجاه التفكيك و الإنقسام , من خلال إجبارها على مناقشة المسألة و إبداء رأيها فيها أمام الرأي العام .و الثاني إستبعاد حزب العمال الكردستاني من و ليمة الحل و السلام في البلاد , بهدف إجباره على الإستسلام , و الإزعان للحقائق الجديدة التي سيجسدها أردوغان و حزبه .
لا شك أن حزب العدالة و التنمية , و على رأسه رجب طيب أردوغان , يحاول أن يلعب على كل الجبهات , و يقطف الثمار لوحده .
و لولا وقوف الرأي العام التركي خلفه , لما كان بمقدوره الإستمرار في مساعيه هذه .
تركيا , في ظل الحكومة الحالية , باتت قوة إقليمية أساسية , و منبر لإستعراض و إيجاد الحلول لبعض المشاكل و الأزمات في المنطقة , و ربما رأس حربة في مواجهة الطموحات النووية الإيرانية .
كما أن علاقاتها مع أمريكا و الغرب تشهد تحسنا ً مضطردا ً , خاصة في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة التي تراهن عليها في حلحلة بعض الملفات المهمة .
و مع ذلك يدرك أردوغان أن الجبهة الداخلية في تركيا تبقى الأهم .
فمن شأن بقاء الشروخ و التصدعات فيها ظاهرة , أن تدفع الأخرين للتدخل و الإستفادة منها , للتأثير على موقع تركيا الجديد في العالم الإسلامي .
و لا ننسى أن هناك العديد من المستفيدين من الإنفتاح الديمقراطي التركي على كردها , ليس أقلهم بعض الكرد أنفسهم .
فالكرد العراقيون يراقبون عن كثب الخطوات التركية , و لا يخفون دعمهم و مساندتهم لتلك الخطوات , و ما تحسن العلاقات بين حكومة أردوغان و المسؤولين الكرد في إقليم كردستان , إلا مظهر من مظاهر القبول و الرضى عن سياسة تركيا إزاء كردها .
فالقوى الحاكمة في كردستان العراق لم تنظر في يوم من الأيام بعين الإطمئنان الى تزايد و إمتداد شعبية حزب العمال الكردساني بين أوساط الشعب الكردي , و لم تواجه و تتحدى تلك القيادات تركيا في فترة سابقة إلا في سبيل تحسين صورتها , وتعزيز مواقعها , التي كانت دائما مهددة من قبل العمال الكردساني .
لذا لا نخطأ عندما نقول أن حزب العدالة و التنمية , و بناءا ً على معطيات و مؤشرات عديدة , يحاول أن يقطف الثمار لوحده في جهة إنفتاحها على الكرد , مستفيدا ً من دعم و مساندة الرأي العام التركي من جهة , و تزايد أهميتها و موقعها الإقليمي و الدولي من جهة أخرى , فضلا ً عن مساندة بعض الأوساط السياسية التقليدية في كردستان , التي ترغب في إستبعاد حزب العمال الكردستاني , وتتمنى إختفاءه من المشهد الكردستاني على الأقل .
فهل ينجح أردوغان في مخططه ؟ معطيات تشير إلى أنه يلعب بمهارة في دهاليز السياسة و يسجل بعض النقاط .