القضية الكوردية في كوردستان تركيا و بعدها الاستراتيجي

عبد الرحمن آلوجي
 

تتردد هذه الأيام , – و في مختلف الأوساط السياسية التركية, في البرلمان و رئاسته, و الحكومة و رئيسها رجب طيب أردوغان, و رئيس الجمهورية ورئيس الأركان, بتفاوت في مستوى الطرح.

-.تتردد في هذه الأوساط جميعا أصداء حل عادل و أساسي للقضية الكردية تارة, و المشكلة الكردية تارة أخرى, و البحث عن الخلفية الثقافية و الأثنية للكورد حينا آخر, مع تلويح باستخدام القوة و نزع سلاح حزب العمال الكردستاني, و اعتباره حركة مسلحة إرهابية, إلى طرح منطق التعاطي في الجانب الآخر مع رئيس المجتمع الديمقراطي DTP) ) أحمد ترك, و على أعلى المستويات, و بمباركة من الاتحاد الأوربي و الولايات المتحدة الأمريكية..!
 و مهما قيل عن جدية هذا الطرح, أو افتقاره إلى المصداقية, فإن القضية الكردية – بما تحمل من أبعاد استراتيجية و عمق جغرافي و تاريخي , و ثقل سكاني, و عدالة مطلقة في ضرورة البحث الجاد عن حل لها – تبقى ذات أهمية بالغة ..

لتصبح هذه القضية من كبريات العمل السياسي, الذي ينبغي للمجتمع التركي أن يسعى إلى التصدي لها و لأكبر تجمع بشري في المنطقة يفتقر أبناؤها إلى الاستقرار الوطني والقومي والازدهار والرخاء المقارنين بالجانب التركي, ليأتي هذا التوقيت في السلطة والمعارضة و الشارع التركي مناسبا مع ضرورات الحل الجاد وتطورات المنطقة عامة والقضية الكردية خاصة, في الوقت الذي لا يزال فيه المجتمع الكردي يترنح تحت ضربات الفكر العنصري وآثاره وكوارثه وتصفياته وتعنته , و الذي كان بالأمس القريب يعتبر الكورد ـ كأعرق شعب في المنطقة في المهد الثاني للبشرية  ـ أتراك الجبال , في تجاهل و تنكر كاملين لوجود أمة تتجذر في التاريخ, شاهدة على طوفان نوح , و عصور موغلة في القدم لأسلاف أمة ـ لا تزال حية نابضة بالحياة ـ , مما جعل دخول تركيا إلى الاتحاد الأوربي حلماً بعيد المنال – في ظل تلك التصورات, وفي إطار التصرفات النابعة منها – , لتكون أمنية لا يمكن أن تتحقق ما لم تعالج المسألة الكردية, ومسائل حقوق الإنسان جذرياً, و نبذ الفكر الطوراني الذي يتمحور حول ذاته التركية بشكل مغرق و مبالغ فيه, ومشكوك في عدالة سواه وجدارته بمجرد التفكير في حل ما , فكان هذا الإلحاح في الطرح من ضمن هذه الأولوية , إلى جانب ما نؤكده ـ مراراً ومن خلال أبحاث ودراسات ـ حول استراتيجية هذه القضية و حيويتها , و ضرورة التصدي لها , و معالجتها بأسلوب حضاري , يعتمد منطق الديمقراطية و حقوق الإنسان , و لوائحه و مقرراته , و قرارات الأمم المتحدة, و الحق الطبيعي لأمة عريقة مغايرة لغة و ثقافة و تاريخاً و عمقاً جغرافياً ووجوداً سكانياً , و امتدادا و اتصالا بالمحيط  الكردي الممتد من أرارات إلى جبال همرين جنوباً , و من هاتاي و أعالي الأمانوس إلى سفوح زاغروس وطوروس شرقاً , هذه الأمة الممتدة في التاريخ والمحافظة على هويتها وجدارتها بالحياة مع ما لهذه البقعة الغنية التي تحيا فيها من عمق جغرافي و تضاريسي متنوع ساحر و أخاذ , تجري من خلالها الأنهار الكبرى و الجداول و الينابيع المتدفقة بما يتجاوز مساحة فرنسا لتصل إلى أكثر من نصف مليون /كم/, بما تحمل من ذخائر هائلة من الطاقة والمعادن والزراعة والثروة الحيوانية , و ما تحمله من ثقل سكاني بما يتجاوز الأربعين مليوناً ..

و تنوع في المذاهب و الأديان و الأعراق الكردستانية المتنوعة من عرب و آشوريين و أذريين و أرمن ..

إن هذا الوجود المتصل للأمة الكردية التي تتحد في اللغة ـ على اختلاف و تنوع في اللهجات ـ , و تتجذر في العادات و القيم و التقاليد والأعراف والمثل , و تحمل تراثاً إنسانياً خالداً , و تعاليم سماوية اتصلت بتاريخها و تعمقنه منذ فجر التاريخ الإنساني , من عهد نوح و إبراهيم و ذريتهما , حيث اتصلت النبوة و انبثقت من الجودي و أوركيش و امتدت إلى وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله المحرم , إلى جانب عمق حضاري يتصل بالعيلاميين و المؤابيين  و الهوريين والكردوخيين و السوئيين و السيتيين , ليمتد آلاف السنين , و يقف التاريخ شامخاً عند أولى المدائن في العالم , في (كوبادو) شرقي آمد , و في (نيفالي تشوري) على روافد الفرات , ليمتد في التاريخ كأول رقم سطر في تاريخ البشرية كما يقول المؤرخ العالمي ول ديورانت , ليتصل في الجغرافيا إلى (تل جرحو , و شمشاران, و دو دري , و شانه در , و سارارتبه .., و أراباخا  , وواش وكاني ..), كأعظم تراث إنساني  ثري , بما يشكل عمقاً أساسياَ لا يمكن القفز عليه أو تناسيه , أو محاولة صهره وتذويبه في العنصر التركي أو الفارسي أو العربي أو أي مكون آخر , رغم كل المحاولات وأساليب القمع والبطش ووسائل الإبادة وأشكالها المريعة والتدميرية التي مورست بحق هذه الأمة , والتي باءت جميعاً بإخفاق ذريع , ليخرج الحل من بين ركام ذلك التدمير والقتل والسحل , وجداول الدماء والدموع , وأشلاء مئات الآلاف من الأبرياء..

وعبر سنين  متطاولة من الطغيان والاستعباد والبغي , وكل أشكال السحق والتطهير العرقي!!.
إن القضية – بما تحمل من أبعاد استراتيجية – تاريخيا وجغرافيا وسياسيا , تفرض نفسها, – ومن خلال إباء هذه الأمة – , واستعصائها على المحو والصهر, وتحديها لكل أشكال الإبادة الجماعية (الجينوسايد), ومظاهر التدمير والملاحقة والمطاردة والقهر, لينهض المجتمع الدولي , من خلال منابره ومحافله ’ وقوانينه وأنظمته, ولوائح منظماته الدولية , واتفاقاته المعقودة, ليأتي طرح الحل لهذه القضية , كأكبر قضية عالقة في العالم لأعرق أمة, لا تزال تشكو من كل أشكال التصدي لوجودها وإرادتها وامتدادها الوجودي هذا والدستوري, ومحاولة التعبير عن ذاتها وقيمها وثقافتها, لتبوء كل محاولات التجاهل وأشكال التذويب بالإخفاق الذريع, تحت وطأة هذا الثقل الدولي عرفا وقانونا ودستور حياة, إلى جانب الإدارة الكاملة لشعب آمن بوجوده المتميز وحضارته وتاريخه وجغرافيته, وتميز أبنائه بتمسك كامل بمقومات الوجود الإنساني والمعرفي والتاريخي, وإدراك عميق لجوهر القضية وأبعادها واستراتيجيتها في سياسة المنطقة , بما تشكل من ثقل كمي ونوعي, حيث نجد في كوردستان تركيا وحدها اثنتين وعشرين ولاية كردية تمتد من قرس وموش ووان وبدليس إلى أزرروم و ديار بكر وماردين ..

وعلى مساحة جغرافية تصل إلى 252000كم2 , وتعداد سكاني يقارب ثلاثين مليونا , بما لا يمكن أن يخفى مثل هذا الثقل, بالمقارنة مع وجود عشرات الدول التي تقل عن مليون نسمة تتمتع بحصانة دولية , وترفرف أعلامها على سواري الجمعية العامة للأمم المتحدة, إلى جنبا إلى جنب مع دول عظمى في سكانها كالهند والصين ممن يتجاوزون مليار نسمة , وأخرى في ثقلها السياسي والنوعي كأمريكا ودول أوروبا الكبرى ..

مما يطرح تساؤلا عميقا حول مدى جدية العدالة الإنسانية في مثل هذه اللوحة الحية والناطقة ؟! وحقوق الإنسان وشرعة الأمم المتحدة؟! ومدى حق هذه الأمة في هذه اللوائح أسوة بجميع شعوب وأمم العالم, هذه التي تعيش حالة صراع الوجود والبقاء!!.
إن طرح القضية الكوردية في تركيا – بأبعادها السياسية والثقافية والحقوقية – من المسائل الهامة والحيوية التي تتصل جذريا بحقوق الإنسان, ومسائل الديمقراطية, وقضية التاريخ والجغرافيا والوجود السكاني المتصل والممتد, والذي لا يمكن الاختلاف حوله , مع تماثل كامل في القيم والعادات والأعراف والثقافة والاتصال الطبيعي في التركيبة السكانية الكوردية  و التي تحول الحدود الجغرافية المصطنعة  دون تواصلها, ولكن الطرح الواقعي و الجدي لمسألة المركز , و الصلب الأساسي من القضية في تركيا , و التي تشكل محور القضية الكردية, و ثقلاً أساسياً إن هذا الطرح يتجاوب مع منطق الحياة أولاً , و التاريخ و إستراتيجية العمل فيه ثانياً ووفق معارف موثقة بشأن الوجود التاريخي للكورد ترقى  إلى آلاف السنين ( لا مجال للبحث فيه تفصيلاً) , و جعل وجود الترك الذي لا يكاد يتجاوز ثمانية قرون ..

و الإرادة السياسية الكاملة وثالثاً في وجوب تمتع هذا الشعب بجعة في الحياة السياسية واضحة المعالم , بما يشعره القانون الدولي , و حق هذا الشعب في إدارة حياته , وفي إطار حل وطني متكامل , ووفق الصيغ المقررة ـ ومن خلال طور تفاوضي جاد ـ وبمعزل عن كون حزب العمال الكردستاني منظمة خارجة عن القانون وفق وصف الإدارة التركية , و الذي يذكرـ مرة أخرى ـ بضرورة مراجعة جادة للمسئولين في هذا الملف , مع ما طرحه الحزب من هدنة من جانب واحد أكثر من مرة – وفي هذه الأيام بالذات – , و ما طرحه المسؤولون في إقليم كردستان العراق من استعداد كامل لنبذل جهود كقريب وجهات النظر , و التوسط لحل القضية وتناول جوانبها و أبعادها , هذا إلى جانب وجود شريك سياسي يطرح نفسه بقوة على الساحة الكردية , متمثل في إرادة سياسية لحل المسألة ومتابعة أفاقها كجناح سياسي لم يحمل السلاح , بل مضى إلى الانتخابات الديمقراطية  , ليحقق نجاحاً باهراً في أربعة عشرة ولاية وحزب المجتمع الديمقراطي (DTP) , إلى جانب قوة سياسية داعمة و مستعدة للتفاوض ..

ومن عمق المجتمع الكردستاني , بمختلف الاتجاهات و القيم و الانتخابات ..
و يبقى السؤال الأهم ـ و الذي يطرح نفسه بإلحاح ـ ما مدى جدية السعي لحل هذه المسألة وطرحها على بساط البحث ؟ , و ما هو المدى الزمني الذي يستغرق طرح هذا التساؤل المشروع , و الذي لا يزال  يشكل  عقدة مستعصية في الأوساط السياسية التركية , يلح عليها الشارع التركي  الذي يلح على نبذ كل أشكال الصراع و روائح الدم  والنار والدخان , بعد أن دخلت آثار الحرب النازفة كل بيت , ليؤكد على ضرورة الحل في أوساط  الساسة و النخبة و الجماهير الكردية أيضا , و كل المعنيين في الداخل والخارج بهذا الشأن الهام , و الذي يعد مفتاح حل لقضية هي من صلب قضايا الشرق الأوسط , و الذي لا يمكن أن تهدأ المنطقة دون حل عادل وجذري  و شامل لها , حيث لا يزال السياسيون في مختلف الأوساط يلحون على طرحها , و يتسابقون في وصف الجرعات العامة لأهم تشخيص في المجتمع التركي ..

و يبقى الجواب على الأسئلة الهامة رهن إرادة حية يدعمها المجتمع الدولي , و يترقبها المجتمع الكردستاني , ويسعى إليها الساسة و القادة و المفكرون في المنطقة و العالم , لنخرج إلى عالم أكثر عدلاً , و إشراقاً و أقدر على مواجهة قضاياها بروح إنسانية رفيعة و عالية , وبعيدة عن تزجيه الوقت و اللعب عليه، و سوء استغلال أنبل و أهم قضية تحرك الساحة إقليمياً و دولياً، لتتبوأ المكانة اللائقة بحل عادل و حقيقي و جذري.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…