القضية الكردية، ولعبة الرهانات في السيرك التركي العجوز

خالص مسور

يقولون بأن الحق يؤخذ ولايعطى، وهذا قول صحيح إلى حد ما بل ويرقى إلى مرتبة المثل السائر والقول الباصر.

ولكن ما مدى انطباق هذا المفهوم على الحالة الكردية الراهنة في تركية..؟ وما مدى انطباق النظرية على الممارسة ياترى؟ حول ما يدور اليوم في السر والعلن عن حقوق الأكراد في ظل حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركية؟ وما مدى مصداقية هذا الحزب الذي يبدو أنه مصمم اليوم أكثر من أي وقت مضى على الإعتراف بالخصوصية الكردية ومنح الأكراد بعض الحقوق السياسية والثقافية، نعم بعض الحقوق وإرخاء الحبل المغولي المشدود حول رقبة الكرد منذ ما ينيف عن أربع وثمانين سنة متواصلة؟ هؤلاء الكرد الذين تحولوا بقدرة قادر وفي ظرف ساعات من أتراك جبال إلى الأخوة الكرد حسب تعبير رئيس الوزراء أردوغان.

ذاك سؤال نلقيه على أنفسنا وعلى كل المهتمين بالشأن الكردي اليوم ووسط ما يجري من استعدادات تركية لحل القضية الكردية التي طال أمدها دهوراً وسنين وشهوراً؟.
هنا قد نسمع من يقول: بأن الرهان على حكومة حزب العدالة والتنمية له ما يبرره، فالحزب عقائدي إسلامي وذو نفوذ قوي في أوساط الشعب التركي، بالإضافة إلى إنه استطاع لجم العسكر وتحجيم تدخلاتهم في الشأن السياسي نوعاً ما، وهو ليس بالشيء القليل على الإطلاق في دولة مثل تركية تعيش على ميراثها العسكري منذ نشأتها وحتى اليوم، فهو إنجاز لا يجوز التهوين من أمره أو التقليل من قيمته لما له من أهمية في التقليل لشأنهم ودورهم ونفوذهم في المجلس المللي وهو أرفع سلطة في البلاد، وهو الذي لا ينعقد إلا في الحالات المصيرية وفي المصائب والملمات وحالات تعرض البلاد للخطر، وما يجري فيه من اتخاذ القرارات الهامة، كالقضية الكردية التي رأت سوقاً رائجة لها في تركية هذه الأيام مثلاً.
ولكني أرى أن كل ما قيل ويقال في الأوساط التركية ليس إلا ذراً للرماد في العيون فحسب، وأراها لعبة يائسة يلعبها الجانب التركي لخداع الأكراد مرة أخرى وسنبين هذا الأمرلاحقاً.

ولا يفهمن أحد بأنني لا أرى بوارق أمل ما تلوح في الأفق- بل أرى أن هذا الكلام وما يراد منه- وبالقياس إلى الطموحات الكردية – هو خدعة كبرى! وما سيتمخض عنه سيكون دون مستوى الطموح الكردي بكثير على الأقل أي لس بدون مقابل…؟.


وطرح القضية بهذا الشكل المريب وسط (الأوبراسيونات) أو تمشيطات الجيش لجبال كردستان لا يبشر بخير عميم، وما تفوه به الأتراك من بعض حقوق لم تأت طبعاً إلا بعد نضال مرير ودماء مئات بل الآلاف من الشهداء الكرد الذين قتلوا واستشهدوا نسوراً في قمم الجبال ليمحو بدمائهم الذكية عذابات قهر دامت أكثر من ثمانين سنة متواصلة تحت حكم جنرالات الحكومات التركية المتعاقبة، و بدماء أبرياء قتلوا على أيدي ما سمي بـحزب الشيطان (حزب الله التركي)، الذي كان أفراده في الثمانينيات يتصيدون الكرد الأبرياء في الشوارع وفي بيوتهم نائمين وفي الساحات العامة لافرق..!.

أو على أيدي المنظمة العنصرية الإرهابية مؤخراً والمساماة بـ(أرغنيكون) الإرهابية التي أسسها ضباط أتراك متقاعدون لقتل وإبادة وتهجير الشعب الكردي من موطنه، أو حراس القرى الذين قتلوا وسلبوا ونهبوا بالتعاون مع أمراء وجنرالات الحرب التركية الخاصة.

وليس آخرها القتل بالجملة على الطريقة العراقية وبدون تمييز لأربعين محتفلاً في حفلة عرس في منطقة ماردين منذ شهر ونيف.

بالإضافة إلى أن الكردي يعتبر اليوم أسيراً في أرض آبائه وأجداده والذين يعتبرهم الأتراك ممن لا مملكة لهم ولا وطن، وكل منا يعلم من أين جاء الأتراك ومن استضافهم في أرضه وهم مهاجرون فقراء على أبواب الله في القرى والمدن الكردية، والذين سرعان ما تحول المتعصبون منهم من ضيوف إلى أصحاب بيت، مسكوا بخناق مضيفيهم من الكرد ورموا أحجاراً في البئر الذي شربوا منه، وخانوا ضمائرهم وكل القيم الإنسانية، ليعتبروا الأكراد اليوم مهاجرين أو غجرلا أوطان لهم بينما هم أصحاب القرار والأرض والعقار.

  
واليوم وبعد أكثر من أربع وعشرين سنة مضت من التضحيات والشهداء الذين قدمهم الكرد على مذبح الحرية بقيادة العمال الكردستاني نرى نتيجتها المظاهرات المليونية الكردية الحاشدة في ديار بكر وكل المدن الكردية في تركيا علناً في الشوارع وعلى رؤوس الإشهاد وهم يهتفون بحقوقهم القومية المشروعة وفق كل الشرائع والقوانين الدولية، بعد أن كان الكردي يخشى أن يتلفظ باسمه الكردي ويعرف نفسه به.

ولكن بدأ مسار الحرب القاسية يتغير لصالح الكرد بعدما مني الجيش التركي بالهزائم المتلاحقة وهو الجيش المعتد بنفسه، في معارك الزاب، وبيدري، وأورامار، وما رافقها من أسر مجموعات من أفراد الوحدات الخاصة التركية في ميادين الحرب حتى قال الرئيس الأمريكي جورج بوش قولته الشهيرة آنذاك: (غير معقول ما يفعله الأكراد بالجيش التركي).

ثم فورة الأزمة المالية العالمية التي بدأت تصل أوارها إلى تركية نفسها والضغوطات الاوربية على الدولة التركية، كل هذه العوامل ادت إلى رضوخ حكومة حزب العدالة والتنمية للأمر الواقع وطبعاً بضوء أخضر من جنرالات الجيش، ملمحة إلى إمكان إعطاء بعض الحقوق للأكراد ضمن تركية الموحدة نعم تركية الموحدة لابأس.


وبدأ أركان الحكم يجرون لقاءات مع الجماهير التركية في هذا الشأن حتى أن الرئيس عبد الله غول أعلن في إحدى زياراته مؤخراً إلى كردستان وهو يخاطب الجماهير الكردية، عن عودة  إحدى القرى الكردية إلى اسمها الأصلي (نورشين) وقال: نعم إن قريتكم من الآن فصاعداً يعود إليها اسمها الكردي /نورشين/.


كما سمحت الحكومة لبلدية ديار بكر قبل أيام بفتح /أكادمية سياسة للكرد/ وغضت الطرف عن افتتاح معاهد للغة الكردية في استانبول ومدن كردية أخرى، وهذا جيد بالقياس إلى ما كان الأتراك ينكرون الهوية الكردية برمتها، بل كان الكردي في المتروبولات التركية يخجل حتى من التكلم بلغته.

ولكني رغم هذا لست متفائلاً بما فيه الكفاية أو حذر مما يعلنه الأتراك وأتوجس خيفة مما يقولون،  وأرى ما رآه العامل الأموي على خراسان نصر بن سيار حينما استشعر الخطر العباسي على دولة بني أمية: (إرى وميض جمر تحت الرماد  أوشك أن يكون لها ضراما).

أي ما أقصده هو أنني أستشعر رائحة مؤامرة تركية تعطي للكرد بيد شحيحة وما لم يرضي طموحهم لتخرق بالمقابل بها صفوفهم وتزلزل مركز قوتهم حسبما يرسمون ولكن هيهات.

ويقيناً ما نراه حتى الآن – وكما هو واضح – هو أن تصرفات الحكومة التركية أشبه بألا عيب بهلوانية في سيرك الرهانات التركية، فهم يريدون خداع الكرد في وضح النهار وهذه الإستنتاجات – رغم أنني غير متشائم إلى أبعد حد- تعود إلى الأسباب التالية:
1-  في الوقت الذي بتنا نشاهد حركة دائبة للمسؤولين الأتراك للإلتقاء بالشخصيات التركية والكردية وأصحاب الحل والعقد من الشعب التركي، وهم يطرحون نوعاً من الحل للقضية الكردية، لأن الحكومة التركية ترى نفسها عاجزة لوحدها عن حل قضية كبيرة بهذا الحجم، وأنها ليست قضيتها وحدها بل هي قضية الشعب التركي بأكمله، أقول بنفس نرى جيشهم لا ينزل من سفوح الجبال يقوم بتمشيطات ضد مقاتلي الجبال، وفي المدن والقرى يقوم البوليس بشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف حزب المجتمع الديموقراطي الكردي الشرعي (D.T.P) والذي له نوابه في البرلمان التركي كممثلين للشعب الكردي.

فهذا أول تناقض وبادرة عن سوء النية والمقصد…!!!.
2- كلام أردوغان في يوم الأحد/29/من هذا الشهر أيلول 2009م أمام الصحفيين وهو يكرر أقواله الإنكارية السابقة/ تك دولت- تك مللت- تك زمان/ وهو التناقض الغريب والمريب الثاني بين الأقوال والأفعال.
3- يوم الإثنين من نفس الشهر وفي اجتماعه مع بعض قطاعات الشعب قال وزير الداخلية التركي بشير أتلاي: إننا لن نتفاوض مع حزب العمل الكردستاني وهو عدونا الرئيسي وسنقضي على أفراده بالقوة والسلاح.

وهذا هو التناقض الثالث في مجرى أحداث حل القضية الكردية في تركية، وما نعلمه وحسب الاصول إذا لم يكن هناك مفاوضات بين طرفين معنيين بالأمر فلن يكون هناك شيء إسمه حل، وليس هناك حقوق تعطى.
4- وضعت سلطات سجن إمرالي يدها على خارطة الطريق الذي كتبها أوجلان في سجنه والمكونة – حسبما يشاع- من (160) صفحة وتمتنع السلطات عن تسليم نسخة منها لمحاميه حتى يمكنهم من عقد مؤتمر صحفي حولها ونشرها وإذاعتها على الملأ.

وهذا هو التناقض الرابع بين الأقوال والافعال لدى أطياف الحكومة التركية، وهي التي تزعم أنها ستحقق للأكراد حقوقهم من جانب واحد وبدون التفاوض مع أصحاب العلاقة حتى يتسنى لها ركل كل هذه الحقوق بالأرجل دفعة واحدة متى ما شاءت وأنى أرادت.

وبهذا قد تتوضح عسر ملامح سير محاولات الحكومة التركية لحل القضية الكردية، وخاصة بوجود من يحاولون وضع العصي في عجلات عربة الحل مثل، حزب الحركة القومية(M.H.P) بقيادة رئيسه العنصري المتطرف (دولت بخجلي)، وحزب الشعب الجمهوري(C.H.P) بقيادة المتطرف الآخر (دنيز بايقال)، أي ما أريد قوله هو أن الحكومة لا محالة ستجد طريقة ما لحل القضية الكردية على مقاساتها هي، وبالمقابل ستحاول التحقيق بالسلم ما عجزت عنه بالحرب، وعلى أمل إحداثها لشروخ وانشقاقات في الصف الكردي، والفصل بين أوجلان وحزبه من طرف وبين وحزب المجتمع الديموقراطي (D.T.P) الكردي من طرف آخر، وهذه لعبة مكشوفة فات أوانها فالأكراد أكثر وعياً اليوم من أكثر من أي وقت مضى، وسوف لن ولن ينجروا وراء مثل هذه المؤامرات المرسومة في وضح النهار…!!!.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…