وين الملايين

الدكتور شمدين شمدين
في البدء كانت الهتافات في الميدان ، يحيا القائد ،عاش القائد، معا إلى الأبد أيها الزعيم الصامد، هكذا كانت تهتف الملايين العربية باسم القائد ،ومن اجل أن يبقى القائد في القمة كانت الجماهير دائما في الميدان ومستعدة لبذل الغالي والنفيس ، ومن اجل أن لا يترجل الفارس الأكبر عن صهوة جواده، كان الهتاف يشق ستائر السماء ويخترق تيارات المحيطات ليكشف عن ضعف هذه الأمة، وعن زيف الشعارات التي ظلت لعقود طويلة ،تبعد الطعام والشراب عن أفواه الأطفال، وظلت لسنوات طويلة تحاصر الإنسان العربي بوهم التضامن العربي ،والشعور العربي المشترك ،والأهداف العربية الواحدة
،وها نحن اليوم أمام كل هذا الزيف المتوارث منذ عقود، فلبنان الجريح ، لبنان الأرز والجبال الشامخات ، لبنان بلد الإبداع والفن والجمال يبكي وحيدا منذ أكثر من أسبوعين، ولم يكلف عربي نفسه عناء الهتاف والصراخ معه ،كما كان يفعل للزعيم الأوحد ،لم نجد عربيا واحدا بل حتى مسلما واحدا يهاجم السفارات الإسرائيلية والأمريكية في الدول العربية والإسلامية، كما فعل حينما أساء احد الصحفيين المجانين إلى مقام الرسول الأكرم ،وكأن دماء اللبنانيين والفلسطينيين وحتى العراقيين، قد أصبحت شيئا عاديا لا تثير في النفس غير الاشمئزاز والقرف ، وان العرب قد اعتادوا على هذه المناظر ، وأصبحت الدماء مثلها مثل غيرها ، تسيل قليلا أو كثيرا لا فرق ، ليأتي بعدها عامل التنظيفات ليغسل الشارع الملوث من هذه الدماء، وليعطره بائعو عطور هيفاء ونانسي لتصبح نقية نظيفة جاهزة لمرور موكب الأمراء والقادة الميامين.

أسابيع مضت ولبنان يصرخ ، وين الملايين ولا من مجيب ،الملايين صدقت ربما كذبة الزعامات وأيقنت إن هذه الحرب هي حرب إسرائيلية- إيرانية على ارض لبنانية ،والأفضل للأنظمة والشعوب العربية أن تتفرج كما يفعل زعماء لبنان في قصورهم الفارهة، التي تتجنبها الطائرات الإسرائيلية حتى تحافظ على الحكومة التي ستجني ثمار المعركة ، وستأخذ زمام الاستثمار وإعادة الاعمار لتكدس من جديد المليارات في البنوك الأجنبية .

أسابيع مضت والضحايا تتساقط يوميا كأوراق الخريف الصفراء، ولكنها في هذه المرة الأوراق حمراء قاتمة ، لم تستطع الأيادي أن تنتشلها من تحت الأنقاض والركام ،فاكتفت بقطعة من ساعد أو قدم أو حتى إصبع لطفل صغير .

أسابيع مضت والعرب مازالوا نياما ،بعد أن أوهمونا لسنوات طويلة بشعارات العدو الإسرائيلي ،ومعركة الوجود واللاوجود ، وسخروا كل خيرات الأمة لهذه المعركة وهاهي المعركة قد بدأت فماذا ينتظرون ،هاهو حزب الله يحارب وحيدا في الميدان وبدا انه في طريقه إلى تلقين إسرائيل درسا في الصمود والإباء ،وان الإيمان يزرع في النفس قوة لا تستطيع اكبر جيوش الأرض أن تقضي عليها ، ماذا ينتظر العرب إذا، ولما انقلبت عندهم الموازيين فبات الخطر الإيراني والتمدد الإيراني والشيعي اكبر وأعظم عند القادة وحتى الشعوب العربية من الخطر الإسرائيلي ، أليست إيران هي نفسها التي أغلقت سفارة إسرائيل في طهران ، وفتحت بدل عنها سفارة فلسطين ، أليست إيران نفسها التي تدعو إلى تدمير إسرائيل وإزالتها من الوجود ، وإقامة دولة فلسطين على كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر، نعم هي نفسها ولكن الظاهر إن العرب ينسون سريعا ،ويركضون دائما خلف الشعارات التي أضاعت فلسطين وأضاعت العراق وجعلته ساحة للعنف والإرهاب ، و اليوم لبنان في طريقه إلى الهلاك والضياع ، وغدا السودان وبعد غد الصومال ، وهكذا تتساقط جراء الزيف العربي والوهم العربي دولة عربية تلو الأخرى ، وليس في الساحة من صرخة احتجاج أو استنكار ، ليس سوى صراخ الأطفال في قانا وغزة وبغداد ولكن حتى هذه الصرخات ما عادت تحدث في الميت إيلاما ، وما عادت تهز شعرة من الشعرات الذهبية للأميرات والفنانات والمثقفات العربيات وحتى الشحادات العربيات فاليوم الحرب في لبنان بين عدوي العرب إيران وإسرائيل ، ومن يربح سنصفق له كثيرا ، وسنقبل أياديه وأرجله كثيرا ،ونقيم معه امتن العلاقات وسنمحو كل آثار المجازر والويلات وصور الأطفال ممزقي الأجساد ، والنساء الحبلى بالدموع والصراخ ، أما الآن وفي هذه اللحظة فمن الأفضل لنا أن نطبق المثل العربي المعروف : أنا واخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب والظاهر إن الغريب اليوم هي إيران والقريب هو إسرائيل ، هكذا تقول وتردد كل الشفاه العربية والعيون العربية المتوارية بخجل خلف خطابات أصحاب الجلالة والسيادة والسمو وفي ظل هدير طائرات ال f16 التي مازلت تقصف بيروت يوميا وساعة بعد ساعة بل لحظة اثر لحظة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…