في صميم النقد وبعيداً عن الوصاية المقيتة: درءاً لالتباس موصوف

إبراهيم اليوسف

تردّدت كثيراً عن نشر مقالي “في الممارسة النقدية كردياً”  بعد أن فرغت من كتابته ، ولم أضع اللمسات الأخيرة عليه، إلا في أواسط الشهر الجاري ، ولأؤجله لعدة أيام أخرى ، مختاراً توقيتاً محدداً لنشره، لئلا يحسب على أحد ، ولئلا يحسبه أحدهم منافحة عنه ، وهو ما لا أقبله إلا مع من يناضل واقفاً ، و لئلا يتوهم أحد بأنه موجه إليه ، أيضاًً،  لأني أردته مساهمة، متواضعة ، لتوجيه الجهود النقدية الجادة، في الاتجاه الصحيح ، خاصة بعد أن لمست أن بعضاً مما نقرؤه  من الكتابات لا يدخل في عملية النقد ، إنما هي كتابات ثأرية.
كما أنّني تابعت عن كثب بعض الأسماء التي تكتب، ووجدت من بينها من استبشرت به خيراً ، لما وجدت لديه من جدية في بعض طروحاته ، مختلفاً معه في بعضها الآخر،  ولم أحاول محاورته لأنني أبتعد ما أمكن عن ضروب الوصايات، ناهيك عن أن الكاتب المذكور- رغم عدم لقائي الشخصي به، سوى مرتين، كما أتذكر- إحداهما :حين كان طفلاً، ذكياً، التقيته في منزله، بعد أن زرت والده أحد معلمي في الابتدائية، وكان قد تعيّن معلماً إلى حين، في قريتنا، قبل ولادة هذا الشاب ، بل في مطلع شباب والديه ، لينقل من مدرستي تلك ، بعد أن فرحت لأنه أول معلم كردي ، عرفته مدرستنا ، إلا أن فرحتي لم تدم، لأن معلمي سرعان ما نقل ، ليهديني أول قلم أتلقاه، كهدية، من شخص خارج محيط الأسرة ، و أولى طاولة كتابة، كتبت عليها أولى وظائفي المدرسية ، وتابعت فوقها دروسي ، بل وطالعت عليها أولى كتب المطالعة، إلى أن أصبحت في الثانوية ، ولم ألتق معلمي هذا ، الذي ترك آثاراً عميقة في روحي ، لتصلني تحياته بوساطة أبي ، بين حين وآخر ، وأتشوق للقاء به ، أسأل عن حاله ، كما أفعل الآن ، إلا بعد أن نقلت – تعسفياً-  من ملاك التعليم الثانوي، إلى ملاك التعليم الابتدائي ، لأكون وجها ً لوجه زميلاً لمعلمي، في المدرسة التي يعمل فيها ، يخفّف عني مرارة الصّدمة، في الوقت الذي كان ينظر فيه إلي من قبل “العيون” شزراً ، لأني أرفض لغة المصفقين والببغاوات والنهازين ، ولقد أفردت لوالده صفحات في كتابة مذكراتي عن مرحلة الطفولة الأولى ، وكانت المرة الأخرى التي التقيته خلالها في أوربا، حين التقينا في منزل أحد الأصدقاء، وكان قد غدا شاباً ذا حضور لافت ، يناقش بهدوء وحماس، في قضية مطروحة عقب الثاني عشر من آذار2004،  ولأشعر تالياً بغبطة حين أجد ابن معلمي، قد انخرط بدوره في حمل راية الكتابة، ويكتب أفكاره باسمه الصريح ، وهي شجاعة منقطعة النظير ، كما يخيل إلي ، بعكس من يتوارى وراء “أسماء مستعارة” في مواجهة الأهلين ، وأعني هؤلاء الذين يكتبون لأسباب ثأرية ، غير موضوعية ، لا أناقشها في الأصل – وأزعم- في هذه المناسبة – أنني في العام 2003 كنت أول كردي، دعا لميثاق شرف لكتاب الأنترنت….!

 ولقد  أبديت إعجابي خلال أكثر من مجلس، ولقاء ، ببعض كتابات هذا الكاتب ، وحاولت أن أراسله شخصياً الكترونياً وهو ما قد أفعله عادة ، مع كثيرين ، إلا أن ظروف الحياة الثقيلة التي جعلتنا نحتاج لأن يكون يومنا مئة يوم ، دون أن يكفينا ، لم تسنح لي الفرصة المؤاتية، لذلك، ولم أفكر بمناقشته الرسمية، احتراماً لمنزلة أبيه الكبيرة لدي، ولما وجدت في قلمه من قدرة على التعبير،  وما لديه من روح متابعة، لأبدي ملاحظات طفيفة حول بعض كتاباته التي رأيت أنها تكتب بجدية ، لولا بعض اللحظات الانفعالية فيها ، كما يخيل إلي – وليعذرني على رأيي-  وكنت  ولا أزال أرى فيها نتاجاً للغيرة، وإن كانت هناك فروقات في الرأي بيننا، وهو ما أشدّد عليه.

  حقيقة ، إنّها فرحة كبرى أن أجد الآن آلاف الأسماء الكردية التي تكتب بشكل  ممتاز ، بعد أن اضطررت للكتابة في قضايا، لم أكن مختصاً فيها – وخاصة أثناء مراحل الحاجات القصوى إلى مثلها- بل اضطررت أن أخوض- مع قلة- غمار شرف الكتابة فيها، و كان ذلك بمثابة واجب ، مقدّس ، لم أتهرّب منه ، وكثيرًا ما كنت أعلن بأنني بعد أن وجدت مثل هذه الأسماء قد انخرط في لجّة الكتابة ، بعيد أوتي أكل جنى الثورة المعلوماتية ، كردياً ، وانهيار جدار الرقابة ، لا بدّ أن أعود إلى مشاريعي الإبداعية المؤجلة منذ ما يقارب عشر السنوات، وهو ما أفعله ، الآن ، بدأب ، خاصة ، وإنني للتو بدأت أشعر بمرارة  ضياع الوقت مع أني- والحمد لله- لم أشعر لحظة   بأني كتبت ممالقاً لأحد ، بل كنت من الأصوات الأكثر استفزازاً في مواجهة الخطأ ، ومن الأصوات  الشجاعة في حزبي الشيوعي ، كما أزعم ، واقفاً على الدوام ضد مصلحتي ، وعلى حساب لقمة أسرتي ، ولعل من يقف في وجه الاستبداد الكبير ، ويشطب في دفتره على المنافع الكبرى ، لن يرضى بأي ضروب أخرى ، وفي لحظات كثيرة يكاد يكون ثمنها : حياتي ، ودأبت في حزبي الشيوعي أن أكتب ما لا يقبله رفاقي عن القضية الكردية، التي حافظت على علاقة الاحترام مع رموزها- ومن بينها بعض من أعرفهم من أسرة الكاتب نفسه- من خلال الوقوف على مسافة واحدة من جميعهم ، وتوجيه النقد بحيادية أنى لزم الأمر- محافظاً ما أمكن على آصرة الاحترام-معهم ، منحازاً للعمل الميداني ، والنأي عن التطويب لمن ليس لديهم سوى التنظير الزائف ، مشخصاً هذه الحالات ، دون أن أسمي أحداً إلا في حالات نادرة ، رغم أن مثل هذه الكتابات كانت تفعل فعلها، وكانت تؤلب علي من أعنيه كردياً ، وهو ما جعلني أدفع الضريبة أكثر من مرة.

 ولعلّ دفاعي عن الحركة الكردية بشكل مباشر ، في ظلّ ظرف معين ، جاء أثناء مراحل حساسة ، لا أعتقد أن الكاتب نفسه كان سيقوم بعكس ذلك ، في مواجهة الرصاص ، والظلم المباشر، خاصة وأننا كنا بحاجة للمّ الشمل ، وأن كل كردي كان مطلوباً فيه ، بغض النظر عن تصنيفاتنا
، لكل طرف على حده ، ولا أريد أن يشطب على النقد الموضوعي والجاد، من خلال قوننة طوارىء كردية ، كما يتم منذ العام 1963 ، مع أن عامل الاضطهاد لشعبنا لما يزل، ولكن على هذا ألا يحول دون مواجهة من يتهرّب من واجباته النضالية ، وهو ما فعلته في مقالي الأخير “في الممارسة النقدية كردياً” والذي أشير كما فعل الأخ صاحب المقال مشكوراً إلى نزلاء المضافات الكردية – ولكم أود لو يعرفهم عن كثب- هذه المضافات التي أرفضها، جملة وتفصيلاً، لأنني لا أشعر بعقدة نقص، تجاه أحد ، منذ أن وعيت، كائنا من يكون ، ولم يعل لأحد منهم صوت على صوتي ، في ظروف إمكاناتي ، ولن أتعالى على أحد ، فلكل من يناضل الاحترام الكبير مني، بيد أن منزلي – والحمد لله- مضافة متواضعة، لأحبتي أينما كانوا، ويعرفه في الوطن ، من عمل ميدانياً، وإبداعياً، على امتداد ثلاثة عقود ، ولايزال، وبعيدا ً عن لغة التنظير والإدعاء الأجوفين.

لزميلي الكاتب ، وابن معلمي أقول: مرحبا ً بك كاتباً كبيراً ، ولطالما كنت شخصياً محتضناً للكتاب الجدد – ولا أراك جديداً كما صنفت نفسك – ومنهم من أصبح الآن سفيراً لامعاً للكلمة خارج وطنه ، أو حاملاً لجمر الإبداع داخل الوطن ، واعلم ابن أخي، وصديقي، أني لست ممن ينازلون لمجرد النزال، أو سواه ، ولقد مرّ علي كثيرون من هذا الأنموذج ، وأني لا أتورع عن الخوض في غمار الكتابة أنى دعا لها داع، لأن الكتابة لدي ليست نزالاً مع كردي ، إلا لدفع الحوار في الاتجاه العام ، ولدفع الظلم عن كاهل شعبي ، ولم أدفع كضريبة للكتابة إلا المتاعب والمعاناة، ولعق الأذى بأنواعه – ولا أريد توصيفه في آلم لحظاته- لأني أتخيلك متابعاً جاداً منصفاً ذا ضمير حي ، كما أريد لك ، ومن حقي أن أريد الخير لكل أهلي ، ولاسيما من أحب، وإن كنت تسمح لي بكلمة أخيرة أقول: إنني أريد أن تستمر بقوة في مضمار ممارسة النقد، بعيداً عن تجريح أحد، وهو رأيي ، واعلم يا عزيزي، أني سأبتهج حين أصنفك مع من أريد ، في الخندق الأمامي، كي تكون يدك على ضميرك، بعيداً عما يستجرّه بريق الكتابة الاستفزازية  العرضي وهو- يقيناً – الموقع الذي أريده لك ، لا كما توقعت أني صنفتك ، بل وأني حاولت أن أصب مقالي في الاتجاه نفسه، ولم يكن من صاحب رأي محدد في بالي حين كتبت هذا المقال.

أجل ، نجل صديقي، إنني لأغتبط بك، وبقلمك ، لأنك ترفع العبء عن كاهلنا ، واعلم أنك موطن اعتزاز لدي ، وإنك لحر في مواقفك ، وآرائك ، لأنني ممن يخسرون في كتاباتهم ، ولست ممن يكسبون بها أو يتكسبون ، ولعل بعضهم من جيل أحفادي- كتابياً- ليس لديهم أي استعداد أن يتفرغوا -كما أفعل كصحفي كردي قديم- للكتابة المجانية ، وهو من حقهم ، في لحظة الحاجة إلى أي عمل ، من قبلي ، وتعرضي لألسنة نار من جبهات عديدة، بعيد كل مادة، وليس على صعيد واحد فحسب ، بل على عدة أصعدة ، لأننا لا نزال ممن يكتبون من داخل الوطن ، وأشدّ على يديك ، وعلى أيادي كل من يتطوع مثلك ، لخوض غمار الكتابة الجادة من أجل قضيتنا ، أجل ، الكتابة التي لم نجن منها على الصعيد الشخصي إلا المزيد من الإرهاق،  والمتاعب ، لأننا توجهنا إلى الخيار الصعب، لا الخيار السهل، وشتّان ما بين الخيارين، شتان……….

27-7-2009
elyousef@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…