مما يجعل نظام الجمهورية “الإسلامية” بهذا المعنى أقرب إلى نظم الملكيات المطلقة والنظم الكنسية البائدة منها إلى النظام الجمهوري بمعناه العريض.
صحيح أن الصراع الدائر اليوم في إيران هو في ظاهره صراع بين اتجاهين سياسيين (إصلاحيين ومحافظين) هما من حيث الشكل ينتميان إلى دائرة النظام نفسه والمنظومة العقائدية نفسها, ولكنه من حيث تداعياته على الصعيد الشعبي, تمثل طعناً في مشروعية نظام ولاية الفقيه وسلطاته المطلقة, بل وتمثل طعناً حتى في نظام الجمهورية “الإسلامية” نفسه, وقد شهدنا المتظاهرين يطلقون شعارات من قبيل لا للدكتاتورية, يسقط الدكتاتور, في إشارة مبطنة إلى خامنئي الذي ظهر منحازاً إلى محمود أحمدي نجاد في الوقت الذي كان يفترض به أخذ جانب الحياد في هذا الصراع, مما يؤشر على سقوط تلك الإحاطة التقديسية التي تمتع بها مركز ولي الفقيه في الوعي الشعبي, وشهدنا وكذلك نساء يرمين نقابهن في دلالة على نزوع شعبي يصبو إلى التغيير الديمقراطي والتحرر من القيود التي يفرضها النظام الإسلامي ولو كان تدريجياً وبعنوان إصلاحي ومن دائرة النظام نفسه.
إذاً، الأزمة الإيرانية هي أبعد من مجرد نتائج الانتخابات وقضية خسارة الفريق الإصلاحي (موسوي وكروبي) الذي لا يختلف كثيرا في توجهاته وأطروحاته عن الفريق المحافظ, وإنما تدل على استياء عارم في الشارع الإيراني من أسلوب إدارة البلاد ومن الاستبداد وغياب الحريات وسيطرة المافيات المالية, لتطال ما يسمى (بالمشروعية الثورية) لنظام الجمهورية الإسلامية القائم على المذهب الشيعي ألاثني عشري, الذي يخفي من ورائه نزوعاً فارسياً صفوياً عنصرياً, مؤسساً على إقصاء المذاهب الأخرى والقوميات الأخرى, كالقومية الكردية والعربية والاذرية والبلوشية وغيرها والتي تشكل نصف الشعب الإيراني.
وقد كشفت الطريقة الوحشية في تعامل القوى الأمنية الإيرانية مع التظاهرات الشعبية السلمية وفرض التعتيم الإعلامي المطلق عليها, عن حقيقة النظام القمعي البوليسي الذي يحكم إيران وعن زيف مزاعم الاستقرار الذي يتشدق به النظام الإيراني, وعمق المأساة التي تعيشها الشعوب في إيران.وأياً كانت النتائج التي ستفضي إليها هذه الاضطرابات سواء حقق المتظاهرون بعضاً من مطالبهم أم لم يحققوها في المدى القصير بسبب القمع الوحشي, فإن إيران ما بعدها لن تكون كإيران ما قبلها, ويمكن اعتبار هذه الاضطرابات الحد الفاصل بين مرحلتين في عمر الجمهورية “الإسلامية”, قد تكون المرحلة الجديدة هي بداية تداعي أركانها, وقد أجرت وسائل الإعلام مقاربة كان فيها الكثير من الواقعية بين هذه الأحداث و بدايات انطلاق الثورة الخمينية على النظام الشاهنشاهي.
لاشك أن هذه الاضطرابات قد كشفت عن عمق أزمات إيران, وسوف تؤخذ المعطيات الجديدة التي أظهرتها, على محمل الجد لدى الغرب في تعاطيه مع إيران وقضية برنامجها النووي.
لأن الغرب يدرك أنها (أي هذه الاضطرابات) ستؤدي إلى انكفاء إيران بعدها إلى حجمها الطبيعي وإلى داخل حدودها الجغرافية, ولا يغير من هذه الحقيقة تلك المناورات العسكرية الاستعراضية التي أجرتها إيران بالتزامن مع الاضطرابات الداخلية.
فقد تبين الآن لماذا استنفر خامنئي ومجلس صيانة الدستور إلى مباركة نتائج الانتخابات لصالح محمود أحمدي نجاد رغم الشكوك الكبيرة التي تحيط بصحتها ونزاهتها, ولماذا باشرت الرموز المحافظة في النظام إلى التصلب في التعاطي مع مطالب المتظاهرين بإلغاء نتائج الانتخابات, وإلقاء اللائمة على الغرب بإذكاء التحركات الجماهيرية, لأن الخشية لدى التيار المحافظ وعلى رأسه خامنئي من أن تؤدي الاستجابة لمطالب الاصطلاحين إلى تجربة إيرانية مشابهة لتجربة الاتحاد السوفيتي مع غورباتشوف وهو على دراية بما يخبئ لهم على المستوى الشعبي وعلى استعداد لإراقة الكثير من الدماء, ولكن تبقى الشعوب الإيرانية من الشعوب الحية, لا يمكن أن تستسلم لمنطق القمع والبطش في التنازل عن حقوقها.