الحركة الكردية في سوريا، عمر طويل واستحقاقات مؤجلة

  افتتاحية جريدة الوحدة (YEKÎTÎ) *

  في بداية النصف الثاني من القرن الماضي كانت سوريا لا تزال حديثة الاستقلال تخوض معركة بناء الدولة، وتعترض مسيرتها تحديات داخلية تعيق التجربة الديمقراطية الوليدة التي واجهتها انقلابات عسكرية متتالية بهدف إجهاضها مثلما واجهت بروز الفكر القومي الشوفيني الذي انتعش في صفوف بعض الأحزاب القومية، وبات يشكل خطراً يهدد الشراكة الوطنية التي صنعت الجلاء وينزع نحو الهيمنة والاستفراد لدى نخب الأكثرية الحاكمة لتمارس الشطب على الآخر المختلف قومياً ودينياً وسياسياً على طريق تحويل هذا البلد إلى محمية العنصر الواحد واللون السياسي الواحد ثم إلى بلد الحزب الواحد فيما بعد، وبذلك تعرض مفهوم المواطنة لأضرار بالغة وتراجعت الآمال المعلقة على أن يكون الوطن للجميع ومنهم الكرد الذين أخافهم احتداد الشعور القومي العربي وهددهم بالانصهار في بوتقة القومية العربية وهو ما جاهرت به جهات شوفينية في ظل قراءتها الخاطئة لتاريخ المجتمع السوري المتعدد الألوان والقوميات.
 وشكل ذلك ظروفاً مستجدة أبرزت ضرورات البحث عن كيفية صيانة الذات القومية الكردية، مما استدعى حراكاً سياسياً على شكل منظمات وجمعيات شبابية وثقافية توجت في 14 حزيران عام 1957 بالإعلان عن أول تنظيم سياسي كردي تعبيراً عن إرادة الشعب الكردي في الدفاع عن وجوده وحقوقه والتصدي لمحاولات التنكر لدوره كشريك في وطن أصبح للجميع بحكم الأمر الواقع الذي أفرزته اتفاقات سايكس – بيكو ، وفرضت عليه بموجب ذلك التزامات الدفاع عنه والمحافظة على سيادته واستقلاله والمساهمة في بناء مستقبله.

  ولكن، ولأن القاموس الشوفيني لم يعرف يوماً معنى ودلالات الشراكة والتعددية القومية والسياسية، فقد استقبل التنظيم الجديد بالقمع والاعتقالات والملاحقات التي شملت المئات من كوادره وإجباره على اللجوء للعمل السري مما أثر سلباً على حياته الداخلية وإعاقة تطوره الفكري والتنظيمي، وتسبب في انتعاش ظاهرة التشتت التي ساهمت في تعميقها مجموعة من العوامل، كان منها انعدام الشفافية داخل كل تنظيم مما نجم عنه بالتالي غياب المناخ الديمقراطي اللازم لتفاعل الآراء بين الأعضاء والهيئات، والذي يعتبر ضرورياً لاكتشاف المواهب والكفاءات، بالتوازي مع تحديد مواقع الضعف والخلل، واختيار الكوادر الجديدة والبديلة لقيادته ، إضافة إلى العامل الكردستاني الذي كان له تأثير في عملية التشتت نتيجة الإنكار والقمع الشوفيني الذي دفع الحركة للالتجاء للبعد القومي، بكل ما يعني ذلك، من الانخراط أحياناً في محاور كردستانية مختلفة، وأحياناً متصارعة، انعكست سلباً وانشقاقاً في الداخل الكردي السوري، كما أن عجز الحركة الكردية عن تحقيق أي مكسب ملموس لجماهيرها أضاف عاملاً ذاتياً متّهماً بالتقصير، ومبرراً لدعوات التغيير والانشقاق.
  وهكذا تتالت الانشقاقات ليصل عدد التنظيمات إلى رقم لا يبرّره منطق سياسي أو تباين اجتماعي أو اختلاف فكري أو ضرورات نضالية،وتصاعدت معها حدة الصراعات الحزبية ووتيرة المهاترات الجانبية
التي ألهت الحركة الكردية ولا تزال وفرضت عليها العزلة لتنغلق ردحاً طويلاً من الزمن على نفسها، وتبتعد عن اهتماماتها الوطنية مقابل انجرار قسم منها نحو الخارج الكردي بدلاً من الانخراط والمساهمة في النضال الديمقراطي الكردي السوري، وانتعشت في ظل هكذا أجواء بعض الأفكار التي تنقصها الحكمة والواقعية، وتنامت أحيانا بعض الشعارات غير المنسجمة مع الثقافة السياسية الكردية، والتي تخاطب العاطفة دون أي حساب لإمكانات التطبيق أو اعتبار لمنطق الربح والخسارة، فكانت النتيجة خلق حالة من التردد، وأحياناً التشنج وردود الأفعال السلبية، لدى العديد من المثقفين وعناصر النخبة السورية المتفهمة لعدالة القضية الكردية.

في الوقت الذي كانت تقتضي فيه المصلحة الوطنية التأكيد على مصداقية وواقعية الطرح السياسي الوطني الكردي وسحب الذرائع من تحت أقدام الشوفينية والتأكيد دائماً على أن القضية الكردية هي قضية وطنية بامتياز، وهذا يتطلب، ليس فقط انجاز المرجعية الكردية، بل كذلك البحث لها عن مكان وطني مناسب تطبيقاً لمقومات الشراكة الوطنية والانتظام، مع أطراف المعارضة الوطنية الأخرى، ضمن أطر نضالية تحالفية وفق برامج موضوعية منصفة، ومن هذا المنطلق ولد إعلان دمشق للتغير الديمقراطي السلمي الذي جاء إثر يأس القوى المؤتلفة من إمكانية إقدام السلطة على التغيير المنشود، وعجزها عن القيام بإصلاحات ملموسة، بما في ذلك العجز عن إيجاد حل عادل للقضية الكردية التي تمر الآن بمرحلة حساسة ودقيقة، بات معها لزاماً على الحركة الكردية مواكبة المستجدات والتصالح مع الذات ومع الشركاء وتحسين الشروط الموضوعية التي استجدت، والاستعداد لمواجهة أية تطورات متسارعة قد يحملها المستقبل، وذلك بالبحث والعمل على توحيد وتنظيم الطاقات الكردية وصولاً لبناء ممثلية تكون بمثابة مرجعية كردية تنبثق عن مؤتمر وطني كردي بمشاركة ممثلي الفعاليات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ودون إقصاء لأي حزب.

تلك المرجعية التي نرى أنها لا تزال تبقى مطلوبة وقابلة للتحقيق رغم الفتور الذي يحيط بالجهود الرامية لبنائها، وقد يعود سبب التباطؤ في إنجازها الى أن عناصرها وشروطها الضرورية لم تستكمل بعد، أو أن آلياتها لا تزال بحاجة للمزيد من الإنضاج، أو أن إرادة التلاقي لا تزال غير كافية رغم تزايد الوعي لدى جماهيرها التي بدأت تدرك أن المهاترات والصراعات الثانوية التي حكمت العلاقات بين العديد من الأطراف، ماضياً وحاضراً، قد هدرت أوقاتاً ثمينة، وطاقات لا يستهان بها، وتركت جروحاً عميقة، مثلما تدرك بأن الحوار هو اللغة الصحيحة التي يجب أن تسود العلاقة بين فصائل هذه الحركة التي تحتاج لتعاون جميع أطرافها لتذليل العراقيل التي تعترض طريقنا الى وحدة الموقف الكردي وزرع الثقة المتبادلة التي تعتبر شرطاً أساسياً لإنجاح مهمة التلاقي على أرضية برنامج سياسي موضوعي يتلاءم مع المتغيرات الجديدة، ومع مصلحة شعبنا الكردي، ومع خطورة المرحلة، حيث تزداد المخاطر وتتكاثر المشاريع والمراسيم والقوانين الاستثنائية، ومع إمعان السلطة في المضي قدماً بتطبيق مخططاتها في المناطق الكردية التي تعاني من موجات الهجرة الطوعية العاملة على إحداث تغيير ديمغرافي خطير، ومن تصعيد أمني شديد يستمد أسبابه من فشل السلطة في كبح إرادة النضال لدى شعبنا، رغم لجوئها لمختلف السبل التي تنوعت وتصاعدت بعد أحداث آذار الدامية عام 2004 بما فيها القتل العمد في نوروز 2008 والمرسوم 49 الذي يبيح للمواطنين الكرد بيع ما يملكون دون أن يتسنى لهم امتلاك ما يريدون، وغير ذلك من الإجراءات والسياسات التي لا تبدو لها نهاية، مما يضيف ضرورات أخرى الى الإسراع في بناء تلك المرجعية التي طال انتظارها، والى توفير الإرادة الواعية التي لا تزال تفتقر لها..ومن هنا انطلق مشروعنا في المجلس العام للتحالف (نحو عقد مؤتمر وطني كردي في سوريا) ، تعبيراً عن إرادة جماهيرنا، وتجسيداً للعديد من القرارات الصادرة عن التحالف الديمقراطي الكردي والهيئة العامة للجبهة والتحالف، التي أنجزت مشروع الرؤية المشتركة مع لجنة التنسيق، وأجمع الكل على انبثاق تلك المرجعية من المؤتمر، الذي يشارك فيه المستقلون بنسبة عادلة يمكن الاتفاق عليها،إلى جانب اشتراك ممثلي مختلف الأحزاب بالتساوي.

ويتمخض عنه مجلس سياسي منتخب يقود النضال الوطني الكردي وفق البرنامج السياسي المقرر.

* الجريدة المركزية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)– العدد (191) حزيران / 9 200

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…