ففي لبنان كانت العديد من الجهات الإقليمية والدولية تراهن على، أو تتخوف من، نجاح المعارضة، بكل ما كان سيترتّب على ذلك من فرض نوع من العزلة السياسية والاقتصادية على تلك الحكومة ، على غرار ما حصل لحكومة حماس في غزة، أو من تداعيات خطيرة على عملية السلام، بما كانت ستقدمه مثل تلك الحكومة المفترضة من مبرّرات للحكومة اليمينية في إسرائيل للتهرّب من الضغط الأمريكي المتنامي، والتمسّك بمقولة السلام الاقتصادي، إضافة إلى تحول لبنان إلى ساحة حرب من خلال الذراع العسكري الإيراني الذي يشكله حزب الله .
أما في إيران فإن الانتخابات الرئاسية، بما تخلّلتها من عمليات تزوير في العديد من المراكز والأقاليم، تبدو واضحة من حجم الاحتجاجات التي عمّت مختلف أرجاء البلاد، وشارك فيها العديد من رموز النظام السابقين، فإنها تحوّلت إلى منطلق لمطالبات شعبية بإصلاح النظام..
ومن هنا جاء انحياز المرشد الأعلى علي خامنئي إلى جانب الرئيس أحمدي نجاد بعد أن تأكّد له بأن الإصلاحات المطلوبة تطال قمة الهرم السياسي وتدعو إلى تحجيم دور المؤسسة الدينية، والاهتمام بالوضع الداخلي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين كوسيلة لتوسيع النفوذ الإيراني في المنطقة على حساب الوضع المعاشي المتدهور والحريات العامة المقموعة، والتي تسببت في تعميق عزلة إيران عن المجتمع الدولي .
ومع استمرار موجة الاحتجاجات المطالبة بإلغاء النتائج الرسمية للانتخابات، وردود الأفعال الدولية، وخاصة الأوروبية، الداعية لضرورة احترام حرية التعبير والتظاهر، والمندّدة بعمليات القمع وإرهاب وسائل الإعلام، فإن نظام طهران أمامه أحد خيارين: إما البحث عن مخرج سلمي لهذه الأزمة، أو تصعيد وتيرة القمع التي يهدّد بها الحرس الثوري، مقابل اللعب تحت طاولة الحوار مع الإدارة الأمريكية التي حافظت حتى الآن على موقف محايد نسبياً بين طرفي الصراع مع إدانتها للعنف الموجه ضد جموع المحتجين .
ومهما تكن النتائج فإن النظام الإيراني الذي قد يخرج من هذا الصراع مرتبكاً ومأزوماً، لكنه سيظل رقما إقليمياً يمتلك من أوراق القوة ما تكفيه للمناورة والتأثير من خلال شبكة مصالح إقليمية تجمعه مع كل من تركيا والعراق وسوريا، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري مع تركيا من مليار دولار عام 2000 إلى 10 مليار دولار عام 2008 ، مقابل استثمارات تركية مرتقبة بقيمة 12 مليار دولار لاستثمار الغاز الإيراني، في حين تجمع طهران بدمشق شراكة إستراتيجية على مدى ثلاثين عاماً وعلاقات محورية مع حزب الله وحماس.
وللدلالة على تكامل العلاقات الإقليمية فقد تحسّنت العلاقات السورية التركية عموماً، بما في ذلك زيادة تدفق كميات أكبر من مياه الفرات إلى الجانب السوري، وأحدثت العلاقات السورية العراقية نقلة نوعية في الآونة الأخيرة بعد الاتفاق على إقامة منطقة تجارية حرة، والتعاون في مجالات الطاقة والأمن والمواصلات .
ويشير ما تقدم إلى بروز تفاهم إقليمي بين الدول الأربع، لابد وأن تنعكس آثاره الإيجابية على الوضع الأمني في العراق ، مما يدفع القوات الأمريكية في القريب العاجل إلى إنهاء تواجدها في المدن الرئيسية.
لكن ما يثير القلق هو تلك المساعي والجهات التي لا تزال تلهث وتلعب على وتيرة الشحن الطائفي بين السنة والشيعة ، وكذلك افتعال توتّرات بين الحكومة المركزية في بغداد وإدارة إقليم كردستان العراق على خلفية قانون النفط والغاز من جهة، وموضوع كركوك والمناطق الملحقة من جهة أخرى .
ومع تزايد احتمالات إيجاد حل لموضوع النفط في الإقليم من خلال الاتفاق على تخصيص نسبة من الأرباح للمحافظات المنتجة، فإن موضوع كركوك لا يزال يخضع للشد والجذب، خاصة مع الجانب التركي الذي يتعامل مع هذا الملف، ليس فقط من باب استقطاب التركمان، بل كذلك للضغط على حكومة الإقليم بشأن معسكرات PKKالتي يرتبط وجودها، حسب رأي الجانب الكردي، بضرورة البحث عن حل ديمقراطي سلمي للقضية الكردية في تركيا عبر حوار ديمقراطي مع الممثلين المنتخبين للشعب الكردي في البرلمان التركي، لكن تراجع كل من رئيس الوزراء آردوغان ورئيس أركان الجيش عن مواقفهما السابقة المتعلقة بالشأن الكردي تسبّب في تراجع إمكانية الحوار .
وفي الداخل السوري لا تزال البلاد تعيش أجواء التشدد الأمني والاعتقالات الكيفية التي شملت العديد ممن يحاكمون أمام محاكم مدنية أو عسكرية، وينتظرون أحكاما جائرة مسبقة الصنع، ومنهم معتقلو نوروز في حلب..
ولا تبدو في الأفق بوادر انفراج، رغم التطورات المحيطة إقليمياً ودولياً، والتي تؤشّر لإمكانية استئناف المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل في ظل انتظار الحوار الجاري عملياً مع الإدارة الأمريكية، والذي أثمر حتى الآن عن إعادة السفير الأمريكي لدمشق مؤخراً، خاصة بعد أن تراجعت المراهنات على فوز المعارضة اللبنانية وعلى الدور الإيراني المتشعب الذي أصيب بشرخ كبير نتيجة رفض الإصلاحيين لنتائج الانتخابات الرئاسية، وما يعنيه ذلك من انشغال الحكومة الجديدة بمشاكلها الداخلية على حساب اهتماماتها وتأثيرها الإقليمي .
وتبقى المناطق الكردية من أكثر المناطق السورية تضرّراً من السياسات الشوفينية والتمييزية التي تريد دائما تبرير مراسيمها وقوانينها الاستثنائية ومشاريعها العنصرية باختلاق أوهام الخطر الكردي، ويشير استمرار مثل تلك السياسة وعدم تراجعها عن المرسوم 49 لعام 2008 مثلاً، وعدم الإيفاء بوعود إلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 في محافظة الحسكة، رغم تكرارها، إلى انتفاء آمال الإصلاح والتغيير بشكل عام، وفي الشأن الكردي بشكل خاص، رغم ما تشاع، بين حين وآخر، من إشاعات حول تعامل جديد مع الوضع الكردي، هدفها تهدئة مشاعر الاغتراب والقلق في المجتمع الكردي، ومحاولة فك تواصله مع الحراك الديمقراطي العام في البلاد .
وفي الشأن الحركي الكردي، فإن الدعوة إلى توحيد الخطاب السياسي والبحث عن آليات لإيجاد ممثلية سياسية تكون بمثابة مرجعية كردية تبقى موضع اهتمام ، وهنا لابد من التأكيد بأن غالبية أطراف هذه الحركة كانت قد أجمعت على ضرورة انبثاق مثل هذه المرجعية من مؤتمر وطني كردي كي تكتسب المصداقية والشرعية المطلوبة، وتتحرّر من حالات المزاجية والتخبّط ، على أن تشارك الفعاليات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية غير الحزبية بنسب عادلة ومقبولة في هذا المؤتمر الوطني المنشود الذي من شأنه تحقيق خطوة ميدانية نحو الأمام لما فيه خير شعبنا وبلدنا.
في 28-6-2009
اللجنة السياسية