الشيخ باقي في ذكرى رحيله الأول

  دنكي كرد *

ليس من السهل تناول قامة شامخة كقامة شخصية وطنية ذات أهمية بقدر محمد باقي ملا محمود  (الشيخ باقي)، فحياته الذاخرة بالمحطات التاريخية شكلت انعطافات هامة في تاريخ الشعب الكردي السوري ، ولم تخلو من بصماته لما تمتع به من حس وطني مرهف و صدر واسع و قدرة على تقديم التضحيات من أجل شعبه و حزبه .
ولد الراحل محمد باقي ملا محمود المعروف في الوسط الكردي بـ (محمد باقي الشيخ- شيخ باقي – أبو جمال) في قرية تل أيلول التابعة لناحية الدرباسية في العام 1936 لوالده الشيخ محمود القره كويي  الذي كان من كبار العلماء ورجال الدين في عصره وأحد كبار مشايخ الطريقة النقشبندية .

هاجر والده الشيخ محمود بعد ثورة الشيخ سعيد پيران وما أعقبها من قمع اتاتوركي لرجال الدين الأكراد , من منطقته في ولاية (موش) إلى سهل ماردين أولاً ومن ثم بعدها  بنحو عامين إلى قرية تل أيلول في ناحية الدرباسية  ثانيـاً  , واستقرت بعائلته الإقامة  فيما بين تل أيلول وگركند ودمشق على مدى عشرات السنين.

تلقى الراحل العلوم الأولية في المدارس الدينية لدى والده الشيخ محمود ,وكذلك في بلدة (أوخين) بمنطقة موتكا بولاية بدليس من مناطق سرحد بكردستان تركيا لدى عائلة الشيخ فتح الله .
   ومع تأسيس البارتي في سوريا في صيف العام 1956 على يد المؤسسين الأربعة الأوائل           (المرحوم أوصمان صبري والمرحوم الشيخ محمد عيسى والمرحوم حمزة نويران والأستاذ عبد الحميد درويش) كان الراحل أحد الأشخاص ضمن المجموعة  الأولى التي عملت مع هذه القامات الوطنية الكبيرة من أجل تأسيس وبناء التنظيم الحزبي في منطقة الجزيرة وكان هو والمرحوم حمزة نويران أول اثنين بدءا تأسيس التنظيم الحزبي في الجزيرة منطلقين من الدرباسية وعامودا وقراهما بتكليف من الراحل أوصمان صبري  وبرعاية مباشرة من شقيقه المرحوم الشيخ محمد عيسى .

كما أنه صاحب أول مهمة خارجية للحزب في أوائل العام 1958 حيث أوفد من قبل اللجنة المركزية للحزب إلى كردستان تركيا بهدف الاجتماع بالقادة والفعاليات الكردية هناك للتحاور ودراسة إمكانية تأسيس الپارتي في كردستان تركيا , وقدم تقريراً خطياً مفصلاً بمهمته تلك إلى اللجنة المركزية للحزب بعد عودته .

أصبح الراحل عضواً في اللجنة المركزية لأول مرة في العام 1972 في المؤتمر الحزبي الأول المنعقد في كردستان العراق برعاية البارزاني الخالد , وثم عضواً في المكتب السياسي للحزب , وبعد الكونفراس العام في عام 1975 أصبح سكرتيراً  للجنة المركزية , وفي المؤتمر الرابع للحزب في العام 1990 انتخب أميناً عاماً للحزب , وفي العام 1992 كان أحد القادة الأكراد الأساسيين الذين تشاركوا في تأسيس التحالف الديمقراطي الكردي في سوريا ومن منزل أحد رفاق حزبه في مدينة القامشلي تم الإعلان عن تأسيس التحالف الديمقراطي الكردي في سوريا في الأول من شباط عام 1992 .

وفي العام 1997 وبعد أن أتم إدارة أعمال المؤتمر السادس للحزب قدم استقالته أمام المؤتمر وترك العمل التنظيمي داخل الحزب ليبقى بعدها ملتزماً بقضية شعبه الكردي ونضال رفاقه ونهج حزبه حتى آخر يوم في حياته .

وافت المنية الراحل الكبير في 5/5/2008 في منزله ببلدة شبعا إحدى ضواحي مدينة دمشق و وري الثرى في مقبرة العائلة بتربة الشيخ خالد النقشبندي بحي الأكراد في دمشق .

وبعد هذه العجالة من السرد للمحطات الهامة و النقاط البارزة من حياة المناضل الكبير شيخ باقي ، لابد لنا من تناول هذه التجربة النضالية الكردية السورية بشيء من التمحيص و النقد ، وكم نحن أحوج إلى هكذا مراجعات لمجمل تاريخ الحركة السياسية الكردية السورية بأحزابها و شخصياتها التي لعبت أدواراً مهمة في مختلف محافلها لتكون ضماناً لمستقبل زاهر
وبالعودة إلى شخصية الشيخ باقي لعلنا قد نصيب إذا تناولنا هذه التجربة النضالية على أساس ثلاث مراحل مختلفة تحمل كل مرحلة خاصيات و ميزات تجعل منها بداية لكل مستوى من هذه المستويات على اختلافها و ذلك بالاعتماد على البعد الزمني لعلها تساعدنا على توضيح ملامح التطور الفكري و السياسي للراحل محمد باقي ملا محمود (الشيخ باقي).
أولاً = المرحلة الأولى : منذ عام 1956 أي تأريخ تأسيس أول حزب سياسي كردي سوري ، حتى عقد مؤتمر نوبردان في 21 آب 1970 .
ثانياً = المرحلة الثانية : منذ العام 1970 حتى العام 1980 .
ثالثاً = المرحلة الثالثة : من العام 1980 وصولاً إلى العام 1997 حيث قدم استقالته أمام أعضاء المؤتمر السادس و ترك العمل التنظيمي و ذلك بعد أن أدار أعمال المؤتمر السادس بنجاح .


لعل المرحلة الأولى تنم عن إشكالية  كبيرة و خاصة بغياب الموضوعية في قراءة هذه المرحلة ، ومحاولات اختزال هذه التجربة النضالية بأشخاص حسب الرغبة بصورة بعيدة كل البعد عن الواقعية المفترضة في منهجية دراسة أي حادثة تاريخية .

على كل حال فكما ذُكر سابقاً أن الشيخ باقي من مواليد 1936 أي كان عمره حين التأسيس عشرون عاماً ، لكن رغم ذلك كان له دور فعال في هذه المرحلة و لربما لولا وجود شخصية أخيه الشيخ محمد عيسى ملا محمود الذي يكبره سناً لكان يمكن ذكر اسم الشيخ باقي ضمن المؤسسين و الدليل الأمثل على ذلك هو العمل على المباشرة بتأسيس الهيكلية التنظيمية للحزب في الجزيرة وارتباط ذلك التأسيس بشخصين انثنين هما الشيخ باقي و حمزة نويران وبدعم من الشيخ محمد عيسى ملا محمود الأخ الأكبر للشيخ باقي في أوائل تموز من العام 1956 ، و ما ذلك إلا دلالة كبيرة على الدور الفعال لهذه الشخصية الوطنية ، و الحدث الآخر المهم في هذه المرحلة هو إيفاد الشيخ باقي في العام 1958 من قبل اللجنة المركزية إلى كردستان تركيا بمهمة استطلاع إمكانية تأسيس حزب كردي هناك بعد الفراغ السياسي و الحزبي الذي كانت تعيشها الساحة الشمالية من كردستان و إجراء الاتصالات مع بعض الشخصيات الوطنية الكردية و طرح فكرة تشكيل تنظيم سياسي و على أثر هذه الزيارة و ما تبعها من جهود لاحقة تم تشكيل الحزب الديمقراطي الكردستاني في تركيا بقيادة المحامي (فائق بوجاغ) الذي اغتيل لاحقاً على يد الميت التركي .

و من ثم بقى الشيخ باقي كادراً فعّالاً و مؤثراً في نشاط الحزب و قراراته ، و في النصف الأول من الستينات كان مناضلاً  لامعا و موثوقا ً من قبل الجميع و على أثرها تعرض للملاحقة و الاعتقال ، و على أثر انشقاق 1965 ابتعد عن العمل التنظيمي لكنه  أيد و دعم الجناح اليساري من الحزب بعد كونفراس آب عام 1965 .

أما المرحلة الثانية تمثلت بالعودة إلى العمل التنظيمي مجدداً بعد مؤتمر نوبردان المنعقد في كردستان العراق في 21 آب من العام 1970 كعضو في اللجنة المنطقية بدمشق ، و عضواً في اللجنة المركزية  في المؤتمر الحزبي الأول المنعقد في العام 1972  و من ثم  أصبح عضواً في لجنة الرقابة و التفتيش و المكتب السياسي للحزب .

و بعد الكونفرانس الحزبي العام المنعقد في 15 حزيران من العام 1975 أصبح سكرتير اللجنة المركزية للحزب فكانت نقطة تحول هامة لبناء شخصية سياسية كردية سورية  مستقلة قائمة بذاتها لوضع حد لحالة التبعية التي كانت تعيشها الحركة السياسية الكردية و هذا ما انعكس بوضوح بعد نكسة ثورة الخالد الملا مصطفى البارزاني و آثارها السلبية على الساحة الكردية السورية ، فكان بحقُّ له الريادة في دفع الحراك الكردي نحو التفاعل الوطني السوري الذي تمثل بدعوته إلى نوع من الاستقلالية في رسم سياساته و قراراته و هذا ما تبنته غالبية فصائل الحركة الكردية فيما بعد .

، و من ثم غير الراحل الكبير “الشيخ باقي”، اسم الحزب من “الحزب الديمقراطي الكردي في سورية  (البارتي) ، إلى الحزب الديمقراطي الكردي السوري ( P.D.K.S ) في المؤتمر الحزبي الثاني المنعقد في دمشق ………
بتاريخ 12 تشرين الأول من العام 1978 .

فكان لهذا التغيير مدلولاته السياسيَّة والنظريَّة العميقة وذلك انطلاقاً من رؤية وطنية إستراتيجية .
و في المرحلة الثالثة فُتحت أفاق جديدة غيرت من ملامح الساحة الكردية السورية على خلاف ما كان سائداً في العقود السابقة فكانت الساحة الكردستانية العراقية هي ساحة استقطاب لمختلف القوى الكردية على الساحة السورية لأسباب متعددة ، لذلك كانت لقوى الجنوب النفوذ ، لكن الأمر أخذ منحاً جديداً في عقد الثمانينات و ما تلاه من العقود حيث ظهرت قوة جديدة على الساحة المتمثلة بحزب العمال الكردستاني ( PKK ) فكان الحزب الديمقراطي الكردي السوري وعلى رأسهم الشيخ باقي ، من أوائل الذين مدُّوا يد العون والمساعدة والمساندة لهذا الحزب و زعيمه .
فما قدمه الحزب الديمقراطي الكردي السوري مكن العمال الكردستاني من تثبيت أقدامه على الساحة ، مما جعل الديمقراطي الكردي السوري أول ضحايا هذا التعاون من جراء حالة العداء الذي اكتسبه من قبل القوى الكردية الأخرى على الساحة و غيرها و عدا عن هذا و ذاك عاداه حزب العمال الكردستاني ( PKK ) ليضمن علاقات ودية مع النظام السوري و ذلك بعد عام 1986 ، فحتى هذا التاريخ كانت العلاقات جيدة بين الحزبين ، فتعرض الحزب نتيجة لهذه العلاقة إلى هجمات شرسة حتى من قبل أنصار حزب العمال الكردستاني في الوقت الذي سانده الحزب بحزم ، مما أرهق الحزب الديمقراطي الكردي السوري ( P.D.K.S  ) و أدى إلى إضعافه لاحقاً بشكل مباشر و غير مباشر تارة من قبل السلطة السورية و حلفائها و تارة أخرى من القوى الكردستانية و حلفائها  .و لعل أكثر مرحلة تثير التساؤل هي هذه المرحلة ، لما كان لها من آثار سلبية كبيرة على الحزب الديمقراطي الكردي السوري ( P.D.K.S   ) بشكل واضح وصريح مما أثر على الوضع التنظيمي للحزب الديمقراطي الكردي السوري القائم على العمل من أجل شخصية كردية سورية مستقلة  .و هكذا استمر الشيخ باقي على رأس الهرم الحزبي مع زيادة معاناة الحزب في المراحل اللاحقة ، و سوء حالته الصحية مم دفعه إلى تقديم استقالته كما ذكرنا سابقاُ في العام 1997 في المؤتمر السادس للحزب بعد أن أدار أعمال المؤتمر لكنه بقى ملتزماً بقضية شعبه الكردي السوري حتى وفاته في 5 / 5 / 2008 في منزله ببلدة شبعا إحدى ضواحي دمشق .


في النهاية لا يمكننا القول إلا أن شخصية الشيخ باقي بقامته الشامخة تستحق الدراسة و التمحيص لفهم الحالة الكردية السورية فهماً جيداً ، و لا يسعنا أيضاً إلا الوقوف إجلالاً و احتراما أمام هذه الحالة النضالية التي قدمت و ضحت كثيراً من أجل قضية الشعب الكردي العادلة.


 
* يصدرها الحزب الديمقراطي الكردي السوري ( P-D-K-S ) العد (227) ايار 2009

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…