نيسان: بين الجلاء والإقصاء

  افتتاحية جريدة الوحدة (yekiti)
  

   يعود شهر نيسان لينعش الذاكرة الوطنية التي تحتل فيها معارك الجلاء مساحة واسعة، وتدعو ذكراه السنوية للالتفاف حول معانيه التي تعبّر دائما عن التصاق السوريين بوطنهم، لأن تلك المعاني تمثل لهم قيم الحرية والعدالة والتقدم، ولأن الجلاء لم يكن ليتحقق لولا العهد الذي كتبه المناضلون بدمائهم وتضحياتهم من أجل الاستقلال، على اختلاف مناطقهم وانتماءاتهم القومية والدينية والسياسية، ولأن الدولة الوليدة لم تكن لترى النور لولا قبول الجميع بمبدأ الشراكة الوطنية، وإجماعهم على ضرورة إكمال سيادة هذا الوطن وتحصينه من الداخل، من خلال الاحتكام للديمقراطية التي تضمن تداول السلطة وصيانة الوحدة الوطنية عبر إشراك الجميع في القرار ورسم مسارات المستقبل.
  ولكن الأمور لم تجر، بعد الجلاء بمثل ما سارت قبله، فالتهديدات الخارجية لم تكن تشكل الخطر الوحيد على السيادة الوطنية، بل أن الإقصاء والنزوع للهيمنة والاحتكار، بدأ يهدّد تلك السيادة، ويهمّش قوى المجتمع المدني ويشطب على التعددية التي أعطت للوطن في حينه لوحة جميلة، ليتحول بالتدريج إلى بلد اللون الواحد، والعنصر الواحد، ثم إلى بلد الحزب الواحد، ويدفع شعبنا الكردي فاتورة السياسة الشوفينية التي انتعشت بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية، ليحتكر حزب البعث بعدها قيادة الدولة والمجتمع، ويثبت ذلك في الدستور السوري.
  ومن هنا، وبعد ثلاثة وستين عاما من نيسان الجلاء، فإن الأجواء تتلبّد بالاحتقان والتمييز، ويستمر تدهور الوضع المعاشي المرتبط بحياة الناس اليومية ويزداد عجز السلطة عن إيجاد الحلول المناسبة للازمات المركبة، ويتواصل القمع، وانتهاك حقوق الإنسان، ومصادرة الحريات، وتنكشف ادعاءات السلطة بربط أي حراك ديمقراطي بالخارج، وبالتماهي مع الضغوط الدولية، التي تراجعت الآن، لكنها رغم ذلك ،لا تزال ماضية في تصعيد حملتها الأمنية مؤخراً، والتي شملت اعتقال نشطاء الرأي والكوادر السياسية ومحاربة الناس في لقمة العيش، خاصة في المناطق الكردية، التي تعاني من الإهمال المتعمّد، وإغلاق فرص العمل، ونقل الموظفين من مناطقهم.

وتستغل السلطة هذه المرة الانفتاح الغربي والمؤشرات الدالة على تغيير موقعها الإقليمي لتشديد قبضتها الأمنية، ومواصلة تصفية حساباتها الداخلية، مما يعني أن الممارسات القمعية لن تختلف زمن الانفتاح عن زمن القطيعة، لأنها أصلاً تبرز عجز السلطة عن القيام بالإصلاح المطلوب، وتؤكد من جديد بأن التغيير الديمقراطي السلمي يبقى يستمد مبرراته من ذلك العجز، وأن هذا التغيير يرتبط بمشروع وطني اقتصادي واجتماعي وسياسي، يعبر عن واقع الناس، وتضبط إيقاعاته وفق مصالح وأهداف الشعب السوري عموماً، بعيداً عن تناقضات الوضع الإقليمي المحيط بسوريا أو المراهنة على خلافات تدور خارجها، وهو–أي التغيير– بقدر ما يعني الجميع، فهو يتطلب مشاركة عامة، بما في ذلك أهل النظام، للعودة بهذا البلد، الذي حظي بخيرات وفيرة وألوان جميلة وشعب معطاء، الى أجواء الجلاء لاستكمال متطلبات الاستقلال، الذي لن ينجز دون تحقيق ما نصبو إليه من حياة كريمة، أساسها الحرية المساواة والعدالة، في وطن لا خوف فيه من القمع والاعتقال والإقصاء، يكون فيه الجميع شركاء متساويين في الحقوق والواجبات، ويتحرر شعبنا الكردي في ظله من الاضطهاد ومن آثار المشاريع العنصرية والقوانين الاستثنائية، ليستعيد دوره في بناء وطن لا مكان فيه للظلم.

 

* العدد 189 – نيسان 2009

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…