الليبرالية والتحديث في الوطن العربي

خالص مسور

 

الليبرالية هي الكلمة السحرية التي تنم عن حراك حداثي متطورفي مفاصل المجتمعات الدولتية في المنطقة العربية، عبر فضاءات من جدل الخطاب الساسي، والثقافي، والإجتماعي، والإقتصادي…الخ، وضمن خط تطوري متصاعد ومتعال عما هو سوداوي متكلس وما هو سلبي قديم.

أي الليبرالية تعني مقاربة موضوعية نحو التحديث والتطويرفي مختلف الظواهر والمجالات الآنفة الذكر.

ولكن السؤال الأهم هو كيف يمكن /لبرلة/ المجتمعات العربية وتحديثها تحت ظل سياسات القمع والجلد بالسياط..؟

ولهذا فمن الأمور البدهية والمسلم بها، هي أنه وبدون تحديث ذهنية الإنسان وضخ دماء الحداثة في شرايينه المكلسترة المتصلبة، لايمكن لهذا الإنسان أن يكون ليبرالياً بالقطع والجزم، فلا يمكن لأحدنا أن يصبح ليبرالياً بين عشية وضحاها، وبجرة قلم، أو بشعار من تلك الشعارات العالمثالثية البراقة! فالليبرالية تتطلب رجالاً متنورين يمتازون بمرونة عقلية فائقة ويكونون قد مروا بمرحلة تمدينية طويلة نوعاً ما، حيث لايمكن للبدوي أو الريفي الإفريقي مثلاً، أن يصبح ليبرالياً ويتخلى عن ثوابته التراثية، فيرى نفسه كما يرى الآخرين دون المرور بمرحلة حضارية معينة، ومن هنا فإن الذهنية العربية يغلب عليها التريف (الطابع الريفي) الذي يعمل ككوابح تحد من الحرية والتحديث المجتمعي، رغم وجود العدد الأكبر من سكان معظم الدول العربية في المدن، كسورية مثلاً التي تبلغ نسبة سكان المدن فيها 60 %  وأكثر، ألا أن معظمها مدن متريفة أي النسبة الغالبة فيها هم من سكان الريف، ومعظمها تخلو من مؤسسات المجتمع المديني او أنها مؤسسات غير فاعلة، وتعود إلى هذه الطبقة معظم الشرائح السياسية السائدة في المجتمعات العربية والمتواجدة في السلطة، وهي الشرائح التي تتصف معظمها بذهنية قارة ومتكلسة وبالضبابية في ثوابتها الإيديولوجية، وبالتالي عدم إمكان رؤية الآخر المختلف.
وكنتيجة لهذا الامر الحيوي الهام، نرى أن معظم أقطاب الفكرالقومي العربي، أي الذين تبنوا شعارات القومية العربية في مرحلة صعود المفاهيم القومية، في الخمسينات من القرن الماضي، وبخلاف القوميين الأوربيين الذين مهدوا بقوميتهم لليبرالية الغربية، كان هؤلاء الأقطاب من القوميين العرب جلهم من منشأ ريفي أضربوا صفحاً عن الليبرالية والتحديث، وعجزوا عن تحقيق شعاراتهم القومية ذات المضمون الإنساني قولاً والتعصب وضيق في الأفق القومي فعلاً، أي أنهم كانوا على الدوام ينكرون حق الآخرين من مواطنيهم في المشاركة الفعلية بالسلطة، حينما وجدوا أنفسهم النخبة التي يجب أن تسود المجتمعات العربية، وهو مايمكن أن نسميه بالمرض النخبوي أوما يسمى بداء المنطقة المعروف في العالم الثالث، و هؤلاء أنكروا أيضاً حقوق الأقليات المتآخية معهم والتي تتحقق بشكل سلس في المجتمعات الليبرالية، كما لم يستسيغوا مفاهيم هذه المجتمعات وتخلفوا عن تحقيق الليبرالية والتحديث المؤسسي ومفاهيم المجتمع المدني، نظراً للسدود والموانع الفكرية المتكلسة والحاجزة في ذهنية حاملي الإيديولوجيات القومية ومابعد القومية أيضاً.
ولهذا فقبل الكلام عن الليبرالية علينا كعالمثالثيين أن نستبين معوقات وكذلك ممهدات الليبرالية، حيث لايمكننا اليوم ادعاء الليبرالية في البلاد العربية، حيث لايمكننا التعاطي بجدية مع شيء نفتقده، وعلينا أن نشير إلى أن ظهور إيديولوجيات مابعد القومية في المنطقة العربية، وبعدما أعلنت الأيديولوجية القومية بمفاهيمها الحالية عن إفلاسها في الساحة الشرق أوسطية عامة، والتي عجزت عن تلبية طموحات وأماني الشعوب العربية خاصة، بدأت الإيديولوجيات مابعد القومية تنافح الحركة التحديثية بحالة ارتدادية نحو الوراء لا..

بل محاربتها عن طريق بدع غريبة عن مرجعياتها الإيديولوجية، وأقصد الحركات التي تدعي الإيديولوجية الإسلامية، وقد تجلت البدع الغريبة والإرتدادية المعادية للثوابت الليبرالية، متمثلة في ما يمكن أن نسميه بثقافة قطع الرؤوس التي ظهرت حديثاً لدى شريحة – وإن تكن ضيقة – في بقعة مهمة من الوطن العربي، وفي بقاع أخرى تؤيد هذه الثقافة، نظراً لماضوية تائهة ومشوشة المعالم لدى ممثلي هذه الشريحة، وإفتقادهم إلى الخبرة التحديثية وعدم  االقدرة على تقبل الأفكار الليبرالية في سوياتهم الإجتماعية والسياسية وفي مفرداتهم الإيديولوجية كذلك.

وهكذا فالليبرالية المرافقة للتجديد والتحديث تحتاج إلى تجارب وتراكمات حضارية، قد تفتقر إليها ذهنية معظم الشعوب العربية حالياً، التي عجزت رغم ماضيها الحضاري العريق، عن الإستمرارية والتواصل ومراكمة خبرة حضارية تتصف بالتجديدية والتحديث تحت لذعات سياط القمع التي استمرت عقوداً ومدداً طويلة ومتفاوتة.

ولهذا أرى الحل يكمن في إزاحة الموانع والحواجز السياسية المعيقة أولاً، وتحديث القوانين وتغيير الذهنية السياسية المتريفة التي تتحكم في مفاصل جسد الشعوب العربية ثانياً، كما يتوجب على الشعوب العربية الإستفادة من المنجزات الحضارية للشعوب الأخرى ومنها الأوربية والغربية، وقد استفادت الشعوب الأوربية – بدورها- لبناء مجتمعاتهات الليبرالية، من خبرات وتجارب وحضارات الشعوب الأخرى ومنها العربية على سبيل المثال، ومن ممهدات بناء المجتمع الليبرالي أيضاً شعبنة السلطة السياسية أي (جعلها شعبية)، ومن ثم الحصول على العلوم العصرية والإستعانة بالتكنولوجيا الغربية الحديثة، وبدون ذلك سيكون الكلام عن الليبرالية ضرب من العبث واللاجدوى، ورغم أن الدول القومية في أوربا هي التي أرست دعائم مجتمعاتها الليبرالية، ألا أن الدول القومية في المنطقة العربية والشرق الاوسط عموماً، والتي انزاحت عن سنن التحديث والتطوير تحولت إلى عوائق، تحد من ظهورالمجتمعات المدنية والليبرالية في مجتمعاتها ودولها التي تحكمها.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…