التعدد القومي والديني: كنز العراقيين ووقود حروبهم الأهليَّة


 هوشنك أوسي 

كان خلوّ العراق من نظام ديمقراطي، يتيح لجميع مكوِّنات النسيج الاجتماعي الوطني التعبير عن هويَّاتها القوميَّة والعرقيَّة والدينيَّة بحريَّة تامَّة، قد حوَّل التنوُّع القومي والإثني والديني والمذهبي، من ثراء حضاري، إلى عُقَد ومشاكل سياسيَّة مزمنة، وقنابل موقوتة دائمة الترشُّح للانفجار، يغّذيها غبن وإجحاف وإقصاء وقمع وصهر لحق بأبناء الأقليَّات والمكوِّنات الاجتماعيَّة على يد الحكومات المستأثرة بالسلطة والثروة.

ويأتي العراق كنموذج مصغَّر عن الشرق الأوسط، لجهة التنوُّع القومي والإثني والديني والمذهبي الذي يحتويه، والذي أفرز ثلاثة مشاريع رئيسيَّة لاحتواء (أزمة؟) التعدد:
1.

التيَّار القومي العربي، رأى أن أقصر السبل وأسهلها لحلّ مشكلة الأقليَّات القوميَّة، هو قمعها وصهرها في بوتقة القوميَّة السيَّدة.

وهذا ما فعلته العقيدة القوميَّة البعثيَّة.

إذ تعتبر كل من يعيش على “الأرض العربيَّة” بأنه عربيّ.

ووصلت التطبيقات العمليَّة لهذه العقيدة في العراق، لمرتبة الإبادة الجماعيَّة العرقيَّة “الجينوسايد” ضدَّ الأكراد.

في حين مارست هذه العقيدة على أكراد سورية، نوعاً من “المجازر البيضاء”، من قبيل التجريد من الجنسيَّة، وتعريب المناطق، والاستهداف الاقتصاديَّ وحتَّى الثقافيَّ.

2.

التيَّار اليساري، قفز فوق الأزمة كليّاً، مدَّعياً النظرة الأمميَّة، ومنتظراً تحقق الاشتراكيَّة في هذا المنطقة، “باعتبارها” ستأتي بالعدالة الاجتماعيَّة والمساواة السياسيَّة في الحقوق والواجبات بين القوميَّات والأعراق.

والحقُّ أنَّ اليسار العربي والعراقي، لم يسلم من الانحيازات القوميَّة، وغالباًَ ما كانت تتبدَّى بطانته، حيال التعاطي مع الملفّ الكرديّ.

3.

تيَّارات الإسلام السياسي، وخاصَّة منها السنيَّة، فلا زالت ترى أن أفضل وسيلة لحلّ المشاكل القوميَّة، هو الاندماج في الأمَّة الإسلاميَّة، وترك الخيار القومي جانباً، باعتبار النزعة القوميَّة تتعارض مع التعاليم الدينيَّة، لكن هذا التيَّار، كحال اليسار العراقي، سرعان ما تتبدَّى بطانته القومويَّة، لصالح القوميَّة العربيَّة، أثناء تعاطيها مع ملف الأقليَّات في عمليَّة دمج مسبقة بين القوميَّة العربيَّة والإسلام، متجاهلاً وجود العديد من القوميَّات والأقليَّات غير المسلمة (صابئة وايزيديين وكلدو آشوريين وغيرهم).

هذه التيَّارات الثلاث السائدة، فشلت في تقديم مشاريع تراعي التنوُّع والتعدديَّة، لافتقادها للذهنيَّة الديمقراطيَّة، وللإرث والتراكم الديمقراطي.

وليس صحيحاً القول، إنَّ المشاكل القوميَّة، ظهرت مع انهيار الاتحاد السوفياتي، لأن تلك المشاكل، كانت موجودةًَ أصلاً.

وليس صحيحاًَ أيضاً أنَّ الخلافات القوميَّة والمذهبيَّة والطائفيَّة والدينيَّة ظهرت في العراق، بعد انهيار النظام السابق، حسبما يتحجج “أيتام” النظام السابق، فكتم نظام البعث للمشاكل القوميّة في العراق، لم يلغِ هذه المشاكل، ويجتثَّها من الجذور، بل زادها تعميقاً وتفاقماً، تحت الرماد، وجعلها من أكثر الملفَّات إثارةً لشهيَّة الدول الكبرى التي تودُّ توسيع رقعة ملعبها في الشرق الأوسط.

هنا يأتي الـتأكيد على الدور الأمريكي الذي أوقد الأزمة، بدلاً من السعي لإطفائها.

فلم يمضِ ثلاثة شهور على سقوط النظام السابق، حتى شكّل الامريكيون مجلس الحكم الانتقالي على أسس محاصصة قوميَّة وعرقيَّة وطائفيَّة في تموز/يوليو 2003، لم يجر التوافق مسبقاً بين المكوِّنات العراقيَّة عليها.

ومذّاك، والأقليَّات العرقيَّة والقوميَّة، لا تدخر وسعاً في التعبير عن تذمُّرها من كون تمثيلها في البرلمان ومجالس المحافظات، لا ينسجم وحجمها.

ناهيكم عن التجاذبات اللاحقة حول الفيدراليَّة، والمادة 140 من الدستور، وقانون النفط، وقانون انتخابات مجالس المحافظات، وكلُّها قضايا تمسُّ الأقلّيَّات والمحاصصة فيما بينها في الصميم.

ما يغذي الأزمة ويضيّع البوصلة، هو عدم وجود أيّ إحصاء سكاني عام، يتيح لنا معرفة حجم الطوائف الدينيَّة والعرقيَّة في العراق.

وهذا يدوره، يجعل كل منها تلجأ إلى تقديراتها الخاصَّة المحتكمة إلى مصالحها وعقائدها.

فما يصدر عن المؤسسات ومراكز الأبحاث في هذا الصدد، هو مجرّد تخمينات، تستند على إحصاءات قديمة كان آخرها عام 1957، أو على مرجعيَّات إحصائيَّة أخرى، تستقي معلوماتها من جداول البطاقة التموينيَّة الصادرة عن النظام السابق، أو غيرها من مصادر، تحتمل هامشاًَ كبيراً من الخطأ.

الأمريكيون احتكموا على ما يبدو عند توزيعهم لمقاعد مجلس الحكم الانتقالي، على أساس التمثيل الديني والعرقي، إلى معلومات استخباريَّة، نشرها موقع الاستخبارات الأميركيَّة، الذي رأى عدد سكان العراق 24.683313 مليوناً، بحسب تقديرات يوليو/ تموز 2003.

يشكّل العرب 75-80%، الأكراد 15-20%، والتركمان والسريان وآخرون 5%، بحسب التقسيم العرقي.

وبحسب التقسيم الديني، يُشكِّل الشيعة 60-65%، والسنة 32-37%، والمسيحيون والديانات الأخرى 3%.

فنال الشيعة العرب 13 مقعد، من أصل 25.

وأعطي 5 مقاعد للسنة العرب، و5 مقاعد للأكراد، والتركمان مقعداً، والمسيحيون الآشوريون مقعداً.

واستناداً على هذه المحاصصة، تأسست المعادلة السياسيَّة في العراق، لكن في غياب توافق العراقيين بين أنفسهم على حجر الزاوية.

ونظراً إلى صعوبة إجراء إحصاء سكَّاني محايد ونزيه، دون تسييس، في المدى القريب، يبقى جلّ مشاكل العراق متأتيَّاً من الاختلاف على نسب توزيع الحصص بين المكوِّنات، وهو الخلاف الذي انتقل سريعاً بعد تشكيل مجلس الحكم إلى الشارع العراقي، بعد أن شعر جزء كبير من العراقيين بالتهميش واللإقصاء عن العمليَّة السياسيَّة.

راسِمو الخريطة السياسيَّة- الديموغرافيَّة الجديدة، لم يضعوا في الحسبان تلك المتوالية من الأزمات التي قاد إليها تكريس النسب الديموغرافيَّة المقدّرة، سياسيَّاً.

حتّى الشيعة والأكراد، اللذين نالوا حصة الأسد من مكتسبات التغيير الحاصل، يرفضون اعتبار التقديرات الأمريكيَّة على أنها نهائيَّة.

أمَّا في الشمال وعلى حدود الاقليم الكردي، فلا تزال ازمة كركوك تتفاعل منذ سنة 2003 بين الاثنيَّات الرئيسيَّة الأربعة المكوّنة للمحافظة، والتي تطالب جميعاً بتطبيق المادة 140 من الدستور، المتضمنة إجراء إحصاء سكاني في المدينة (مع أن المكونات الأربع لكركوك تختلف فيما بينها على كيفية تطبيق بقية بنود المادة).

خطوط التقسيم الطائفي والعرقي يغذيها أحداث العنف الحاصلة، لكن يغذيها في الوقت نفسه عدم وجود توافق وطني على الحجم الفعلي لكل مكون في هذا البلد.

بعد عام 2003 تغيّرت قواعد الصراع الطائفي، من عربي _ كردي، إلى شيعي _ سنِّي ثمَّ اتجهت كرة النَّار الأهليَّة الدائرة إلى ما بين التيارات والقوى الشيعيَّة أنفسها، وفي الوقت نفسه، كان أبناء الديانة الإزيديَّة يتعرضون لاستهداف مجموعات إرهاب تدعي تمثيلها للسنّة.

وحاليَّاً، يتمُّ استهداف المسيحيين وهناك مزاعم وادعاءات حول تورُّط الحزبين الكرديين في عمليَّات التصفيَّة، فضلاً عن المجاميع المسلحة المرتبطة بالقاعدة في الموصل.

وتبدو خطوط التقسيم أكثر عمقاً، مع الأخذ بالاعتبار، تلك المحاولات الجارية لإبعاد أبناء الديانة الإيزيديَّة عن أصولهم القوميَّة الكرديَّة، ومع مطالبات طائفتي الشبك والصابئة، باعتبارهم أقليات قوميَّة مستقلَّة، ومع المخاطر التي يستشعرها الأكراد من طموحات الحكومة المركزيَّة المتنامية.

في جميع تلك الحوادث، يبدو الشعور بالمظلوميَّة، وعدم الرضا لدى أبناء الأقليَّات محرِّكاً رئيسيَّاً لأحداث العنف.

لذا، يبدو من العسير جداً القول: إن العراق على مقربة من طوي صفحاته الداميَّة، وإنَّ هذا البلد الثري بقومياته، بات قاب قوسين أو أدنى من الاستقرار.

والخشية كل الخشية، أن تؤدي مزاعم واعتقادات (وأوهام) كل طرف عن مدى حجمه العددي وتمثيله، إلى تكريس الاحترابات الأهليَّة كمسألة مرشحة للاستمرار في العراق.

عن موقع نقاش

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…