إذا كنت لا تستطع رد الظلم فعلى الأقل لا تموهه..؟ (تيار قاسيون الماركسي اللينيني والمرسوم49)

  صالح بوزان
salihbozan@yahoo.com
1
وردت في جريدة قاسيون العدد 380 تاريخ 15/11/2008 افتتاحية بعنوان “وحدة الأراضي السورية”.

وكما نعلم أن الافتتاحيات في الجرائد تعبر عن وجهة نظر صاحب الجريدة سواء أكان فرداً أو حركة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية.

ظهر في هذه الافتتاحية نوع آخر من الاستخفاف بعقول الأكراد.

*
ينطلق هذا الاستخفاف من خلال “اليقينينة الشمولية” التي يدعيها هذا التيار الماركسي تجاه كل ما يجري في البلاد والعالم.

هذه اليقينية التي تخلق نوعاً من التصور التبريري للمرسوم 49 بطريقة ما أنزل الله بها من سلطان.

ويضيف هذا التبرير جرحاً جديداً في جسد الشعب الكردي السوري المثخن أصلاً بالجراح.

إنه جرح يأتي من تيار ماركسي كان الأجدر به أن يقف مع الشعب الكردي في هذه المحنة الكبيرة، ويكون بين صفوف المتظاهرين والمعتقلين يوم 2/11/2008، هؤلاء المتظاهرون من قيادات أحزاب كردية، لم يجدوا وسيلة للوقوف مع شعبهم سوى أن يقدموا أنفسهم للاعتقال بهذه الطريقة السلمية احتجاجاً على المرسوم.

إنه..، والله لموقف مشرف يستحق التقدير.


2
لنقرأ بهدوء ما تقوله افتتاحية جريد قاسيون.

فهي منذ البداية تحمّل مسؤولية صدور المرسوم 49 لـ”لفريق الاقتصادي الحكومي”(وليس للحكومة).

هذا الفريق الذي يرتكب السيئات الفظيعة (والأخطاء الإستراتيجية الكبرى بحق سوريا أرضاً وبشراً وثروات، عمداً أو جهلاً أو تعامياً).


تدعي الافتتاحية بأنه مع (هيمنة السياسات الليبرالية التي اتبعها الفريق الاقتصادي في الحكومة على كل مفاصل الاقتصاد الوطني، أصبح كل شيء في البلاد قابلاً للبيع والشراء).
ترى الافتتاحية أن المسألة لا تنحصر في الاقتصاد وتحرير التجارة وفتح الحدود والأسواق أمام السلع والاستثمارات (بل تعبد الطريق أمام الأفكار المشبوهة والسلوكيات الخطرة التي تهدد وحدة البلاد).
تعتبر الجريدة أن ما يجري من شراء الأرض من قبل غير السوريين هي الطامة الكبرى (حيث ولّد –الشدة من عندي- ذلك خطراً حقيقياً تجاوز تهديده كل الثروات الوطنية، ليطال أحد أبرز دعائم الدولة المستقلة وهي: الأرض).
تقول الافتتاحية: (في هذه الخارطة المعقدة ولد المرسوم49 في أيلول الماضي).

لكن الجريدة تدعي بأنها لا تعلم  (ظروف ولادته على وجه اليقين).
تقرّ الافتتاحية بأن المرسوم وضع شروطاً قاسياً جداً على عمليات بيع واستثمار الأراضي والعقارات في المناطق الحدودية، وتشير من بعيد أن الأكراد يدّعون بأن القانون يمسهم بالدرجة الأولى (هناك شرائح تدعي بأن القانون موجه ضدها دون سواها).


لكن الافتتاحية تبرر صدور المرسوم، بأن مستثمرين مشبوهين من عرب وأجانب (بسطوا أذرعهم حتى على القفار المجدبة والجبال الشاهقة والأودية السحيقة، ولم تسلم منهم حتى المناطق الرعوية، وهو أمر ربما يكون أحد أسباب ولادة المرسوم).

ولهذا نجد أن كتّاب الافتتاحية يرحبون بولادة المرسوم ضمنأ، ولكنهم يخشون (ألا تكون الولادة قد تمت بعد فوات الأوان).
تعدد الافتتاحية حالات البيع والشراء، مستمدة أقوالها من “مصادر مطلعة” دون الإشارة إلى هذه المصادر بالتحديد.

ومن ثم يختتم كتّاب الافتتاحية افتتاحيتهم بالقول أن هذه العمليات البيع والشراء الغاية منها (ببساطة جعل الحدود السورية بأكملها ملكاً لغير السوريين).

3
في البدء أتساءل هل تيار جريدة قاسيون مع المرسوم أم ضده؟.

ولماذا يخفي تأييده للمرسوم وراء ضجيج من التهويل والشعارات؟.

فعنوان الافتتاحية بحد ذاته يغمز إلى أن المرسوم جاء للحفاظ على وحدة الأراضي السورية من التمزيق.
إنه لم يناقش دستورية المرسوم وعدم دستوريته.

ولم يشر إلى طابعه الخاص الموجه ضد الأكراد، بل يشك بادعاء الأكراد أن القانون موجه ضدهم، ويتحاشى ذكر الأكراد بالاسم في الافتتاحية نتيجة الحذر غير المعلن من قبل النظام على أحزاب الموالاة تجاه كل ما يتعلق بالأكراد.

ولعل السؤال الأهم، ما هذه الفهلوية للتفريق بين الحكومة و”الفريق الاقتصادي الحكومي”، إنها تخريجة من لا يستطيع على قول الحقيقة، ومجابهة قضايا الوطن والمواطنين، بالانزلاق إلى اختلاق كلمات ومصطلحات، لمحاربة أوهام على شاكلة أوهام دون كيشوت، والهروب من مواجهة الوقائع على الأرض.
إن من يقرأ هذه الافتتاحية يصل إلى تصور وكأن هذا “الفريق الاقتصادي الحكومي” يجسد مصالح الامبريالية والصهيونية.

ولا ندري هل تضلل الافتتاحية أصحابها أم تضلل الشعب السوري بهذا التفريق الفهلوي بين الحكومة والفريق الاقتصادي الحكومي.؟.
ألم يكن هذا التيار الماركسي نفسه يقر بأن الدولة القائمة في سوريا هي دولة أمنية (عندما انتشرت مودة الاصلاح والتطوير) وكان يطالب الانتقال إلى الدولة المدنية؟.

كيف يمكن أن يكون هناك فريق اقتصادي حكومي أعلى من كل المراجع الأخرى في الدولة الأمنية، وبالتالي يضع تلك المراجع تحت الأمر الواقع؟.


يريد هذا التيار أن يقنعنا بأن هذا المرسوم جاء رداً على سلوكيات هذا الفريق الاقتصادي.

لا أدري هل هناك خلل في معارفنا العامة؟ أم أن هناك من يريد باستخدام المصطلحات العلمية”كالليبرالية مثلاً” ليدفعنا إلى الجهل أكثر مما نحن فيه؟.

كيف تتحدث الافتتاحية عن السياسات الليبرالية، والنظام الحاكم غير ليبرالي؟.

هل يمكن في ظل نظام ذي حكم الحزب الواحد وترسانة كبيرة من قوى الأمن، والأحكام العرفية وقانون الطوارئ، والمتمرس في منع الحريات العامة، كيف يمكن لنظام يضع المعارضة السياسية والفكرية في السجون ويشرّد قسماً آخر في المنافي, ويغلق أفواه البقية؟ كيف يمكن في ظل هكذا نظام أن تكون هناك سياسات ليبرالية؛ اقتصادية كانت أم سياسية؟ أم أن المصطلحات العلمية تتغير محتوياتها بمجرد أن يستخدمها هذا التيار الشديد الماركسية.


تقول الافتتاحية أن ما يجري، يعبّد الطريق أمام الأفكار المشبوهة والسلوكيات الخطرة التي تهدد وحدة البلاد.

أتساءل ما هي هذه الأفكار المشبوهة؟، وهل من المعقول أن نعتبر بيع أجزاء من الوطن(كما يُفهم من الافتتاحية) هي درجة أدنى من الأفكار المشبوهة؟.

وبعد كل هذا أمازالت الافتتاحية تخوفنا من الأفكار المشبوهة التي يخفيها “الفريق الاقتصادي الحكومي” في جعبته؟ هل يخطط هذا الفريق لبيع الوطن كله؟.
إن هذا التهويل الكبير هدفه تبرير المرسوم، بل تمويه الظلم القادم على الشعب الكردي في سوريا.

فالافتتاحية تعتبر المرسوم ولد كرد فعل لما يجري في الواقع، بل تخشى أن  تكون هذه الولادة قد تمت بعد فوات الأوان (بعد أن وقع الفأس بالرأس).

أي كان من المفروض أن يكون المرسوم قد صدر منذ زمن بعيد.

ومع ذلك يفاجئنا كتّاب الافتتاحية بأنهم لا يعلمون ظروف ولادة المرسوم على وجه اليقين.

ياله من سخرية بعقول القراء..! كيف لا يعلمون، ماداموا يذكرون هذه الكميات من عمليات البيع والشراء بالاسم والمكان، ويقولون أنها معلومات من مصادر مطلعة؟.


لم نسمع بأن قام أحد من المسؤولين في الحكومة أو في حزب البعث بذكر شيء في الإعلام على هذا  الصعيد.

إذن من أين مصادر جريدة قاسيون؟ وكيف وصلت إلى هذه المصادر؟ ولماذا لا تسميها؟ وهل هي من أسرار هذا التيار؟ إنها والله لطلسم السحرة.

 
إذا كان الذين صاغوا المرسوم انطلقوا من خوفهم على الوطن من الأخطار الإستراتيجية الكبرى التي ارتكبها ويرتكبها “الفريق الاقتصادي الحكومي”، كما تدعي الافتتاحية، فلماذا لم يدفعهم هذا الخوف على الوطن أولاً إلى تقديم اقتراح بإبعاد هذا الفريق الاقتصادي الذي ينفذ أجندة”غير وطنية” من مركز القرارات الاقتصادية أو منعه من ممارسة السياسات الليبرالية؟.

يا لوَهم ما نعيش فيه.


إن الافتتاحية تصدق تبريراتها لصدور المرسوم، وهي حرة في ذلك، لكن الأنكى أنها تريد منا أن نضع المنطق جانباً ونقتنع معها بهذه التبريرات التي تخلق فزعاً لدى القارئ لدرجة أنه ينسى ما سيلحق المرسوم من ضرر كبير بالمواطنين.

بل إن الافتتاحية تنفخ في النفير العام  بأن المشكلة ليست في المرسوم بل بـ (ما يختبئ خلف الأكمة، فالغاية ببساطة جعل الحدود السورية بأكملها ملكاً لغير السوريين).

وهكذا، فبعد كل هذه التبريرات التي تدعيها الافتتاحية أيحق للأكراد ” المغفلين والأقل وطنية” أن يحتجوا على المرسوم؟ ألا يصبحون عندئذ جزءاً من” الفريق الاقتصادي والسياسات الليبرالية”، الذي يدعي تيار قاسيون بأنه وراء كل مصائب البلاد.


أعيد الكرة مرة أخرى، بأن أكراد اليوم ليسوا أكراد زمن المرسوم الإحصائي لعام 1962.

لقد أدركوا أهداف المرسوم على حقيقتها.

فهم يرون أن المرسوم صدر في أجواء إقليمية يجري فيها تسعير العداء ضد الأكراد من جديد.

فأردوغان يريد تهجير الأكراد من تركيا إذا لم يقبلوا الذوبان في القومية التركية الفاشية، ونوري المالكي يهدد حكومة إقليم كردستان، ويسعى لإحياء كتائب الجحوش العميلة ضد الأكراد.

وفي سوريا جاء هذا المرسوم لتهجير الأكراد إلى الداخل، حتى يذوبوا في العروبة مع الزمن مثل أكراد الشام كما يقول الدكتور أحمد البرقاوي.**
 يذكرني هذا التهويل “القاسيوني” بتلك التهديدات العلنية والمبطنة التي أطلقها الكثيرون ضد أكراد العراق عندما احتلته أمريكا.

لقد هدد هؤلاء الأكرادَ بأن استغلالهم للظرف العراقي الجديد من أجل الحصول على حقوق ما، سيعرضهم للكارثة في المستقبل.

فالعديد من القوى السياسية العراقية، وفي بعض دول الجوار مع حكوماتها هددت صراحة أو ضمنأً بأن العرب سيعاقبون الأكراد بقسوة بعد مرور العاصفة.

كانوا يهددون الأكراد بحقوقهم.

فالكردي الجيد – حسب هؤلاء- يجب أن لا يكون سيد إرادته، ولا يطالب بحقه، بل كل ما يحق له المطالبة به هو الرحمة فقط.

يعني إذا استعمر الغربي العربي، فعلى الكردي حتى في هذه الحالة أن يبقى عبداً للعبد.

وعندما تسنح له الفرصة لكي يتحرر قليلاً، وحاول استغلال هذه الفرصة، فهو بذلك يتطاول على سيده، وتطاول العبد على سيده مصيره القتل حسب قوانين العبودية.

وللأسف الشديد، كان من بين هؤلاء المهددين تيارات شيوعية في سوريا والعراق.
 يدرك الشعب الكردي اليوم الاستراتيجيات التي تجري وراء الكواليس، وهو أكثر شعب في تاريخ الشرق الأوسط تحمل مثل هذه الكوارث البشرية.

ولكن ما يحزنه أن يشارك في هذه الاستراتيجيات قوى تدعي الماركسية، تدعي الإيمان بحقوق الشعوب، وبحق تقرير المصير، وتردد ليلاً ونهاراً الالتزام بالماركسية اللينينية.

هذه الماركسية اللينينية التي أصبحت في الشرق صك تبرئة للأنظمة الديكتاتورية بحجة الخطر الخارجي من امبريالية وصهيونية.

ألم نسمع أن بعض التيارات الشيوعية أصدرت بيانات في يوم إعدام صدام حسين ووصفته بالشهيد ؟.*** نعم وصفت هذا المجرم الذي قتل آلاف الشيوعيين المخلصين للفقراء والكادحين بالرئيس الشهيد.
 أنا لا أنكر الخطر الخارجي.

ولكن من غير المعقول أن يصبح هذا الخطر الخارجي قميص عثمان، يتم بواسطته تبرير قمع الأنظمة الديكتاتورية للشعوب، وتجويعها وتحويلها إلى قطيع غنم، لا هم لديها سوى البحث عن الكلأ في وطن تحول إلى صحراء لا كلأ فيه ولا ماء.
ـــــــــــــــــــ  
*انظر الرابط:
http://www.welate-e.com/erebi/modules.php?name=News&file=print&sid=4779   
** انظر الرابط:
http://www.welate-me.com/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=4728

***انظر: كنعان النشرة الالكترونية تاريخ 31كانون الأول 2006

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…