وفي خضم ذلك، تتبدَّى اصطفافات ثلاث، يمكن تسميتها كالتالي: الأوَّل، بقيادة أمريكا.
والثاني، يتمثَّل بالأنظمة الحاكمة في المنطقة.
والثالث، النهج الذي ابتكره وطوَّره القائد أوجلان.
ورويداً، تزداد التناقضات بين هذه الاصطفافات عمقاً.
تدخُّل رأسمال المعولم في الشرق الأوسط، بقيادة أمريكا، لا يستهدف الدولة _ الأمَّة وحسب، بل ويستهدف النضال التحرري لشعوب المنطقة أيضاً.
وذلك، عبر تنسيق ممانعتها في جبهة مناهضة مشتركة فيما بينها.
وعليه، يتقاطع اصطفاف أنظمة الشرق الأوسط مع أمريكا في معاداة السعي التحرري لشعوب المنطقة.
وما يمثِّله نهج أوجلان، هو الدفاع عن حريَّة شعوب المنطقة ومصالحها، بعيداً من التعويل على أمريكا، أو الركون إلى واقع حال أنظمة الشرق الأوسط.
وهذا ما يفسّر استهداف حزب العمال الكردستاني من قبل أنظمة المنطقة (تركيا، إيران، سورية، العراق، إسرائيل)، وأمريكا، على حدٍّ سواء.
السبب الرئيس لاستهداف حزب العمال وزعيمه، هو هذه الحقيقة، لا غير.
يرى النظام الرأسمالي العالمي أنه يتعيّن عليه، ومن الضروري، أن يقوم بحلّ المشاكل التي يعيشها الشرق الأوسط.
والتدخُّل الأمريكي، وفق هذا المسعى، زاد من مشاكل وأزمات المنطقة تعقيداً وتفاقماً، ما أوصل المشاكل في الشرق الأوسط إلى درجة من التأزيم، يمكننا تسميتها بالعُقَد العمياء.
وغالبيَّة تناقضات الشرق الأوسط الحاليَّة، تتأتَّى من هذه النقطة.
وبالتالي، فالسعي التحرري لشعوب المنطقة، بديهيٌّ أنه يخلق المشاكل لأمريكا ولأنظمة الشرق الأوسط في آن.
التدخُّل الأمريكي في المنطقة، يستند على العراق وتركيا، بشكل استراتيجي.
ويسعى هذا التدخُّل لأن يكلل نفسه بالظفر، عبر الارتكاز على هذه الاستراتيجيَّة.
وفي هذا السياق، وبغية أن تأتي الاستراتيجيَّة الأمريكيَّة ثمارها، فأنها ترتكز على دعامتين.
الأولى، “الإسلام السياسي” المعتدل في تركيا.
والثانيَّة، يمكن تسميته بالأكراد “المتعاونين المتفهِّمين”، وتعاطيهم المرن مع المسعى الأمريكي.
ولقد نجحت أمريكا في تسويق لنموذج الإسلام السياسي المعتدل، ممثلاً بحزب العدالة والتنمية، في العالمين العربي والإسلامي، لتفريغ الشحنة المقاومة والرافضة في المجتمعات الإسلاميَّة للسياسات الأمريكيَّة.
وعليه، عدم حظر المحكمة الدستوريَّة للحزب الحاكم في تركيا، كان خاضعاً لاعتبارات الاستراتيجيَّة الأمريكيَّة في المنطقة.
وفي سياق موازٍ، ستسعى أمريكا، عبر الأكراد المتعاونين _ إن نجحت في خلق هذا النموذج _ إلى ضمان نجاح التحالف التركي _ الأمريكي _ العراقي في المنطقة.
وفي هذه النقطة بالذَّات، تظهر حركتنا (حزب العمال الكردستاني)، كعائق كبير، يعرقل ويهدد هذا الاتفاق الثلاثي، لجهة أن حركتنا، هو الخصم والعدو اللدود لـ”الإسلام السياسي” في كردستان تركيا، ويشكل تحدِّياً حقيقيَّاً لمساعي خلق أكراد متعاونين ومتفهِّمين، الذين درج على تسميتهم بين بعض النخب الكرديَّة بـ”العقلانيين والبراغماتيين”، في شمال وجنوب كردستان؛ (كردستان تركيا وكردستان العراق).
و وجودنا كحركة أيديولوجيَّة سياسيَّة وعسكريَّة، تحظى بتأييد ملايين الأكراد في كافة أجزاء كردستان، يكفي لإدخال التحالف التركي _ الأمريكي _ العراقي ضمن دوائر الخطر، لصعوبة، وربما استحالة إيجاد الطرف الكردي “المتعاون” فيه.
وهذا ما يفسّر استهداف حركتنا من كافة الأنظمة الإقليميَّة، وبعض الجهات الكرديَّة، إلى جانب أمريكا، على كافة الأصعدة، العسكريَّة والسياسيَّة والإعلاميَّة.
وهذا ما يفسِّر أيضاً، قول بوش عن حركتنا بأنها العدو المشترك لكلّ من تركيا والعراق وأمريكا.
وهذا ما يفسِّر محاولات بعض الأكراد إلى وصفنا بـ”الطوباويَّة، والرومانسيَّة _ السياسيَّة، والرومانسيَّة _ الثوريَّة، وأننا نعيش زمناً آخر، ولا نفقه في السياسة حرفاً، وأننا هواة إرهاب وقتل ودمار…”، لمجرَّد أننا نرفض التحليق في الفلك الأمريكي، ونرفض العيش في الزمن الأمريكي، بكلِّ أغلاله وأعبائه المهينة المذلَّة.
ولأننا نطالب بحريَّة شعوب المنطقة، وتآلفها وتعاضدها تحت سقف وطني، يضمن مصالحها وكرامتها وحريَّتها.
ولأن المقاومة التي نبديها للتحالف الأمريكي _ العراقي _ التركي، ولأن مقاومتنا تفتح أعين الأكراد وشعوب المنطقة على خيارات أخرى، بمنأى عن الخيار الأمريكي، أو الاستسلام لأنظمة المنطقة، فما أسوأنا من أكراد مارقين، ينبغي سحقنا، بمنتهى الوحشيَّة، وسط صمت العالم!.
أمريكا، تريد منَّا، خلاف ما نحن عليه حاليَّاً.
وزيادة حالة التجريد والتعذيب النفسي والجسدي على قائدنا أوجلان، الأسير لدى السلطات التركيَّة، يتأتَّى من هذه النقطة.
فما يجري في سجن إمرالي بحقّ قائدنا، هو مسؤوليَّة أمريكيّة وأوروبيَّة، قبل أن تكون تركيَّة.
لأن أمريكا وأورويا هي من اختطفته وسلَّمته لتركيا، وهي التي تغضّ الطرف عن إرهاب الدولة الوحشي الذي تمارسه تركيا بحقّ الأكراد.
وكلما ازداد حزب العمال في تصعيد مقاومته، ازدادت أمريكا قلقاً على استراتيجيَّتها ومصالحها في المنطقة.
ناهيك عن كون مقاومتنا تعيد الأمل لشعوب المنطقة حيال جدوى المقاومة، لجهة عدم الارتهان للشروط والسياسات الأمريكيّة المذلَّة.
بذا، فالإصرار التركي على مواصلة سياسات الإنكار والسحق العسكري بحقنا، مردُّه إصرار الأمريكيين في معاداتنا.
إذ يعتبرون أفكارنا ومشاريعنا لحلّ القضيّة الكرديَّة، تحت السقف الوطني في البلدان التي يتواجد فيها الأكراد، وضمن دولة المواطنة والحقّ والقانون والمؤسسات، يعتبرونها بمثابة التهلكة لمصالحهم.
وقد تختلف أمريكا مع بعض أنظمة المنطقة، لكنها تتقاطع معها في ضرورة محاربتنا بشتَّى الوسائل.
وتالياً، الدور الأمريكي والأوروبي الكبير في بقاء تركيا مصرَّة على خيار الحسم العسكري للقضيَّة الكرديَّة، بات واضحاً، ولم يعد يختلف عليه اثنان.
فأمريكا وأوروبا، ترفضان تماماً، أن تنتعش أفكار ومشاريع أوجلان في كردستان.
ورأينا هذا، لا يصدر من ذهنيَّة أو نظريَّة المؤامرة، بل لأن التطبيقات العمليَّة، والانحياز الأمريكي _ الأوروبي ضدّ حزب العمال الكردستاني، لا يشير إلاّ إلى ذلك.
وإلاّ، فلماذا تصرّ الدول الأوروبيَّة على إدراج حركتنا على لائحة المنظمات الإرهابيَّة، في حين أن ديوان العدالة الأوروبيَّة، وهي أعلى هيئة قضائيَّة وحقوقيَّة أوروبيَّة، أصدر قراره بلاقانونيَّة إدراج اسم حزب العمال الكردستاني ضمن اللائحة الأوروبيَّة للمنظمات الإرهابيَّة منذ أكثر من سنة؟.
لماذا يعتبرنا الأمريكيون أعداء لهم، ونحن لم نقتل أمريكيَّاً واحداً، ولم نستهدف أبداً أيَّاً من المصالح الأمريكيَّة في تركيا والعالم، طيلة فترة نضالنا؟!.
فنحن قادرون على فعل ذلك.
وأمريكا تعلم أننا قادرون.
لكننا لم نفعل، رغم تيُّقننا من أن أمريكا تقف وراء خطف قائدنا وتسليمه لتركيا، ودعم تركيا في حربها ضدنا.
أمريكا تفاوضت مع العشائر السنيَّة ومجموعاتها المسلَّحة في العراق، وربما هي الآن، تستعدّ للتفاوض مع “طالبان” و”القاعدة” أيضاً، مع قدوم الإدارة الديمقراطيَّة الجديدة، برئاسة أوباما.
والمجموعات السنيَّة العراقيَّة و”طالبان” و”القاعدة” أياديهم ملطَّخة بدماء الأميركيين.
أمَّا نحن، فواشنطن مصرَّة على أننا أعداؤها، رغم أننا لم نصبْ أيّ أميركي ولو بخدش.
أميركا، لا تخاف من بنادقنا، بل من مشروعنا التنويري النهضوي، الذي يقف وراء تلك البنادق.
ولا يمكن مقارنتنا بـ”القاعدة وطالبان والمجموعات السنيَّة العراقيَّة”، لمجرَّد حملنا البنادق.
لأننا نحمل أفكار تدعو للتعاون والتآخي بين الشعوب، ورفض الهيمنة الأمريكيَّة، ورفض الأحقاد القومويَّة، أمَّا المجموعات الأخرى، تدعو للظلاميَّة وتنشر الفتن والأحقاد وثقافة الكراهيَّة بين الأديان والأعراق والمذاهب والملل.
وندعو لأن تراعي أمريكا مصالح شعوبنا وأوطاننا، دون تمييز أو تحيّز لإسرائيل وتركيا.
ولئن أمريكا تعتاش على تأجيج النعرات العرقيّة والقوميّة لتمرير مشاريعها في المنطقة، لذلك تعتبرنا أعداءاً لها.
ومن هنا، تستمدّ تركيا والدعم، في مواصلة التعنُّت، ورفض خطو أيَّة خطوة نحو الحلّ السلميّ.
وبل التنسيق مع أنظمة دمشق وطهران وبغداد، وبتغطية أمريكيَّة _ أوروبيَّة، لمعاداة حقوق الأكراد عموماً، وحزب العمال الكردستاني، على وجه الخصوص.
في هذا الإطار أيضاً، يسعون في الآونة الأخيرة، لجرّ الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في كردستان العراق، لمواجهة مسلَّحة مع حزب العمال الكردستاني.
عندما استلم الجنرال إلكر باشبوغ مهامَّه كرئيس لهيئة الأركان التركيَّة، زعم “أن حزب العمال بات على حافة الانهيار”.
وفي هذا السياق، سعى لإعادة تحشيد تركيا خلف وجهة نظره.
وعقد سلسلة من الاجتماعات لأجل ذلك، مع الإعلاميين والأحزاب، وبعض المؤسسات الأهليَّة، المحسوبة على الأحزاب التركيَّة، كي لا يحيد أحد عن وجهة النظر تلك، وتبقى كلّ تركيا تحت سيطرة وتحكُّم الجيش.
لدرجة، أن باشبوغ بدأ يحضر اجتماعات الحكومة أيضاً!، في سابقة خطيرة، ليثبت أنه ليس قائداً للجيش وحسب، بل لكلّ السلطات والمؤسسات التركيَّة.
وكي لا يحيد أحد عن تنفيذ مخططاته وتعليماته، قام باشبوغ بتهديد الجميع.
وأوحى، بما معناه: “إن أمريكا وأوروبا تدعماننا.
وإنْ نجحنا في جرّ أحزاب كردستان العراق على صفِّنا، فسنحقق أهدافنا، لا محالة.
وينبغي على الجميع، ان يتحرَّك وفق ذلك”.
وغالب الظنّ، أن ما يجري حاليَّاً، هو تنفيذ لهذا المخطط.
لذا، بات استدراج كردستان العراق لهذا المخطط، بالنسبة للأتراك والأمريكيين، ذو أهميَّة استراتيجيَّة.
وكل التعليقات والتحليلات في الصحافة التركيَّة، تدور حاليَّاً حول فكرة: “إن لم ننجح في جرّ أحزاب كردستان العراق لصفِّنا، فلن نحقق أيَّاً من أهدافنا”.
ونحن أيضاً، يمكننا القول: بقدر ما أن مقاومة حزب العمال الكردستاني، تفيد الشعب الكردي في كلّ مكان، فجلّ تلك الفائدة، تعود على كردستان العراق وخدمتها وتحصينها.
وفي الطرف المقابل، يودُّ أكراد العراق تطوير علاقاتهم مع تركيا، وهذا من حقِّهم.
ويبرز هنا الدور الأمريكي الذي يسعى منذ فترة طويلة، لتوطيد هذه العلاقات وتطويرها.
ورغم ذلك، كانت تركيا مترددة في خطو أيَّة خطوة صميميَّة وواضحة في هذا الاتجاه.
لكن، حين صعَّد حزب العمال الكردستاني عمليَّاته العسكريَّة في العمق التركي، بعد تجاهل الأتراك لكلّ نداءاتنا السلميَّة، اضطرَّت تركيا للبدء في فتح قنوات حوار جادّ مع كردستان العراق.
وعليه، تصعيد مقاومتنا في كردستان الشماليَّة، أجبر قادة تركيا على الركوع أمام أقدام قادة كردستان العراق.
بالنتيجة، جزء هام من قوَّة وسلطة أحزاب كردستان العراق، كان من كيس نضال ومقاومة حزب العمال الكردستاني.
والآن أيضاً، علاقة هذه الأحزاب مع تركيا، وتهافت الأخيرة عليها، هو أيضاً على حساب حزب العمال الكردستاني.
أقلُّه، من الجانب الأتراك.
محصِّل القول: إن مخطط باشبوغ _ أردوغان، يرتكز على سحق القوة العسكريَّة لحزب العمال الكردستاني، وتجريده من شعبيَّته الجماهيريَّة في الانتخابات المحليَّة المزمع إجراؤها في آذار المقبل.
وبالتالي، إظهار القضيَّة الكرديَّة في تركيا للرأي العام العالمي بأنها مشكلة اقتصاديَّة بحتة، مشكلة فقر وعوز وبطالة وانعدام تنمية، وأنْ ليس لها أيَّة جذور سياسيَّة.
وإنْ وصل ذلك المخطط مرحلة المواجهة والمجابهة، حينئذ، تكون تركيا قد وضعت نفسها أمام خيارين: إمَّا أن ينجح مخطط أردوغان _ باشبوغ، ويطوى الملفّ الكرديّ بشكل دموي وحشي، كما جرى في مطلع القرن المنصرم، وتنتصر الاستراتيجيَّة الأمريكيَّة في المنطقة، أو أن تنجح مقاومة القوى الداعية للحريَّة والديمقراطيَّة في كردستان وتركيا.
والتطوّرات اللاحقة في المنطقة، ستكون من إفرازت وتجليَّات هذه الحالة الضديَّة.
اللهمَّ ان نحت الإدارة الأمريكيَّة الجديدة، والاتحاد الأوروبي، منحاً مخالفاً للإدارة السابقة، ونزع فتيل هذه الأزمة، التي لن توِّفر أحداً، إنْ هي وصلت لحافَّة الانفجار.
ولئن انتخاب أمريكا لباراك أوباما يستحقّ التهنئة، وتثير الآمال بدنو حقبة جديدة، فهذا ما نأمله من الإدارة الأمريكيَّة الجديدة، بأن تلقي حقبة بوش، ومعاداته لنا، خلف ظهرها، وألاّ يكون “التغيير” الذي دعا إليه الرئيس الأمريكي المنتخب أوباما، شعاراً انتخابيَّاً وحسب.
نأمل منه ذلك، دون أن نعوِّل عليه كثيراً.
* قيادي، من مؤسسي حزب العمال الكردستاني