حدود «التغيير» في عهد أوباما

صلاح بدرالدين

       تكاد النخب الثقافية وأوساط مراكز البحث والتحليل ومنابر الاعلام العريقة في الولايات المتحدة الأمريكية التي تشكل المساحة الأهم للرأي العام أن تجمع بمناسبة انتخاب المرشح الديموقراطي الأسود السيد باراك حسين أوباما لتولي سدة الرئاسة الرابعة والأربعين على ضخامة الحدث الذي أطلق مسيرة تغيير الأجيال ومؤشرا لاعادة الاصطفاف في الطبقة الحاكمة من الناحتين الجغرافية والعرقية حيث منح الشعب الأمريكي الفرصة لهذا المواطن ذو الجذور الافريقية ليحكم الدولة الأعظم في العالم دون الالتفات الى العرق واللون والأصول ليبدد القلق والانقسام السائدين في المجتمع الأمريكي منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر
والانخراط في مواجهة الارهاب وحربي أفغانستان والعراق ويحسن مكانة البلد في العالم ويزيل الى الأبد لطخة العبودية والتمييز العنصري الذي عانى منها أوباما قبل غيره فقد ولد في وقت كانت ولايات عديدة تحظر الزواج بين والدته البيضاء ووالده الأسود الكيني وليبدأ من جديد في معالجة الأزمة الاقتصادية والحد من الفساد والفوضى المالية ويتصدى لمعضلة التغير المناخي وتلوث البيئة وتطوير تكنولوجيات أكثر نظافة في مجال الطاقة ووضع خطة لاصلاح الهجرة حسب مبادىء حقوق الانسان واللاجئين اضافة الى مشاكل التأمين الصحي وحماية ذوي الدخل المحدود وليمضي فدما في دحر أعداء أمريكا بتحسين شروط الانتصار وتجفيف منابع الارهاب ولكن بوسائل أكثر نجاعة , وقد أثبت أوباما جديته من خلال حملته الانتخابية حيث أعاد الحياة للقاعدة الشعبية والفقراء ودشن أسس خارطة جديدة غيرت المفاهيم السابقة وخرقت الحدود المرسومة لنفوذ الجمهوريين والديموقراطيين على السواء ورغم اكتسابه بعض المناعة في المواجهات الكلامية وقوة المنطق وصدقية الحجة بعد هزيمته للسيدة هيلاري كلنتون الا أن نتائج الأزمة الاقتصادية قد أنجدته وقطعت الطريق على خصمه للتغني بمفاخره البطولية في حرب فيتنام ورفع رايات الشرف والكرامة الوطنية .
     الحدث الضخم هذا في تشخيص أسباب وقوعه واستخلاص دروسه المعتبرة واستشفاف آفاقه المستقبلية يستلزم التوقف مليا لقراءة معمقة للقضايا الخمسة التالية :
     لقضية الأولى هي التفرقة العنصرية التي منعتها المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية فقط منذ أكثر من نصف قرن بقليل  حيث خضع الافارقة – الامريكييون والاقليات  العرقية للتمييز فى العمل ومواقع العمل حتى أن نسبة البطالة  بين السود تزيد عن ضعفى النسبة للبيض  فالفصل والتمييز العنصرى عميق الجذور فى الولايات المتحدة الى درجة أنه قد قيد تنمية شباب الاقليات  العرقية ووصول رجل من هذه الأقليات الى هذا الموقع في بلد شهد قرنين من الحروب الأهلية مع الهنود الحمر والأفارقة يعني الكثير الى درجة الاقتراب من التحول الكبير في العلاقات وصفه البعض بانقلاب الأمة الأمريكية على المؤسسة والاقتراب أكثر نحو التفاعل مع شروط العولمة وهذا ما بدا واضحا في خطاب الرئيس المنتخب الذي فتح الجرح العنصري بكل شجاعة ويزيد احتمال وضع حد لهذه الظاهرة البعيدة عن القيم الإنسانية لأن اوباما بحد ذاته ظاهرة تمكين منتصرة لأقلية أثنية داخل الولايات المتحدة لم تعهدها الولايات المتحدة الأمريكية منذ استقلالها عام 1776 وحتى بعد حرب أهلية في الستينات من القرن التاسع عشر تكللت بانتصار “محرر العبيد” الرئيس ابراهام لنكولن فهل سيشكل هذا الانقلاب النوعي حافزا للادارة الأمريكية الجديدة للتوجه بقوة نحو التصدي لمظاهر العنصرية والتمييز العرقي والاضطهاد القومي والنزعات الشوفينية السائدة في الكثير من بلدان العالم وخاصة في ايران وسوريا اللذان تعاني عشرات الأقوام والأثنيات والمكونات في ظلهما صنوف القمع والاستئصال والحرمان من الحقوق وهل ستدفعها الى البحث عن حلول لقضايا الشعوب والقوميات والأثنيات والأجناس في اطار حق تقرير المصير الذي أجازته المواثيق والأعراف الدولية ومبادىء ولسون ولنكولن مثل القضيتين الكردية والفلسطينية وغيرهما خاصة وأن الاضطهاد القومي العنصري وما يستتبع من عنف وحروب ابادة وحرمان وتهجير قسري وظلم اجتماعي أحد أسباب ظاهرة الارهاب في العالم .
   القضية الثانية هي أن الفضل في هذا التحول الكبير يعود الى التقاليد الديموقراطية الأمريكية وامكانية تجديد نفسها بنفسها وأن ما حصل ليس كما فسره – الممانعون –  في منطقتنا بأن أمريكا على وشك الانهيار خاصة وأن السناتور أوباما هو الابن الشرعي للمؤسسات الأمريكية وترعرع في كنفها وملتزم بنهج وحدة الأمة الأمريكية وتعزير موقع الدولة الأعظم ومنافسته كعضو في الحزب الديموقراطي مع مرشح الحزب الجمهوري صورة عن ميكانيزم تداول السلطة بين الحزبين المخلصين للمؤسسة والسؤال المطروح بقوة هل ستعمل الادارة الجديدة على الانحياز للقوى الديموقراطية في العالم وهل ستدعم أطراف المعارضة الوطنية ضد أنظمة الحكم الدكتاتورية في الشرق الأوسط وهل ستمارس الضغوط على حلفائها من أنظمة الاستبداد في العالم لتحرير مجتمعاتها خاصة وأن ادارة الرئيس بوش فتحت الأبواب على مصراعيها في هذا المجال دون تحقيق الخطوات اللازمة .
    القضية الثالثة هي أن أوباما يعبر في جانب من فوزه عن محصلة توافق وطني أمريكي من اليمين واليسار والمحافظين والليبراليين لتجديد النظام الرأسمالي الأمريكي بعد الأزمة الاقتصادية العاصفة وازالة المعوقات في طريق نموها وتقدمها العلمي والثقافي والتكنولوجي وهذا التوافق ظهر في موقف المرشح الجمهوري المهزوم وفي تصريح الرئيس المنتهية ولايته بخصوص وحدة الأمة وتعزيز النظام وفي مجال التجديد قد يخطو أوباما خطوة تجاه أوروبا لاصلاح ذات البين مع الحليف الأوروبي القطب الآخر في المعسكر الرأسمالي العالمي وهنا أيضا سيخيب ظن بعض المتسرعين في منطقتنا اللذين بشروا بقرب سقوط النظام الرأسمالي العالمي في عقر داره وأن الاشتراكية هي البديل ووصل الأمر بالبعض من السذج الى اعتبار الاقتصاد الاسلامي هو الحل ! .
   القضية الرابعة هي أن ظاهرة أوباما عمقت المشاركة الشعبية الأمريكية في الانتخابات واستقطبت المنسحبين من الحياة السياسية وأعادت الحيوية الى المترددين كما شجعت الشباب الى العودة من خيار اللامبالاة ومشاعر الاحباط بعد شعورهم بأن هناك من يجسد طموحاتهم ويستجيب لأمالهم كل ذلك زاد من أعداد المقترعين حيث وصلت النسبة الى أكثر من 66% وهذا أمر مهم جدا في حياة الأمريكيين وسيكون له تأثير مباشر على مسألة التغيير التي التزمت بها الادارة الديموقراطية الجديدة ودافعا لعدم تراجعها بالمستقبل كما هو متبع عادة من جانب المرشحين لدى اغداق الوعود خلال الحملات الانتخابية .
    القضية الخامسة هي أن التجربة – الأوبامية – اذا صح التعبير في الدولة الأعظم أثبتت مجددا أن الأقليات مؤهلة لقيادة التغيير حتى في أمريكا بل أن من شروط تحقيق التغيير توفر حرية مشاركة ممثلي الأقليات في الحياة السياسية ورفع القيود عن حقوقها وهويتها وازالة المعوقات القانونية والدستورية والاجتماعية من طريقها والاعتراف بمطالبها وضمان سلامتها واستحقاقاتها دستوريا وهذه الحقيقة تعيدنا مرة أخرى الى استحضار الوضع المأساوي للقوميات والأجناس والأقوام التي تعاني صنوف الاضطهاد والاستبعاد من جانب ممثلي القوميات والمكونات الاجتماعية السائدة الحاكمة الأكثر عددا في بلدان الشرق الأوسط مع أنها – الأقليات – قادرة بحكم طاقاتها الحيوية غير المترهلة في حال تحقيق المشاركة العادلة على المساهمة بل قيادة النضال على طريق البناء والتنمية والتقدم وأكثر من ذلك فان بعض أطراف المعارضات الوطنية لم يستوعب بعد حقيقة الدور الريادي البارز الذي يمكن أن يقوم به ممثلو المكونات الوطنية الرازحة تحت نير القمع والتفرقة العنصرية المتضررة أكثر من نظم الاستبداد والمستعدة أكثر في تقديم التضحيات في سبيل الحرية في البلدان المتعددة القوميات والأديان والمذاهب وكمثال على ذلك الدور الكبير للحركة الكردستانية في العراق الى جانب المعارضة العراقية العربية في دحر الدكتاتورية وتسريع العملية السياسية الديموقراطية ومواجهة الارهاب والقيام بدور صمام الأمان التوحيدي المتوازن في المجتمع العراقي الذي يتعرض الى الصراعات المذهبية نفس الدور الذي ينتظر الشعب الكردي في سوريا في حال رفع القيود الشوفينية عنه والتعامل مع ممثليه دون تميز وبمعزل عن ميول الاستعلاء القومي من جانب أطراف المعارضة وتقديم ضمانات الطمأنة عبر البرامج والمواثيق الفعلية  حول الالتزام بحقوقه المشروعة في حال استلام السلطة لأن الكرد والقوميات الأخرى يحملون ذكريات سلبية في مجال تراجع العديد من المعارضين عن تعهداتهم عندما أعلنوها وهم في صفوف المعارضة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…