هوشنك أوسي
ربما، إعجاب وافتتان العالم العربي بالتجربة التركيَّة، وأداء “الإسلام السياسي” فيها، له ما يبرره.
وقسط وافر من هذا الانبهار والافتتان، يتأتَّى من حالة السخط والمقت الشديدين في العالم العربي حيال تجارب الإسلام السياسي العربيَّة الدمويَّة، يضافُ إليها فشل المشاريع القوميَّة _ اليساريَّة، الانقلابيَّة، التي أنتجت طُغماً عربيَّة استبداديَّة، شموليَّة، انزلقت نحو الفاشيَّة في التعاطي مع مجتمعاتها ومكوِّناتها القوميَّة والإثنيَّة.
لكن، أن تنتقل عدوى الافتتان والانبهار بالتجربة الأردوغانيَّة إلى الحال الكرديَّة، فهذه ظاهرة “فريدة”، تستعصي على الفهم والهضم السياسي المنطقي، إذما استندنا لحجم المعطى العنصري في الراهن التركي، بمختلف تلاوينه السياسيَّة، ومشاربه الفكريَّة، إزاء الأكراد، داخل وخارج تركيا.
ولئن دأبت الحكومات القوميَّة، اليمينيَّة و”اليساريَّة” المتعاقبة على إدارة تركيا في نفيها للوجود الكردي، بمنطق الحديد والنار والصهر والتذويب القومي.
والنزوع الاستعلائي الطوراني الوقح، في التعاطي مع الكُرد والعرب والأرمن والسريان…، فيمكن تفسير خطورة ذلك، بحجم الحمولة القومويَّة المريضة التي تستوطن السلوك السياسي التركي، الذي أرسى قواعده، مؤسِّس الجمهوريَّة مصطفى كمال أتاتورك سنة 1923.
لكن، الأخطر، أن تجدد الأتاتوركيَّة نفسها في لبوس “إسلامي معتدل”، ظاهره خادع، وباطنه بارع، في قلب الحقيقة باطلاً، والباطل حقيقة، وأعني، تجربة حزب العدالة والتنمية، وأن يكون مسوِّقي وعرَّابي أردوغان كرديَّاً، هم نفرٌ من قادة كردستان العراق، ومن لفَّ لفيفهم من النخب الكرديَّة!.
لم يعدْ من المجازفة القول: أن قطاعاً من قيادات كردستان العراق، وتحديداً، الاتحاد الوطني الكردستاني، وقسم من قيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني، يستمرئون تبرئة ذمَّة حزب العدالة والتنمية من موجة العنف الجديدة _ القديمة التي تعصف بتركيا.
ويجتهدون، حتَّى أكثر من الأتراك، لإيجاد المبررات لاستمرار العنف التركي بحقّ أكراد تركيا، وتوصيفه أنه نتاج عنف حزب العمال الكردستاني، وليس العكس.
ويسعون لشرعنة التخندق الكردي العراقي الى جانب تركيا، ضدَّ العمال الكردستاني، ولا يندى لهم جبين، أثناء وصفهم لكفاح الشعب الكردي في تركيا بـ”الإرهاب”، او الانتقاص منه، وسعيهم الحثيث إلى فصل القضيَّة الكرديَّة عن حزب العمال الكردستاني، شأنهم شأن القوميين الأتراك!.
ويطالبون حزب العمال، بإلقاء السلاح، والنزول من الجبال، بشكل مجَّاني، دون إصلاحات وضمانات دستوريَّة…الخ.
يعني، ينبغي أن يستسلم العمال الكردستاني لمشيئة العسكر التركي، وواجهته الأردوغانيَّة “الإسلاميَّة المعتدلة”، وتعود القضيَّة الكرديَّة مجدداً إلى القمقم الأتاتوركي، لقرنٍ آخر!.
وهذا السلوك الكردي العراقي، يفتح قوساً كبيراً لسؤال أكبر، هو: ما يطالب به حزب العمال من تركيا، هو أقلّ بكثير مما كان قد منحه صدَّام حسين لأكراد العراق، فلماذا لم تكن لغة قادة أكراد العراق وقتئذ “هادئة”، وكانت خشنة، ولم ينزلوا من الجبال ويلقوا البنادق؟!.
الدستور العراقي على زمن النظام السابق، كان يعترف بالشعب الكردي، كثاني قوميَّة في البلاد.
ووقع النظام السابق على اتفاقيَّة الحكم الذاتي مع الملا مصطفى بارزاني في آذار 1970، ثم سنَّ قانون الحكم الذاتي للأكراد سنة 1974، وكانت اللغة الكرديَّة مسموح بها، والأدب الكرديّ يدرَّس في الجامعات والمعاهد العراقيَّة، والتلفزة والإذاعة الكرديَّة تبثّ من بغداد منذ مطلع الستينات، وحتى قبل التدخُّل الأمريكي في العراق 2003.
فماذا من هذه الأمور قد أنجزته تركيا، حتّى يبقى حمل العمال الكردستاني للسلاح عبثيَّاً وإرهاباً؟!.
والسؤال الآخر، لو لم تكن تركيا على حدود كردستان العراق، ولم يكن لقادة الأخيرة علاقات تجاريَّة متبادلة وطيدة وعميقة مع تركيا، هل كان فقهاء الكلام السياسي ونحاته هناك، سينهمكون في تدبيج المدائح لأردوغان، وترطيب خواطر تركيا، بتلك اللغة “الهادئة” التي يتباهون بأنهم صاغتها الأعلون والأولون، لا زيدٌ وعمرُ؟!.
يخيّل لبعض النخب السياسيَّة في كردستان العراق، بأنهم الأكثر فهماً ووعياً وزخماً وتجربةً في طهي الكلام السياسي “الهادئ”، والأعمق خبرةً وتبحُّراً في فقهه، وغيرهم من بني جلدتهم، هم السطحيون، الغوغائيون، الجهلة والحمقى…، الذين لم ينالوا حظَّهم في معرفة كيمياء وسيمياء اللغة الهادئة، وتورياتها، وتجلِّياتها!.
لذا، لا مناص من أن يمعن غيرهم من الأكراد، في الإنصات لهم، ويسرفوا في الصمت أمام عبقريتهم العريقة التي لا يطالها الخلط واللغط والخطأ من جوانبها.
المشكل هنا، ليست حالة التخيُّل تلك، بل في اقتناعهم بأن تخيُّلهم هو الواقع الحقّ، وما عداه، هو الزيف والباطل!.
وما يزيد من جرعة القناعة، لدى أولئك المتخيّلين، هو صمت الكثير من المثقفين والساسة الكرد حيال ذلك، بداعي الحفاظ على التجربة الكرديَّة الناشئة من النقد، مخافة فتح أعين “المتربِّصين” بها، على نقاط ضعفها.
ولَعمري أن هذا، هو “عذرٌ أوقح من ذنب”.
إذن، نحن أمام استغفال واستجهال بعض قادة الكرد، ولفيفهم من المثقفين، للمجتمع الكرديّ، وحالة رضا من المجتمع الكردي إزاء ذلك!.
وكعيّنة من طينة الاستغفال ذاك، ما كتبه فرياد راوندزي، رئيس تحرير جريدة “الاتحاد”، الناطقة باسم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة الرئيس العراقي جلال طالباني، تحت عنوان: “إشارات لـم يفهمها الـ(PKK)!”.
إذ يقول: “منذ زيارة الرئيس طالباني الى أنقرة والتي اعقبت العمليات العسكرية التركية في المناطق الجبلية في اقليم كردستان العراق، أخذ منحى العلاقة الكردية _ التركية يتجه نحو الافضل، ولم تكن الدبلوماسية العلنية هي الطريقة الوحيدة في طريق ازالة العقبات من أجل خلق بدايات جسر الثقة بين أنقرة وأربيل، بل كانت الدبلوماسية السرية هي الأخرى تعمل في الضفة الأخرى من أجل خلق لغة جديدة في التخاطب وحتى في تبادل الانتقادات مكان اللغة القديمة التي كانت تتسم بنوع من الخشونة في أكثر الأحوال.
ان اختيار اللغة الهادئة بدلا من اللغة الخشنة في الحديث عن العلاقة التركية _ الكردية، وبصورة خاصة في العلاقة بين انقرة وأربيل، كانت إشارة جديدة في تلاقي الحكومة المحلية في أربيل مع حكومة رجب طيب اردوغان في أكثر من نقطة حول ملف حزب العمال الكردستاني.
وهذه الأشارة لم تفقد حيويتها رغم العملية العسكرية الدموية لمقاتلي حزب العمال الكردستاني ضد الجيش التركي مؤخراً، وعلى هذا الأساس من المستبعد ان تُعيد الحكومة التركية تجربة الشتاء الماضي وتعطي الاشارة لجيشها بأجتياح “شمال العراق” رغم تفويض البرلمان القومي التركي له، لأن الابقاء على حيوية العلاقة بين اربيل وانقرة التي هي نتاج الدبلوماسية الذكية لـ(اردوغان _ طالباني) سوف تفضي الى نتائج أكبر في تحول اللغة الهادئة بين الجانبين الى مدلولات ملموسة على الارض في محاولة لإيجاد حل لمشكلة الـ(PKK).
وقد لا يكون الخيار العسكري هو المفضل ضمن طيات هذه اللغة المشتركة.
إن المدلولات المشتركة التي انتجتها اللغة الهادئة بين أنقرة والكرد لم يستوعبها الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني (…)، وإن الاصرار على عدم فهم مرحلة ما بعد المدلولات المشتركة (من قبل الجناح العسكري لـPKK، قراءة خاطئة لخارطة العلاقات بين اقليم كردستان العراق والحكومة التركية، وكانت العملية العسكرية الاخيرة لمقاتلي حزب العمال الكردستاني خطأ في حسابات قيادته ارتكبتها حتى باتت مدانة بطريقة لم يسبق لها مثيل من قبل.
(…) أن اردوغان رغم عمق الجراح الذي تركته العملية العسكرية لـ(PKK )، لم يفقد رباطة جأشه ولم يمس بدايات هذا الجسر بالسوء.
إن النتائج السلبية البعيدة للعملية التي نفذها مقاتلو الـ(PKK) قد لا تكون منظورة للقيادة العسكرية لهذا الحزب، مثلما لم تفهم قبلها القراءة الجديدة للغة الهادئة بين أربيل وأنقرة، رغم إن هذه اللغة لم تكن بين أنقرة وأربيل فقط بل تخطت حدود ابعد من ذلك.
الا ان اللغة التي قد تظهر في التخاطب بين الاقليم والـ(PKK) بعد الان فسوف لن تكون في احسن الاحوال الا في الجانب الأبعد من تلك اللغة الهادئة الموجودة بين أنقرة وأربيل، ولن يكون الخاسر في إعادة ترتيب أولويات التخاطب بين حكومة الاقليم والحكومة التركية، الذي سيكون الخطوة الاولى نحو إجراءات اخرى، الا حزب العمال الكردستاني”.
وبالنظر الى تجربة أحزاب كردستان العراق كرديَّاً، أكثر ما لا يثير الطمأنة، هي تلك “الدبلوماسيَّة السريَّة”، ولغة التملُّق والتزلُّف التي يمتهنها البعض من قادة كردستان العراق تجاه تركيا، والتي وصفها رواندزي بـ”الهادئة”.
وإن عُدتَ قليلاً لفتح ملفَّات تجارب الأحزاب الكرديَّة في العراق، لتأكيد وتثبيت وجهة النظر هذه، سيقول عنك أكرادك: “عاد لنبش الماضي، وتفتيق ونكئ جراح مندملة.
وهذا يخدم أعداء الكرد وكردستان”…الخ، وإن لم ترفع صوتك، ستخون نفسك وقناعتك، ما يفتح المجال أمام التاريخ الكردي لإعادة نفسه عشرات المرَّات!.
وعليه، عدم الانصياع للإملاءات والضغوطات التركيَّة، هو من ضروب الإساءة والإسفاف بالقضيَّة والمكتسبات الكرديَّة في العراق!.
وعكس ذلك، وهو التعقُّل واللباقة والكياسة والرزانة في أصول وفصول إدارة “الدبلوماسيَّة السريَّة”، بـ”لغة هادئة”، مع نظام، لم يجرِّب في تاريخه، إلاَّ لغة التهديد والوعيد والحديد والنار والصهر والقمع والإنكار…، في التعاطي مع الأكراد، ولمَّا يزل متمادياً في ذلك!.
والشيء الذي يعزز الشبهة والريبة حول هذه “الدبلوماسيَّة السريَّة (الذكيَّة)” الكرديَّة _ التركيَّة، التي أتى على ذكرها رواندزي بقوله: “وقد لا يكون الخيار العسكري هو المفضل ضمن طيات هذه اللغة المشتركة”، إنه لم ينفي تماماً لجوء أكراد العراق إلى الخيار العسكري ضد العمال الكردستاني، بالتنسيق مع الأتراك، رغم استبعاده!.
أما حول مفرزات العمليَّات العسكريَّة التي شنَّها مؤخراً العمال الكردستاني على الجيش التركي داخل تركيا، وارتداداتها السياسيَّة والإعلاميَّة، فيبدو أن رواندزي، ومن موقعه كرئيس تحرير صحيفة كرديَّة، ليس بمتابع للصحافة التركيَّة، للحدود الدنيا.
ويكفي إحالته لما كتبه الكاتب والصفي التركي محمد علي بيراند في صحيفة “ملليت”، وقوله: “ينبغي ألاَّ نخدع أنفسنا.
وقد يعزُّ علينا ذلك، لكن ينبغي الاعتراف بأن حزب العمال الكردستاني قد غيّر كيمياء الكثيرين منَّا، وقلب موازيننا وتوازناتنا رأساً على عقب.
الهجمات الأخيرة على بيزاليه / آكتوتون، أفقدت الجيش هيبته، الذي كنَّا متأكِّدين من أنه لا يُهزم أبداً.
والأهم من ذلك، قلَّت ثقتنا بأن العمال الكردستاني قد فقد قوَّته، وينتابه الوهن والضعف والأزمات.
بالإضافة إلى ان الذين لم يكونوا يشاءون انتقاد الجيش، هم الآن ينتقدونه بحدَّة وحزم.
وتمَّ إتلاف كاريمزيَّة الجيش بشكل واضح، فيما يتعلَّق بمكافحة الإرهاب.
وازداد منسوب الدعم والتأييد للعمال الكردستاني”.
هذا، إلى جانب عشرات المقالات التي يكتبها الكتَّاب الأتراك، وهم يجتهدون في التحليل العميق للنتائج السياسيَّة الجد سلبيَّة على الجيش والحكومة والدولة ومستقبل تركيا، على خلفية اشتداد وقع العمل العسكري للعمال الكردستاني مؤخَّراً، والتأكيد على ضرورة الكفّ عن خيار الحسم العسكري، واللجوء للحلول السلميَّة للقضيَّة الكرديَّة.
على الطرف الآخر، يتعامى أولي “الدبلوماسيَّة السريَّة _ الذكيَّة” وفقهاء ونحاة الكلام الهادئ في كردستان العراق، عن كل الكلام التركي الذي يشيد بنوعيَّة عمليات الكردستاني، وغزارة نتائجها السلبيَّة على تركيا، وإجبارها على إلقاء خطوات للوراء اتجاه أكراد العراق وأكراد تركيا.
بالنتيجة، يبدو أن البعض من فقهاء ونحاة الكلام السياسي الهادئ في كردستان العراق، هم من الحصافة والبراعة والعمق، لدرجة أنهم صاروا يقرأون الحدث الكردي في تركيا بالمقلوب، بما ينسجم ومصالحهم وميلانهم نحو الخندق التركي.
إلى جانب تبنِّيهم المسعى التركي في محاولة خلق حالة فضل بين القضيَّة الكرديَّة وحزب العمال الكردستاني، الذي لولاه، لبقي أكراد تركيا وقضيتهم في “خبر كان التركي”.
وكنموذج لمحاولات الفصل هذه، ما كتبته المستشار الصحفي للرئيس العراقي وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني كامران قره داغي في صحيفة “الحياة” يوم 19/10/2008، تحت عنوان ” تعاون أربيل وأنقرة يخدم مصلحة كردستان”.
إذ يقول: ” إن بقاء أنقرة في حلقة مفرغة بسبب عجز النخبة التركية عن التمييز بين حزب العمال الكردستاني والمسألة الكردية لا يخدم مصلحة كرد العراق والعلاقات بين انقرة وأربيل.
في المقابل، وهنا المفارقة، هناك تيار من النخبة الكردية في العراق يعاني عجزا مماثلا عن التمييز بين حزب العمال الكردستاني والمسألة الكردية، وبالتالي فإن موقف هذا التيار يُدخل أقليم كردستان أيضا في حلقة مفرغة ويمنع إزالة التوتر في العلاقات بين الإقليم وأنقرة (…)وقصارى الكلام أن هذا الطرح بدوره يجعل حزب العمال الكردستاني خارج الصدد، ومن حق القيادة في كردستان العراق أن تتصرف على هذا الأساس”.
فلو كانت المعادلة مقلوبة، وتجاهل النظام العراقي السابق التفاوض مع الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني، وكتب أحد العرب أو الأتراك او الفرس أو أيٍّ كان، بنفس كلام ما قاله قره داغي عن العمال الكردستاني، وأهميَّة الفصل بين العمال الكردستاني والقضيّة الكرديَّة، وتعداده المنعكسات الإيجابية لذلك، بماذا كان قره داغي سيرد عليه!؟.
إذ كيف يمكن الحديث عن القضيَّة الكرديَّة في العراق بمنأى عن الحزبين الرئيسين ونضالهما وقتئذ، حتى يمكن الحديث عن أهمية فصل العمال الكردستاني عن القضية الكرديَّة في تركيا حاليّاً!؟.
والسؤال الأهم، على متى سينظر بعض قادة كردستان العراق ومثقفيهم إلى القضيّة الكرديَّة في تركيا وسورية وإيران، بما ينسجم ومصالح كردستان العراق وعلاقاتها مع نُظم هذه البلدان، دون مراعاة مشاعر وحقوق بني جلدتهم في هذه البلدان؟!.
والنزوع الاستعلائي الطوراني الوقح، في التعاطي مع الكُرد والعرب والأرمن والسريان…، فيمكن تفسير خطورة ذلك، بحجم الحمولة القومويَّة المريضة التي تستوطن السلوك السياسي التركي، الذي أرسى قواعده، مؤسِّس الجمهوريَّة مصطفى كمال أتاتورك سنة 1923.
لكن، الأخطر، أن تجدد الأتاتوركيَّة نفسها في لبوس “إسلامي معتدل”، ظاهره خادع، وباطنه بارع، في قلب الحقيقة باطلاً، والباطل حقيقة، وأعني، تجربة حزب العدالة والتنمية، وأن يكون مسوِّقي وعرَّابي أردوغان كرديَّاً، هم نفرٌ من قادة كردستان العراق، ومن لفَّ لفيفهم من النخب الكرديَّة!.
لم يعدْ من المجازفة القول: أن قطاعاً من قيادات كردستان العراق، وتحديداً، الاتحاد الوطني الكردستاني، وقسم من قيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني، يستمرئون تبرئة ذمَّة حزب العدالة والتنمية من موجة العنف الجديدة _ القديمة التي تعصف بتركيا.
ويجتهدون، حتَّى أكثر من الأتراك، لإيجاد المبررات لاستمرار العنف التركي بحقّ أكراد تركيا، وتوصيفه أنه نتاج عنف حزب العمال الكردستاني، وليس العكس.
ويسعون لشرعنة التخندق الكردي العراقي الى جانب تركيا، ضدَّ العمال الكردستاني، ولا يندى لهم جبين، أثناء وصفهم لكفاح الشعب الكردي في تركيا بـ”الإرهاب”، او الانتقاص منه، وسعيهم الحثيث إلى فصل القضيَّة الكرديَّة عن حزب العمال الكردستاني، شأنهم شأن القوميين الأتراك!.
ويطالبون حزب العمال، بإلقاء السلاح، والنزول من الجبال، بشكل مجَّاني، دون إصلاحات وضمانات دستوريَّة…الخ.
يعني، ينبغي أن يستسلم العمال الكردستاني لمشيئة العسكر التركي، وواجهته الأردوغانيَّة “الإسلاميَّة المعتدلة”، وتعود القضيَّة الكرديَّة مجدداً إلى القمقم الأتاتوركي، لقرنٍ آخر!.
وهذا السلوك الكردي العراقي، يفتح قوساً كبيراً لسؤال أكبر، هو: ما يطالب به حزب العمال من تركيا، هو أقلّ بكثير مما كان قد منحه صدَّام حسين لأكراد العراق، فلماذا لم تكن لغة قادة أكراد العراق وقتئذ “هادئة”، وكانت خشنة، ولم ينزلوا من الجبال ويلقوا البنادق؟!.
الدستور العراقي على زمن النظام السابق، كان يعترف بالشعب الكردي، كثاني قوميَّة في البلاد.
ووقع النظام السابق على اتفاقيَّة الحكم الذاتي مع الملا مصطفى بارزاني في آذار 1970، ثم سنَّ قانون الحكم الذاتي للأكراد سنة 1974، وكانت اللغة الكرديَّة مسموح بها، والأدب الكرديّ يدرَّس في الجامعات والمعاهد العراقيَّة، والتلفزة والإذاعة الكرديَّة تبثّ من بغداد منذ مطلع الستينات، وحتى قبل التدخُّل الأمريكي في العراق 2003.
فماذا من هذه الأمور قد أنجزته تركيا، حتّى يبقى حمل العمال الكردستاني للسلاح عبثيَّاً وإرهاباً؟!.
والسؤال الآخر، لو لم تكن تركيا على حدود كردستان العراق، ولم يكن لقادة الأخيرة علاقات تجاريَّة متبادلة وطيدة وعميقة مع تركيا، هل كان فقهاء الكلام السياسي ونحاته هناك، سينهمكون في تدبيج المدائح لأردوغان، وترطيب خواطر تركيا، بتلك اللغة “الهادئة” التي يتباهون بأنهم صاغتها الأعلون والأولون، لا زيدٌ وعمرُ؟!.
يخيّل لبعض النخب السياسيَّة في كردستان العراق، بأنهم الأكثر فهماً ووعياً وزخماً وتجربةً في طهي الكلام السياسي “الهادئ”، والأعمق خبرةً وتبحُّراً في فقهه، وغيرهم من بني جلدتهم، هم السطحيون، الغوغائيون، الجهلة والحمقى…، الذين لم ينالوا حظَّهم في معرفة كيمياء وسيمياء اللغة الهادئة، وتورياتها، وتجلِّياتها!.
لذا، لا مناص من أن يمعن غيرهم من الأكراد، في الإنصات لهم، ويسرفوا في الصمت أمام عبقريتهم العريقة التي لا يطالها الخلط واللغط والخطأ من جوانبها.
المشكل هنا، ليست حالة التخيُّل تلك، بل في اقتناعهم بأن تخيُّلهم هو الواقع الحقّ، وما عداه، هو الزيف والباطل!.
وما يزيد من جرعة القناعة، لدى أولئك المتخيّلين، هو صمت الكثير من المثقفين والساسة الكرد حيال ذلك، بداعي الحفاظ على التجربة الكرديَّة الناشئة من النقد، مخافة فتح أعين “المتربِّصين” بها، على نقاط ضعفها.
ولَعمري أن هذا، هو “عذرٌ أوقح من ذنب”.
إذن، نحن أمام استغفال واستجهال بعض قادة الكرد، ولفيفهم من المثقفين، للمجتمع الكرديّ، وحالة رضا من المجتمع الكردي إزاء ذلك!.
وكعيّنة من طينة الاستغفال ذاك، ما كتبه فرياد راوندزي، رئيس تحرير جريدة “الاتحاد”، الناطقة باسم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة الرئيس العراقي جلال طالباني، تحت عنوان: “إشارات لـم يفهمها الـ(PKK)!”.
إذ يقول: “منذ زيارة الرئيس طالباني الى أنقرة والتي اعقبت العمليات العسكرية التركية في المناطق الجبلية في اقليم كردستان العراق، أخذ منحى العلاقة الكردية _ التركية يتجه نحو الافضل، ولم تكن الدبلوماسية العلنية هي الطريقة الوحيدة في طريق ازالة العقبات من أجل خلق بدايات جسر الثقة بين أنقرة وأربيل، بل كانت الدبلوماسية السرية هي الأخرى تعمل في الضفة الأخرى من أجل خلق لغة جديدة في التخاطب وحتى في تبادل الانتقادات مكان اللغة القديمة التي كانت تتسم بنوع من الخشونة في أكثر الأحوال.
ان اختيار اللغة الهادئة بدلا من اللغة الخشنة في الحديث عن العلاقة التركية _ الكردية، وبصورة خاصة في العلاقة بين انقرة وأربيل، كانت إشارة جديدة في تلاقي الحكومة المحلية في أربيل مع حكومة رجب طيب اردوغان في أكثر من نقطة حول ملف حزب العمال الكردستاني.
وهذه الأشارة لم تفقد حيويتها رغم العملية العسكرية الدموية لمقاتلي حزب العمال الكردستاني ضد الجيش التركي مؤخراً، وعلى هذا الأساس من المستبعد ان تُعيد الحكومة التركية تجربة الشتاء الماضي وتعطي الاشارة لجيشها بأجتياح “شمال العراق” رغم تفويض البرلمان القومي التركي له، لأن الابقاء على حيوية العلاقة بين اربيل وانقرة التي هي نتاج الدبلوماسية الذكية لـ(اردوغان _ طالباني) سوف تفضي الى نتائج أكبر في تحول اللغة الهادئة بين الجانبين الى مدلولات ملموسة على الارض في محاولة لإيجاد حل لمشكلة الـ(PKK).
وقد لا يكون الخيار العسكري هو المفضل ضمن طيات هذه اللغة المشتركة.
إن المدلولات المشتركة التي انتجتها اللغة الهادئة بين أنقرة والكرد لم يستوعبها الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني (…)، وإن الاصرار على عدم فهم مرحلة ما بعد المدلولات المشتركة (من قبل الجناح العسكري لـPKK، قراءة خاطئة لخارطة العلاقات بين اقليم كردستان العراق والحكومة التركية، وكانت العملية العسكرية الاخيرة لمقاتلي حزب العمال الكردستاني خطأ في حسابات قيادته ارتكبتها حتى باتت مدانة بطريقة لم يسبق لها مثيل من قبل.
(…) أن اردوغان رغم عمق الجراح الذي تركته العملية العسكرية لـ(PKK )، لم يفقد رباطة جأشه ولم يمس بدايات هذا الجسر بالسوء.
إن النتائج السلبية البعيدة للعملية التي نفذها مقاتلو الـ(PKK) قد لا تكون منظورة للقيادة العسكرية لهذا الحزب، مثلما لم تفهم قبلها القراءة الجديدة للغة الهادئة بين أربيل وأنقرة، رغم إن هذه اللغة لم تكن بين أنقرة وأربيل فقط بل تخطت حدود ابعد من ذلك.
الا ان اللغة التي قد تظهر في التخاطب بين الاقليم والـ(PKK) بعد الان فسوف لن تكون في احسن الاحوال الا في الجانب الأبعد من تلك اللغة الهادئة الموجودة بين أنقرة وأربيل، ولن يكون الخاسر في إعادة ترتيب أولويات التخاطب بين حكومة الاقليم والحكومة التركية، الذي سيكون الخطوة الاولى نحو إجراءات اخرى، الا حزب العمال الكردستاني”.
وبالنظر الى تجربة أحزاب كردستان العراق كرديَّاً، أكثر ما لا يثير الطمأنة، هي تلك “الدبلوماسيَّة السريَّة”، ولغة التملُّق والتزلُّف التي يمتهنها البعض من قادة كردستان العراق تجاه تركيا، والتي وصفها رواندزي بـ”الهادئة”.
وإن عُدتَ قليلاً لفتح ملفَّات تجارب الأحزاب الكرديَّة في العراق، لتأكيد وتثبيت وجهة النظر هذه، سيقول عنك أكرادك: “عاد لنبش الماضي، وتفتيق ونكئ جراح مندملة.
وهذا يخدم أعداء الكرد وكردستان”…الخ، وإن لم ترفع صوتك، ستخون نفسك وقناعتك، ما يفتح المجال أمام التاريخ الكردي لإعادة نفسه عشرات المرَّات!.
وعليه، عدم الانصياع للإملاءات والضغوطات التركيَّة، هو من ضروب الإساءة والإسفاف بالقضيَّة والمكتسبات الكرديَّة في العراق!.
وعكس ذلك، وهو التعقُّل واللباقة والكياسة والرزانة في أصول وفصول إدارة “الدبلوماسيَّة السريَّة”، بـ”لغة هادئة”، مع نظام، لم يجرِّب في تاريخه، إلاَّ لغة التهديد والوعيد والحديد والنار والصهر والقمع والإنكار…، في التعاطي مع الأكراد، ولمَّا يزل متمادياً في ذلك!.
والشيء الذي يعزز الشبهة والريبة حول هذه “الدبلوماسيَّة السريَّة (الذكيَّة)” الكرديَّة _ التركيَّة، التي أتى على ذكرها رواندزي بقوله: “وقد لا يكون الخيار العسكري هو المفضل ضمن طيات هذه اللغة المشتركة”، إنه لم ينفي تماماً لجوء أكراد العراق إلى الخيار العسكري ضد العمال الكردستاني، بالتنسيق مع الأتراك، رغم استبعاده!.
أما حول مفرزات العمليَّات العسكريَّة التي شنَّها مؤخراً العمال الكردستاني على الجيش التركي داخل تركيا، وارتداداتها السياسيَّة والإعلاميَّة، فيبدو أن رواندزي، ومن موقعه كرئيس تحرير صحيفة كرديَّة، ليس بمتابع للصحافة التركيَّة، للحدود الدنيا.
ويكفي إحالته لما كتبه الكاتب والصفي التركي محمد علي بيراند في صحيفة “ملليت”، وقوله: “ينبغي ألاَّ نخدع أنفسنا.
وقد يعزُّ علينا ذلك، لكن ينبغي الاعتراف بأن حزب العمال الكردستاني قد غيّر كيمياء الكثيرين منَّا، وقلب موازيننا وتوازناتنا رأساً على عقب.
الهجمات الأخيرة على بيزاليه / آكتوتون، أفقدت الجيش هيبته، الذي كنَّا متأكِّدين من أنه لا يُهزم أبداً.
والأهم من ذلك، قلَّت ثقتنا بأن العمال الكردستاني قد فقد قوَّته، وينتابه الوهن والضعف والأزمات.
بالإضافة إلى ان الذين لم يكونوا يشاءون انتقاد الجيش، هم الآن ينتقدونه بحدَّة وحزم.
وتمَّ إتلاف كاريمزيَّة الجيش بشكل واضح، فيما يتعلَّق بمكافحة الإرهاب.
وازداد منسوب الدعم والتأييد للعمال الكردستاني”.
هذا، إلى جانب عشرات المقالات التي يكتبها الكتَّاب الأتراك، وهم يجتهدون في التحليل العميق للنتائج السياسيَّة الجد سلبيَّة على الجيش والحكومة والدولة ومستقبل تركيا، على خلفية اشتداد وقع العمل العسكري للعمال الكردستاني مؤخَّراً، والتأكيد على ضرورة الكفّ عن خيار الحسم العسكري، واللجوء للحلول السلميَّة للقضيَّة الكرديَّة.
على الطرف الآخر، يتعامى أولي “الدبلوماسيَّة السريَّة _ الذكيَّة” وفقهاء ونحاة الكلام الهادئ في كردستان العراق، عن كل الكلام التركي الذي يشيد بنوعيَّة عمليات الكردستاني، وغزارة نتائجها السلبيَّة على تركيا، وإجبارها على إلقاء خطوات للوراء اتجاه أكراد العراق وأكراد تركيا.
بالنتيجة، يبدو أن البعض من فقهاء ونحاة الكلام السياسي الهادئ في كردستان العراق، هم من الحصافة والبراعة والعمق، لدرجة أنهم صاروا يقرأون الحدث الكردي في تركيا بالمقلوب، بما ينسجم ومصالحهم وميلانهم نحو الخندق التركي.
إلى جانب تبنِّيهم المسعى التركي في محاولة خلق حالة فضل بين القضيَّة الكرديَّة وحزب العمال الكردستاني، الذي لولاه، لبقي أكراد تركيا وقضيتهم في “خبر كان التركي”.
وكنموذج لمحاولات الفصل هذه، ما كتبته المستشار الصحفي للرئيس العراقي وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني كامران قره داغي في صحيفة “الحياة” يوم 19/10/2008، تحت عنوان ” تعاون أربيل وأنقرة يخدم مصلحة كردستان”.
إذ يقول: ” إن بقاء أنقرة في حلقة مفرغة بسبب عجز النخبة التركية عن التمييز بين حزب العمال الكردستاني والمسألة الكردية لا يخدم مصلحة كرد العراق والعلاقات بين انقرة وأربيل.
في المقابل، وهنا المفارقة، هناك تيار من النخبة الكردية في العراق يعاني عجزا مماثلا عن التمييز بين حزب العمال الكردستاني والمسألة الكردية، وبالتالي فإن موقف هذا التيار يُدخل أقليم كردستان أيضا في حلقة مفرغة ويمنع إزالة التوتر في العلاقات بين الإقليم وأنقرة (…)وقصارى الكلام أن هذا الطرح بدوره يجعل حزب العمال الكردستاني خارج الصدد، ومن حق القيادة في كردستان العراق أن تتصرف على هذا الأساس”.
فلو كانت المعادلة مقلوبة، وتجاهل النظام العراقي السابق التفاوض مع الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني، وكتب أحد العرب أو الأتراك او الفرس أو أيٍّ كان، بنفس كلام ما قاله قره داغي عن العمال الكردستاني، وأهميَّة الفصل بين العمال الكردستاني والقضيّة الكرديَّة، وتعداده المنعكسات الإيجابية لذلك، بماذا كان قره داغي سيرد عليه!؟.
إذ كيف يمكن الحديث عن القضيَّة الكرديَّة في العراق بمنأى عن الحزبين الرئيسين ونضالهما وقتئذ، حتى يمكن الحديث عن أهمية فصل العمال الكردستاني عن القضية الكرديَّة في تركيا حاليّاً!؟.
والسؤال الأهم، على متى سينظر بعض قادة كردستان العراق ومثقفيهم إلى القضيّة الكرديَّة في تركيا وسورية وإيران، بما ينسجم ومصالح كردستان العراق وعلاقاتها مع نُظم هذه البلدان، دون مراعاة مشاعر وحقوق بني جلدتهم في هذه البلدان؟!.
كاتب كردي سوري
Shengo76@hotmail.com
عن إيلاف