ومن الجدير بالذكر، أن الأزمة التي بدأت تتصاعد في الآونة الأخيرة، لتطفو على سطح الأحداث وتحتل واجهة القضايا في الشرق الأوسط، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة بكل تأكيد.
أولاً ـ لأن الدوافع التي حفزتْ مقاتلي حزب العمال الكردستاني الى تنفيذ العمليتين الأخيرتين، قد تكون بمثابة رد فعل على سياسة البطش و القهر، التي تُمارس من قبل الطغمة الحاكمة في تركيا ضد شعبنا منذ عقود، أو رد فعل على تلك الوعود الخلبية لرئيس الجمهورية (عبدالله غول ) ورئيس وزرائه (رجب طيب أردوغان )
إلا أن حزب العدالة والتنمية، الذي فاز في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بفضل أصوات الناخبين الكرد، سرعان ما بدأ ـ تحت ضغط العسكرـ في التنصل من هذه الوعود، رغم تحكمه بمقاليد رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء والبرلمان على حد سواء، وهو يَعْلم عِلمَ اليقين بأن التصعيد العسكري سيُضْعِف من ثقة هؤلاء الناخبين بحزب العدالة والتنمية، ويجهض التفاؤل الذي سادَ الشارع الكردي عقِبَ اللقاء الذي تمّ بين رئيس البرلمان و أحمد ترك، رئيس الكتلة الكردية في البرلمان ( حزب التجمع الديمقراطي DTP )، كما سيقلل في الوقت نفسه من فرص إنضمام تركيا إلى الإتحاد الأوربي في النهاية.
فالدور الذي أقدم عليه الثنائي ( غول / أردوغان ) في خداع الكرد، بطلاوة لسانهما وسلوكهما الحرباوي (من الحرباء) وإزدواجية معاييرهما، فيما يخص الموقف على الأقل من الأقلية التركية في بلغاريا من جهة، ومن الشعب الكردي الذي لا تقل نسبته عن ثلث سكان تركيا من جهة أخرى ؛ يذكرني بحكاية رواها ( جيورجي ديمتروف ) عن الإنتخابات النيابية التي جرت في بلغاريا ذات يوم، توحي ـ لكل ذي بصيرة ـ بأن المراوغة والإكثار من الوعود الخلبية، قد تخدع ولكنْ الى حين، من هنا تنتفي مصداقيتها، ناهيك عن المراهنة عليها من لدن الناخب الكردي، الذي لدغ من ذاتِ الجحر مراتٍ ومرات.
تقول الحكاية : « ذهبَ أحد المرشحين إلى قريةٍ في منطقته الإنتخابية، فتجمَعَ الناخبون في بيتِ أحدهم، وأخذ المرشح يحدثهم عن مشاريعه العمرانية، مطلقاً الوعود الكثيرة، الى ان قال لهم : إذا ما انتخبتموني، فسأبني لكم جسراً، يصل قريتكم ببعضها البعض.
فأجابوه قائلين : يا حضرة المرشح، ليس في قريتنا نهر كي نقيم عليه جسراً.
فأجابهم : لا تهتموا، فسأحفر لكم نهراً، ثم أبني عليه جسراً، والمهم هو أن تنتخبوني… ! » ( الرفاق والدرب ـ يوسف خطار الحلو ـ ص 79 ).
ثانياً ـ كما ان المؤسسة العسكرية التي فقدت توازنها، ومعها كل قوى التطرف التركية، تسعى جاهدة لإستغلال فرصة كهذه لتصعيد الوضع أكثر وتأزيمه، بغية إستعادة نفوذها المتقزم وهيبتها التي تمرّغت في الوحل مراراً أولاً، وإستهداف التجربة الفيدرالية في إقليم كردستان العراق والنيل منها بأي ثمن ثانياً.
من هنا، نجد كيف أنها تدفع بالأحداث نحو التوتر مع حكومة الإقليم، وتفبرك في هذا السبيل شتى الترّهات لتضليل الرأي العام التركي، أو تخلق المبررات الواهية لإجتياح الإقليم والتدخل بالشأن العراقي الداخلي، وذلك في ظل دعم لوجستي أمريكي وصمت دولي وعربي واسلامي مريب وتواطىء إقليمي مشين، مما أدى الى تفاقم الأزمة واستفحالها.
وما يثير الإستهجان أن النظام التركي لا يتوانى عن التباكي على تركمان العراق أو ذرف دموع التماسيح على كركوك، متخذاً إياها بمثابة مسمارالخوجة نصرالدين / جحا، في الوقت الذي يتناسى فيه، كيف كان يلتزم الصمت حيال معاناة التركمان في عهد صدام، ويدير لهم ظهر المجن.
لكنْ، هيهات أن تنطلي مثل هذه الأكاذيب على أحد، فما يثلج القلب حقاً، أن تياراً معتدلاً وعقلانياً في داخل الشارعين التركي والكردي بدأ يتبلور مؤخراًً، وها هو يُعزز من مواقعه يوماً بعد يوم ـ وإن كان هذا التحول يتمُّ بوتيرة ضعيفة ـ مُمَثلاً بالبروفيسور( إسماعيل بيشكجي ) و( أورهان باموك ) الحائز على جائزة النوبل، وكل الخيرين الذين يَدْعُونَ الى حقن الدماء وحلّ القضية الكردية في تركيا حلاً ديمقراطياً وسلمياً، على قاعدة التآخي والمساواة والشراكة العادلة بين الشعبين التركي والكردي، وتأتي أمهات الجنود في طليعة هؤلاء.
فقد سبق لـ ( أورهان باموك ) أن صرّح لصحيفة ( دير شبيغل ـ العدد 14 عام 1995 ) قائلاً : « سيّرتْ تركيا جيشاً قوامه 35 ألف جندي، وهذه القوة العسكرية تفوق تلك التي غزت جزيرة قبرص صيف 1974 »، لكن الحملة لم تحقق أهدافها المتوخاة لإجتثاث جذور ما سمّته بـ ” التمرد ” وباءت بالفشل…!.
وأضاف : « إذا كانت تركيا تريد أن تصبح جزءاً من أوربا، فعليها أن تتصرف ولو مرة واحدة مثل الأوربيين »، وتلجأ الى حل المشكلة عن طريق الحوار، وليس كـ ” البلطجيين “.
ثالثاً ـ لقد إعتادت تركيا على تصعيد الوضع مع حكومة الإقليم والتوغل في عمق أراضي كردستان العراق، تحت يافطة محاربة الإرهاب، متناسية إرهابها ضد الكرد والأرمن في الماضي وإنتهاكاتها المستمرة، ضد شعبنا الذي يعيش على أرضه التاريخية، قبل وصول الغزاة الأتراك بمئات السنين على أقل تقدير.
لكنْ، ما يؤسف قوله على حدّ وصف ( فهمي هويدي ) ـ الذي أدلى بدلوه لصحيفة ( الشرق الأوسط ) منذ أكثر من عشر سنوات ـ أن الخطاب الإعلامي العربي : « إنساق في غالبيته وراء الموجة، ومضى يردد ذات المقولات التي تبرز العملية العسكرية الضخمة، التي هي واحدة من حلقات سلسلة قهر الشعب الكردي وإذلاله ».
ثم يستأنف قائلاً : « ان رؤية العرب للقضية، ينبغي أن تختلف عن رؤية الاعلام التركي »، ويناشد الرأي العام العربي، بإعادة النظر بمفردات الخطاب الاعلامي التركي، هذا الخطاب الذي إعتاد على وصم حركة تحرر شعبنا بالإرهاب، كي يبرر إرهاب الدولة التركية وسياسة التتريك السيئة الصيت، التي أحالت أرض الكرد الى ” جحيم مسكوت عنه ” مثلما وصفت المشهد ذات يوم، مجلة ( الايكونوميست ).
فممارسات الحكومات التركية المتعاقبة، أشبه ما تكون بآلة جبارة لا تستطيع العمل في كردستان، إن لم تدهن بدماء الشعب الكردي، على شاكلة الضحاك ( الزهاك )، مما تعيد الى الذاكرة الكردية بضرورة مقاومة الظلم تيمناً بكاوا الحداد، الذي إنبلجت من تحت مطرقته التي إنهال بها على رأ س الطاغية، شمس نوروز.
رابعاً ـ ما من شك أن موازين القوى مختلة بين طرفي الصراع، وهي تميل لصالح المؤسسة العسكرية التي تتفوق على مقاتلي حزب العمال الكردستاني عدداً وعُدة، لكنْ ما يُرجّح كفة الميزان لصالح حزب العمال، الذي يُمارسُ ـ ومنذ سنوات طويلة ـ حرب الأنصار، هو عدالة القضية الكردية التي تقتضي حلاً لا يحتمل التسويف أو التاجيل.
وقد سبقَ لـ ( جواهر لال نهرو)، أن وضع الاصبع على الجرح في كتابه القيم ( لمحات من تاريخ العالـَـم )، حين تساءل بلهفة المستنكر لواقع الكرد المزري في ظل العنجهية القائمة على قدم وساق، ضد الكرد منذ قيام الدولة التركية، قائلاً : « كيف يمكن للمرء أن يُصدّق بإمكانية الإستمرار في إتباع سياسة إضطهاد شعبٍ مُصِرٍ على نيلِ إستقلاله ومستعد لتقديم التضحيات اللازمة، مهما غلتْ، في سبيل تحقيق ذلك ؟ ».
قامشلي ـ 20 تشرين الأول 2008 م