دروس من «جنوب افريقيا»

   صلاح بدرالدين

     دشن التجاوب الفوري لرئيس دولة جنوب افريقيا بالاستقالة من منصبه بناء على قرار حزب المؤتمر الوطني الافريقي الحاكم قبل انتهاء المدة الرئاسية بعام سابقة تكاد تكون فريدة من نوعها في أنظمة بلدان التحرر الوطني في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية بسلاستها وهدوئها وبساطتها حيث عودتنا الأنظمة– العالم ثالثية – وبالخصوص التي يقودها الحزب الواحد على الانقلابات العسكرية وتمرد قطاعات الجيش والميليشيات أو المناطق القبلية والمذهبية لنصرة هذا الرئيس أو ذاك الزعيم في حال نشوب الخلاف وخرق القانون من جانب مسؤول ما في الدولة دون الرجوع الى المؤسسات الشرعية وقرار القيادة الجماعية
فقد استقال الرئيس السابق السيد – تامو ميبيكي – الذي تولى السلطة خلفا للزعيم الاسطوري – نيلسون مانديلا –  عام 1999 وخلفه بعد يوم واحد وحسب الدستور رئيس بالوكالة من قيادة الحزب يقوم بتشكيل الحكومة ويقود البلاد حتى موعد الانتخابات العامة للسلطة الاشتراعية الجديدة ومن ثم انتخاب رئيس جديد للبلاد والأمر الأهم الملفت للنظر أن كل ذلك حصل في أعقاب توصل المحكمة العليا في البلاد الى استنتاج (لاحظ استنتاج) مفاده أنه تدخل بقضية تهم الفساد التي كانت موجهة الى خصمه ومنافسه زعيم الحزب – جاكوب زوما – الذي هزمه في انتخابات زعامة الحزب  أي أن التهمة الموجهة تدور حول احتمال التدخل السياسي في القضاء وبالرغم من – حماوة – المنافسة الا أن الرفاق – القادة تعاملوا مع الحدث بروح أخلاقية عالية حيث أشاد زعيم الحزب – زولا – بموقف رفيق دربه الرئيس المقال ودوره الرائد في تقدم البلاد الاقتصادي وانفتاحها العالمي وتعزيز مكانتها   .
         جمهورية جنوب افريقيا دولة كبيرة وأكثر تطورا بين جميع الدول الافريقية تحوي  أكبر عدد من السكان ذوي الأصول الأوروبية في أفريقيا ، وأكبر تجمع سكاني هندي خارج آسيا، وأكبر مجتمع ملّون (ذوي البشرة السوداء) في أفريقيا، مما يجعلها من أكثر الدول تنوعا في السكان متعددي القوميات في القارة الأفريقية.

النزاع العرقي والعنصري بين الأقلية البيضاء والأكثرية السوداء شغل حيزا كبيرا من تاريخ البلاد وسياساته، وبدأ الحزب الوطني بإدخال سياسة الفصل العنصري بعد الفوز بالإنتخابات العامة لعام 1948؛ وكذلك كان ذات الحزب هو الذي بدأ تفكيك هذه السياسة عام 1990 بعد صراع طويل مع الأغلبية السوداء ومجموعات مناهضة للعنصرية من البيض والهنود  وهي من الدول الأفريقية القليلة التي لم تشهد إنقلابا على الحكم ، والإنتخابات الحرة والنزيهة يتم تنظيمها منذ 1994 ، مما يجعل البلاد قوّة مؤثرة في المنطقة وواحدة من أكثر الديمقراطيات إستقرارا في القارة الأفريقيّة وهي كانت في السابق من أسوأ أمثلة التفرقة العنصرية البغيضة، حيث حكم أربعة ملايين من العناصر البيضاء ، حوالي 29 مليون من غير البيض ، هذا الأتحاد الذي فقد وحدته قبل ان يولد ، وأصبح جنة الأقلية ، وجحيم الأغلبية ، وقلعة التفرقة العنصرية ، فقد سلكت الأقلية البيضاء سياسة عزل الأغلبية غير البيضاء في مناطق تتسم بالفقر والجدب ، وبحسب احصائيات أجريت عام 2001 فأن 80 % من السكان مسيحيون، 1.5 % مسلمون، 1.2 % هندوس، 0.2 % يهود، 0.3 % ديانات محلية، بينما يشكل اللادينيون 15%.
          واصل حزب المؤتمر الوطني ذو التوجه اليساري كفاحه العادل بمختلف الوسائل والسبل لعقود طويله ودفع الثمن غاليا من الأرواح وقدم الآلاف من السجناء والمعتقلين وكان على رأسهم زعيمه – مانديلا – الذي قضى أطول فترة في تاريخ السجن السياسي وتحول رمزا للنضال الوطني التحرري في سائر أرجاء المعمورة وقد ضرب في حياته السياسية أمثلة بارزة في المواقف المبدئية ومنها امتناعه عن السفر الى تركيا لاستلام جائزة عالمية مخصصة له احتجاجا على موقفف نظامها الشوفيني من شعب كردستان تركيا وبالأخير تكلل نضال شعب جنوب افريقيا بالنصر بقيادة حزب المؤتمر الذي ارتبط باسم زعيمه وشكل ذلك الانتصار التاريخي نجاحا لحركات التحرر الوطني لكافة الشعوب العاملة من اجل الحرية والاستقلال وتقرير المصير حيث تجسدت في مسيرة ذلك الحزب الظافرة معاني عدة أولها اتحاد مختلف الطبقات الاجتماعية وغالبية التيارات السياسية التي لها مصلحة في ازالة نظام الفصل العنصري وتحقيق الديموقراطية والتقدم وثانيها تفضيل اسلوب النضال السلمي والتظاهر والاضرابات والعصيان المدني رغم بطش النظام السابق وقسوة أجهزته القمعية وثالثها مد الجسور مع مختلف قطاعات الرأي العام العالمي بما فيها الغربية ومنذ تحرير البلاد من النظام العنصري وضع الحزب الحاكم برنامجه الجديد في مرحلة استلام السلطة على قاعدة التسامح والمصالحة الوطنية وحظر ردود الفعل الانتقامية ضد المواطنين البيض وتطبيع الأوضاع بليونة وحسب القانون والالتزام الكامل بالمبادىء الديموقراطية ونتائج الانتخابات والمضي في درب التنمية والبناء والتقدم الاجتماعي هذا على الصعيد الداخلي أما اقليميا فقد استخدمت دولة جنوب افريقيا كل رصيدها في سبيل تهدئة الأوضاع والتوسط بين المتنازعين ووقف الحروب وتحقيق السلام في القارة السوداء وكانت تلاقي الاحترام والتقدير من لدن مختلف الفرقاء ولم تبق بقعة توتر في افريقيا الا وكان لجنوب افريقيا سهم فيها نحواطفاء الحريق وتحقيق المصالحات وقبل حدوث الأزمة الرئاسية الأخيرة كان مقررا انتقال الرئيس المقال الى السودان للتوسط في مسألة – دارفور – ومهما آلت اليه الأوضاع بالمستقبل ومهما انعكست النتائج على مستقبل الحزب الحاكم فان ماحصل جدير بالاهتمام والمتابعة والاستفادة من دروسه من جانب قوى التحرر والتقدم في منطقتنا .
     ليس بخاف أن معظم بلدان – العالم الثالث – مر بمرحلتين في تطوره السياسي قادتهما حركات التحرر الوطني في الأولى تصدرتها القوى الاجتماعية التقليدية السائدة من زعامات قبلية وروحية وتيارات بورجوازية مدينية متنورة نجحت في انتزاع الاستقلال الوطني بسبل مختلفة وحلت محل الأجنبي دون التمكن وخلال عقود من انجاز مهام التحرر الوطني في تحقيق الديموقراطية والتنمية والتقدم الاجتماعي ثم تلتها المرحلة الثانية التي تصدرتها شرائح من البورجوازية الصغيرة المتمثلة في كتل من الضباط العسكريين ومنظمات قومية راديكالية رافعة شعارات لاحصر لها تدور حول التقدم ومعاداة الرجعية والامبريالية والصهيونية وتحرير فلسطين والوحدة العربية والاشتراكية العربية الرشيدة والاصلاح الزراعي والتأميم ولكنها لم تفشل في تحقيق كل شعاراتها فحسب بل أوصلت البلدان والشعوب الى الهاوية ودمرت الاقتصاد الوطني وضربت الوحدة الوطنية في الصميم وأثارت النعرات العنصرية والطائفية والدينية ومزقت النسيج الوطني وأشعلت الحروب والمواجهات وتورطت في حروب الابادة ضد الآخر القومي حسب نزعات فاشية عنصرية ونهبت أموال الشعب وأضاعت السيادة والأرض والكرامة الى درجة باتت فيها قضايا التحرر الوطني وأدواتها المحركة من قوى وأحزاب ومنظمات موضع الشك ومصدر القلق حتى من جانب أصحابها , لذلك من حق شعوب التحرر الوطني في كل مكان ان تفاخر بمثال جنوب افريقيا النموذجي وسلوك حزب المؤتمر الديموقراطي السليم كونه المعبر التاريخي والوريث العصري لحركة تحرير جنوب افريقيا  بعد اخفاق غالبية فصائل وأحزاب حركات التحرر سابقا  في ادارة نظمها الجمهورية بعد استلام السلطة في الطريق الديموقراطي وجنوحها نحو دكتاتورية الحزب الواحد والدين الواحد والطائفة الواحدة والقومية الواحدة والعائلة الواحدة والرأي الواحد اما في ممارسة القمع والارهاب والتقتيل وتفتيت الوحدة الوطنية وضرب الاقتصاد والتحكم بكافة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية كما في حالتي – العراق وسوريا – أوفي تجارب فاشلة مشابهة وبأشكال متنوعة أخرى وبدرجات من التفاوت كما حصل في مصر وليبيا واليمن الجنوبي والجزائر وتونس.

   لقد تمت اقالة الرئيس – مبيكي – ليس عقابا على فساد مالي أو أخلاقي أو جريمة قتل بل بسبب – استنتاج – المحكمة لاحتمالات التدخل من بعيد في شؤون القضاء وهذا أمر له دلالاته العميقة تتعلق أولا وآخرا بأهمية استقلال السلطة القضائية في بناء دولة المؤسسات والعدل والمساواة وتداول السلطة سلما وحسب ارادة الأغلبية والرقابة وردع المخالفات واحقاق الحق ورد المظالم وتحقيق الأمن والأمان للشعب بكل طبقاته وفئاته وأفراده وفي حماية أموال الشعب والدخل القومي وتعزيز ثقافة احترام الانسان الآخر حتى لو كان مخالفا في الرأي والانتماء وترسيخ قيم الشجاعة وعدم الخوف في المجتمع وهذا هوالسبيل لتحقيق الخلاص في جميع البلدان وهذا ما تحتاج اليها شعوبنا كشرط للتقدم .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…