فضائيات نص كم

الدكتور شمدين شمدين
حدث واحد ، بصور متعددة ،لأشخاص مختلفين ، وبآراء متباينة ، هكذا تصور الفضائيات العربية أحداث العالم عامة والعراق خاصة ، بتعددية أراء مفقودة ضمن الواقع العربي الرسمي والشعبي ، وبحرية متواجدة فقط ضمن شاشة هذه الفضائيات ، والمثال الصارخ لهذه الرؤية المتضاربة هي قناتي الجزيرة والحرة بتغطيتها لحدث إطلاق سراح مجموعة من السجناء العراقيين ، فبينما صورت الحرة المتهمة من قبل الساسة والمثقفين العرب ،بتبعيتها للإدارة الأمريكية، عملية الإفراج بالناجحة والمرحب فيها ،حيث أوضح المفرجون عنهم مدى شكرهم للحكومة وحرصهم على سلامة بلدهم ، وأملهم بان ينعم العراق بالأمن والسلام ، ونفيهم القاطع لتعرضهم لأي شكل من أشكال الضرب أو التعذيب ،كما تمنوا الانخراط في العمل من اجل العراق ، وان يتمكنوا من تأمين مستقبل زاهر لأولادهم بعيدا عن لغة القتل والتخوين والترهيب ، ورغم كون هذه الصورة وردية إلى حد مبالغ فيه قليلا ، إلا أنها لا يمكن أن ترقى إلى الصورة التي أظهرتها الجزيرة لنفس الحدث ، فالجزيرة التي كانت في بداياتها صوت الشعب المظلوم والمضطهد
يبدو أنها خطفت من قبل الأنظمة وتم إدارة دفتها ، بحيث أصبحت تركز فقط على الاحتلال الأمريكي والإسرائيلي وتتناسى القمع السلطوي في البلدان العربية ، فنفس الحدث أي الإفراج عن السجناء العراقيين لم يأخذ المساحة الكافية لدى الجزيرة ، بل تم التغطية عليها بأخبار عن عمليات اغتصاب الرجال في السجون العراقية ، وعمليات التعذيب والضرب على أيدي السجانين ، علاوة على عمليات السجن بحق النساء والأطفال، وتعرضهم لأبشع أنواع الظلم والقهر ، ورغم إننا نعارض كل عمليات الإذلال بحق الإنسان ، ونتفق جميعا على أن حرية الإنسان وكرامته شيء مقدس ، إلا أن إظهار الصورة من جانب واحد فقط ، يرسل إشارات خاطئة إلى عموم الشعب ، وبالتالي قد يجر الشباب المتحمس إلى المزيد من الأفكار المتطرفة والغير قانونية.
الجزيرة هذه القناة التي شكلت للشعب العربي والناطقين بالعربية ملاذا ومتنفسا للخروج من دائرة القمع الداخلي ، بدأت تنسى مهمتها الرئيسية أو تم تغيير مهمتها الرئيسية ، فانتقلت من كونها قناة تتمتع بالحيادية والمصداقية والصوت الحر إلى قناة جهوية نوعا ما ، وإلا كيف يمكن أن نتصور قناة حوربت من قبل كل الأنظمة العربية في البداية ، وألصقت بها تهم العمالة لإسرائيل وأمريكا  تتحول وبقدرة قادر إلى قناة مرضي عنها ، وتفتح لأجلها كل السبل المغلقة، إلا ما يتعلق منها بالبلد المضيف طبعا ، فحتى البنتاغون الأمريكي والموساد الاسرائلي والقاعدة فتحت قلبها وملفاتها لعناصر الجزيرة ومعديها والقائمين على أمورها المادية ، ربما الحظ هو الذي يرافقها دوما أو لربما المهنية العالية التي تتمتع بها القناة وعامليها ، أو ميزانيها المالية الضخمة هي التي تقف وراء هذه المكانة والدلال الذي تتمتع بها الجزيرة .
نحن هنا لا نهاجم الجزيرة ولا ندافع عن الحرة ، ولكن نتمنى أن يأتي اليوم الذي تستقل فيه وسائل الإعلام العربية عن السياسات الفئوية والحكومية، وخاصة تلك الفضائيات التي يعول عليها الإنسان العربي الكثير من الآمال في صراعه الطويل من اجل نيل حريته في بلدانه المستقلة  والمحتلة دون تأجيل لأي منها أو تفضيل لأي منها على حساب الآخر ، وان تراعي هذه الفضائيات حاجات هذا الإنسان ومشاكله الأساسية المبنية على عدم توافر الأمان داخل الأوطان والفقر المنتشر بكثرة ، والبطالة والضياع الفكري ، كل هذه الأمور التي بدأت تتناساها الفضائيات العربية المحترمة ،وأخذت تبحث عن سبل للإثارة وكسب المزيد من المتفرجين على حساب المبادئ العليا التي تشكلت هذه الاقنية من اجل نشرها والترويج  لها ،واقصد بهذه المبادئ قيم الحرية والعدالة والمساواة ، والحيادية في نقل الخبر بحيث لا تتبنى رأيا أو مصطلحا قد يتصوره البعض بالبسيط ، ولكن بوجود إعلام غاز لكل البيوت والعقول العربية تصبح هذه الفضائيات كمدارس تخرج أجيالا وأجيال، تأخذ مفاهيمها وقيمها من تفسيرات ومفاهيم هذه الأفنية ، ومثلما يتوافق الجميع على رفض القنوات الإباحية والمتطرفة لما تسببه من كوارث وعقدا لدى الأجيال الشابة ، علينا أيضا أن نكون حذرين وحياديين في نقل الأخبار التي أصبحت زاد الشارع العربي اليومي ، في ظل غياب واسع للمطالعة والقراءة لأسباب عدة ، أبرزها غلاء الكتب والرقابة الصارمة عليها من قبل وزارات الثقافة والداخلية والأوقاف أحياناً في الدول العربية المختلفة ، وفي ظل أمية عالية ، وضعف في وسائل الاتصالات الحديثة ولا سيما الانترنيت المحجوب كثير منه في معظم هذه الدول .
وخلاصة القول إن زمن الفضاء الحر قد أصبح واقعا معاشا في الدول العربية ، ولا يمكن لهذه الدول أن تقف في وجه رياح العصر ، ولكنها تستطيع وبوجود المال والإعلاميين الجاهزين لخدمة هذا المال ، أن توصل الرسالة التي ترتئيها سواء أكانت هذه الرسالة سلبية أو ايجابية ، وأن تصل إلى أهدافها المنتقاة بعناية ،وذلك عن طريق الفضائيات المختلفة التي غدت مدارس طائرة وأحيانا نوادي أو مقاه خاصة ، وغالبا فساتين نص كم صيفاً و شتاءً .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…