صلاح بدرالدين
بمرور ما يقارب نصف قرن على أول وتكاد تكون آخر محاولة جادة ومدروسة معززة بالشرعية التاريخية والشعبية والتنظيمية وأقصد كونفرانس الخامس من آب لعام 1965 كنت مشاركا في ادارة عمليتها التي أعتبرها ظافرة تحضيرا وتنفيذا وقيادة بهدف تصحيح مسار الحركة القومية الكردية في سوريا أرى لزاما علي ومن أجل الفائدة العامة وتنوير جيل ما بعد آب بحقائق يراد طمسها من جانب البعض والتوجه بشكل خاص نحو أشبال هبة آذار الذين أبدعوا في تطوير آلية الصراع مع نظام الاستبداد والأخذ بيد كل من أبدى الغيرة ووضع في سلم أولوياته المساهمة الفكرية والثقافية في اجراء التغيير الجذري في الحركة السياسية الكردية ووضع الحلول لأزمتها الراهنة المستعصية مثقفين ومهتمين بالشأن السياسي وسائر الوطنيين أن أطرح قراءتي بعد هذه السنوات لأحداث الماضي وتقييم بعض الظواهر التي رافقت انبثاق اليسار بقدر ما يسمح به مآل الزمان ومقام المكان وأدعو في الوقت ذاته الجميع وبدون استثناء التناول النقدي المسؤول لأنبل وأهم حدث في تاريخ حركتنا.
الخطوة الأولى
نمت البذور الأولى للحركة السياسية الكردية السورية بعد اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 وضم جزء من كردستان التاريخية الى سوريا بحسب الارادة الدولية والقوى السائدة والمنتدبة من جانب الكولونيالية الفرنسية الشريكة الأساسية بالاتفاقية منذ نشأة حركة – خويبون – التي استكملت ولادتها أواخر عشرينات وبداية ثلاثينات القرن الماضي في كل من القامشلي وكانت مشروع مدينة حديثة العهد آنذاك وصوفر بلبنان وكان التوجه القومي العام باديا على مفاهيم مؤسسي الحركة الثلاثين بالمرحلة الأولى الذين أورد أسماءهم المرحوم – ملا أحمد نامي – في مذكراته وكان حاضرا في الاجتماع التأسيسي بمنزل – قدور بك – وجلهم من الزعامات التقليدية والعائلات الأرستوقراطية المدينية ورجال الدين المتنورين مع بعض مثقفي تلك المرحلة جمعتهم المعاناة المشتركة ومشاعر المرارة من تقسيم وطنهم والاضطهاد العنصري في ظل سلطات الامبراطورية العثمانية ومن ثم النظام الجمهوري بزعامة – كمال أتاتورك – وتجاهل وجودهم وحقوقهم من قبل دول التحالف الغربي وبشكل أخص من جانب – انكلترا وفرنسا وألمانيا وايطاليا – وعدم قبولهم كأبناء شعب وأصحاب حق وقضية عادلة من ادارات الدولة السورية المنتدبة – بفتح الدال – ومؤتمراتها الدستورية التأسيسية وأجندة أحزابها وقواها السياسية قبل الاستقلال وابانه ورغم حرص المجتمعين على قضيتهم واصرارهم على الثأر الا أنه لوحظ حسب الوثائق وشهادات بعض الحضور غياب شبه كامل لبرامج وخطط علمية مدروسة وشفافة ازاء الوضعين الدولي والاقليمي مع أولوية المواجهة مع الحكومة التركية من دون طرح خطط عملية وتغليبها على كافة القضايا الأخرى بما فيها القضية الكردية في سوريا.
بصمات – خويبون –
خلو أجندة حركة – خويبون – من التناول المباشر للقضية القومية الكردية في سوريا لم تمنع في أي حال دور الحركة في عملية استيقاظ وتوعية جماهير الكرد السوريين ونشر الثقافة القومية عبر الصحف والمجلات والمطبوعات التي كانت تصدر باشراف أبناء وأحفاد بدرخان باشا المؤسسون الرئيسييون – لخويبون – في القاهرة ودمشق وبيروت مثل – كردستان – و – هاوار – و – روزا نو – و – ستير – اضافة الى مطبوعة الألف باء الكردي بالأحرف اللاتينية لتعزيز قواعد اللغة القومية الكردية التي ظهرت للمرة الأولى على أيدي الأمير جلادت بدرخان والتي يعتبرها البعض أحد شروط نشوء الأمم واذا اردنا تقييم دور الحركة بايجاز شديد في الحياة القومية لكرد سوريا نتوصل الى النتيجة التالية : ترسيخ علائم وشروط نشوء وتنامي الوعي القومي وتكريس النهج السياسي الثقافي لمسيرة الحركة القومية الذي مازال معمولا به كميزة حميدة خاصة ينفرد بها شعب غرب كردستان .
انبثاق الديموقراطي الكردستاني
بعد توفر الأسباب والشروط الموضوعية والذاتية في الساحة الكردية السورية وقيام الأحزاب الديموقراطية لدى شعوب بلدان التحرر الوطني في العديد من بلدان آسيا ومن بينها الحزبان الديموقراطييان الكردستانييان في ايران والعراق بدعم واسناد الاتحاد السوفييتي السابق تداعى الوطنييون الكرد السورييون ونخبهم المتعلمة الى اعلان الحزب الديموقراطي الكردستاني في سوريا في صيف العام 1957 كحاجة ماسة لملىء الفراغ وتنظيم الطاقات الهائلة المبعثرة في سبيل ترسيخ الدور الكردي القومي والوطني في تحقيق الهوية وانتزاع الحقوق واغناء الحركة الديموقراطية في البلاد وشهد الحزب في غضون مدة قصيرة أوسع التفاف شعبي كردي من لدن جميع الطبقات الاجتماعية والفئات والشرائح التي حملت معها رؤاها ومواقفها المختلفة المعبرة عن مصالحها والمتناقضة أحيانا بخصوص مضامين الحقوق القومية وتعريف الكرد السوريين هل هم شعب أم أقلية ؟ وأساليب النضال وكيفية التعامل مع سلطات الدولة بما فيها الاستجوابات ومخاطبة المحاكم العسكرية والقضائية المدنية كظاهرة مستحدثة في الحياة السياسية الكردية ومسألة الديموقراطية والقضايا الاجتماعية في سوريا والنظرة الى القضية القومية في الجوار , كانت ثمانية أعوام وما تخللتها من أحداث وتطورات محلية واقليمية وكردستانية واعتقالات موجهة لقيادة وأعضاء الحزب من التيار المبدئي الصلب بزعامة الراحل آبو أوصمان صبري قبل تبلور النهج اليساري فكريا وثقافيا وسياسيا كافية لتفاقم الأزمة الداخلية التي بدأت عموديا ومن ثم انتشرت أفقيا الى درجة ظهور الانقسامات والتكتلات المحلية والمناطقية وتلاقي ذلك مع خطط بعض رموز اليمين الذين لم تطالهم الاعتقالات في تصفية تنظيمات الحزب المبني على أسس ثورية مبدئية كفاحية ودب الجمود في أوصالها ليتسنى تحويله الى جمعية تحت امرة واشراف السلطات.
الانطلاقة
اذا كان من المتعذر تناول ذلك التحول الاستراتيجي في الحياة الفكرية والثقافية والسياسية الكردية السورية الذي أطلقه كونفرانس آب بمعزل عن تأثيرات المحيطين المحلي والاقليمي والى درجة ما العالمي بالاضافة طبعا الى المحرك الداخلي الكردي أساسا فيمكن القول ببساطة شديدة كان لابد من الانتقال الى مرحلة جديدة بكل متطلباتها وانقاذ الحركة ونقلها الى شاطىء الأمان بعد نضوج العامل الداخلي والتطور المجتمعي بموازاة هبوب رياح التغيير في صفوف حركات التحرر القومي المحلية والعالمية بعد استنفاذ دور االنزعة اليمينية الانتهازية السائدة التي قادت تلك الحركات عبر طرق مسدودة والفشل في تحقيق البرنامج الوطني الديموقراطي فكان التصدي للازمة من الأساس البنيوي باالتجديد كضرورة سياسية واعادة تعريف الوطن والشعب والقوم والحقوق والشراكة وصياغة برنامج جديد في المجالات الوطنية والقومية وتقديم الأجوبة على تساؤلات ملحة بشأن قضايا الخلاف الناشب والمنتشر ليس فقط بين أوساط الحزبيين بل حتى في صفوف مختلف الفئات الوطنية وفي جميع المناطق والأماكن التي ينتشر فيها الكرد وحول اشكال النضال البديلة والممكنة اعتمادا على الجماهير لجواز وجدوى التصدي المثمر لمخططات التعريب واستطعنا باصرارنا وتفانينا رغم كل الظروف الصعبة بل والكارثية التي مررنا بها تبديل وتطوير قواعد الصراع مع النظام الذي وضع أسسها لمصلحته واختيار لغة كردية جديدة لمخاطبة كل الأوسط الشوفينية أحزابا وتيارات وقوى والتحاور مع الديموقراطيين العرب السوريين بمفهوم المصير المشترك عبر تحقيق التغيير والعدل والمساواة وكان كل ذلك كفيل بنزع الألغام والحواجز من درب المكاشفة والحوار الصريح وكسب أوساط واسعة من اليسار السوري والفلسطيني واللبناني والعربي الى جانب قضيتنا بعد تفهمها لعدالة ومشروعية المطالب القومية والديموقراطية الكردية في الاطار الوطني السوري وأتذكر في هذا المجال بتقدير عال المواقف المتقدمة لعدد من القوى السياسية التي كانت تربطنا بها علاقات الصداقة والتعاون الى درجة تبني حق تقرير المصير للشعب الكردي في سوريا مثل – حزب العمل الاشتراكي في سوريا – وكان محسوبا على حركة القوميين العرب وتنظيم حركة فتح في سوريا والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين ورابطة العمل الشيوعي في سوريا, كما نجحنا في تحويل الجدل وبمرور السنين حول وجود الشعب الكردي أو عدمه الى النقاش اليومي حول تفسير مبدأ تقرير المصير الكردي ضمن سوريا الديموقراطية التعددية الموحدة ومصطلح كردستان السورية (موطن الكرد السوريين) الذي لا ينتقص من وحدة وسيادة البلاد بل يشير الى تعددية قومية في الجغرافيا الوطنية وواقع تاريخي قائم منذ مئات وآلاف السنين واصالة المكون الكردي في النسيج الوطني التي اضطر حتى نظام الاستبداد الى التعاطي معها كحقيقة واقعة وبالتالي ادخال القضية الكردية في الأجندة اليومية للسلطة والمعارضة واضطرار حتى الأجهزة الأمنية على التعاطي مع الموضوع الكردي كمسألة سياسية وليس أمنية فحسب من خلال مكاتبها المختصة بتاريخ الكرد وحركتهم السياسية وتقاريرها الى مصدر القرار والجهات العليا في السلطة التي وحسب الاطلاع على بعضها لا تتضمن سوى التحليل السياسي للقضية الكردية في سورية والمنطقة وطرح الاحتمالات على ضوء معلوماتها الخاصة وكنا ومنذ البداية مع حل ديموقراطي عبر الحوار العلني وعلى أسس واضحة للقضية الكردية وبناء على اقتراح ورغبة قيادة احدى الفصائل الفلسطينية الصديقة وتوسطها باشرنا حوارا بداية الثمانينات دام عدة أيام مع القيادة السورية للمرة الأولى والأخيرة ولم نتفاجأ بموقف النظام المتزمت الشوفيني غير القابل لتفهم معاناة الكرد والتجاوب مع حقوقهم كما توصل الأصدقاء الفلسطينييون أصحاب المبادرة أيضا الى ذات الانطباع , من جهة أخرى وحسب اعتقادي حققنا نجاحا في تعميق البعد الأممي لقضية كرد سوريا من خلال الانفتاح على الدول الاشتراكية سابقا وبعض الديموقراطيات الغربية وعلمائها ومستكرديها وارسال المئات من الطلبة الكرد لمتابعة الدراسة في معاهدها وجامعاتها ووضع برامج بحث وترجمة نصوص روسية وبلغات أخرى حول الكرد المأخوذ من الأرشيف القديم والسري لروسيا القيصرية والدولة السوفيتية الذي شمل حقبة الامبراطورية العثمانية وسنوات الحربين العالميتين الأولى والثانية هذا الانجاز السياسي – الثقافي – العلمي الذي تجسد بالنهاية بمؤسسة ثقافية مرموقة “رابطة كاوا للثقافة الكردية” التي تستمر في العطاء حتى الآن اقتداء بمدرسة البدرخانيين وحركة – خويبون – (كردايتي ببعديه السياسي – الثقافي) وهنا من المفيد القول بأننا لم نبلغ درجة حل القضية الكردية في سوريا تحت ظل الاستبداد والدكتاتورية ولكن استطعنا تمهيد السبيل الى ذلك في حال توفر الشروط الوطنية الداخلية حالنا في ذلك مثل حال القوى الديموقراطية السورية المعارضة التي لم تحقق بدورها حتى الآن التغيير الديموقراطي المنشود.