وقفة على ظاهرة الاعتقال (اعتقال الروح و الفكر أم اعتقال الجسد؟!)

  عبد الرحمن آلوجي

إن من طبائع الحقائق و الأشياء ألا يكون هناك اتفاق مطلق, لأن الاتفاق المطلق يفضي بالضرورة إلى الجمود, و يوقف عجلة التطور, و يؤدي إلى نماذج متطابقة, و صيغ متكررة, و هو ما لا يصح و ما لا يمكن مع الاختلاف و التباين و تفاوت الآراء, و نشأة المدارس الفكرية تبعا لذلك, و الرؤى و المواقف, مع تفاوت في التفوق, و تباين في تميز الأفراد و الجماعات, و تمايز في درجات و روائز الذكاء و الاستعدادات الوراثية, و المناخات البيئية المتباينة, و درجة ارتقائها في سلم الحضارة و التطور و مقاييس الفكر الإنساني و منعرجاته و مدارجه
مما لا يمكن بحال من الأحوال حصول الاتفاق و التقاطع في الاتجاهات و الآراء حتى في المدرسة الفكرية الواحدة, و البيئة الوطنية التي تجتمع على معايير و قيم و أوضاع متشابهة, الأمر الذي دفع المجتمع الإنساني إلى ملاحظة الاختلاف و التباين في المذهب و الفكر و الاتجاه في التجمع الواحد و التجمعات المختلفة, في الأفراد و الجماعات و الأمم و الأثنيات.
و إذا كان الأمر كذلك كان لا بد من تنظيم هذا الاختلاف, و تحديد أطر التعامل معه, و تنظيم العلاقات المجتمعية, وفق أنظمة و قوانين و لوائح محددة, كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان, و العهد الدولي للحقوق المدنية و الاجتماعية و السياسية, و شرائع  و تنظيمات و قوانين محلية و دولية, تؤكد على حق الإنسان في التعبير عن تباينه و اختلافه, و بيان آرائه و اتجاهاته, و عقيدته التي لا يمكن إكراهه عليها, أو حمله على اعتناقها بالقوة, على أن يقوم باحترام عقائد الآخرين, و عدم تشكيل موانع و قوى مادية تحول دون  اعتناق هذه العقيدة أو تلك, أو هذا الرأي و المذهب أو ذاك, حيث نصت الشرائع السماوية و القيم الأرضية و المعايير القانونية على صيانة هذا الحق, و وضع ضوابط له, و تحديد الأطر التي يتحرك من خلالها دون مساس بحريات و آراء و اتجاهات الآخرين, و دون أن يشكل قوة رادعة لمثل هذه الحرية المبدئية و التي نصت عليها ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, و صانتها مواده, و حددت آفاق هذا المبدأ الذي لا مساومة عليه.
و مجتمعنا السوري لا يختلف عن سائر المجتمعات الإنسانية الأخرى في سريان قانون الاختلاف و التباين, و ممارسة العقيدة السياسية و المذهبية, و اعتناق الآراء المختلفة, لكونه واقعا في إطار المجتمع الدولي و قوانينه الناظمة و الموقع عليها و المعترف بها, و التي لا مناص من التقيد بها إلا أن نتجاوزها أفرادا و جماعات و منظمات و حكومات, ليعد ذلك خرقا لحرية الرأي و العقيدة, و مانعا دون ممارستهما, و تطاولا على حق أصيل لا يمكن المساس به في ظل مجتمع يحترم قواعد و أسس العلاقات الاجتماعية, و النواظم السياسية, و المحركات للعلاقات مع الدولة و الكيان الذي يشرف على عملية التنظيم و البلورة و التأسيس .
و لا يمكن و الحال هذه إلا أن نستهجن أي عمل من شأنه أن يطال حرية الأفراد و التجمعات و حقها في ممارسة دورها في تأسيس الجمعيات و النوادي و الأحزاب, انسجاما مع القانون الدولي, و ارتقاء إلى العلاقات الإنسانية الناظمة لأي اعتناق أو اعتقاد أو ممارسة فكرية أو سياسية, ليكون أي اعتقال أو مساس بحريات الأفراد و الجماعات بمثابة وصاية مباشرة أو غير مباشرة على الاعتناق و الفكر و الرأي و التطاول على حق مشروع يملكه هؤلاء بحكم الشرائع و القيم و الأعراف و القوانين الدولية, مما يعد أي اعتقال جسدي بمثابة اعتقال للفكر و الممارسة العقائدية و الروح و القيم التي يؤمن بها الإنسان في ممارسة دوره كمواطن حر في عقيدته و فكره و التعبير الحر عنهما .
إن أي اعتقال يطال الإنسان يعد تجاوزا واضحا لحقه, و حدا فاصلا يمارس دون أن يبلغ هذا الحق و يملكه, دون منة أو تفضل, لأنه يعد جزءا أساسيا من شخصيته, و حاجة ماسة من حاجاته العليا, و ضروراته الوجودية و امتداده في التعبير عن كرامته الإنسانية, و استقلاليته المصانة و التي لا يمكن أن يشكل عليها تفكير بالنيابة أو الوصاية, أو منطق التصويب و التعديل و الحكم على فساد هذا الرأي و عدم صلاحه أو غير ذلك مما يخص علاقاته الفكرية و الروحية و قيمه ومبادئه التي نذر نفسه لها, و آمن بها, و شكّل من ذاته أداة للدفاع عنها في محيط جماعته أو اتجاهه أو مدرسته الفكرية .

و ما نشهده من اعتقالات متواصلة واسعة لسجناء الرأي و الضمير يقع في هذه الخانة, و يعد مساسا بحق مشروع و تجاوزا عليه و تفكيرا بالنيابة, و هو اعتقال للفكر و الروح, و إن طال الجسد و أخضعه لجملة عذابات و محن و انقطاع عن الحياة و ممارسة لدوره الطبيعي في التعاطي مع فكره حرّا طليقا, حيث لا يمكن للاعتقال الجسدي و التعذيب النفسي أن يوقفا مسيرة الحياة في اختلافها و تعدد الآراء فيها, و أن يصوّبها و يوجهها باتجاه جماعة أو فئة أو حزب أو حكومة أو أي تنظيم يحاول الحدّ من فرص الاختلاف و التباين الطبيعيين و المنسجمين مع تطور الحياة, ونظم الجماعات, و القوانين و الأسس الناظمة و الحافظة لضرورات الاختلاف, و صيرورة المجتمعات, حيث لا يكاد الاعتقال التعسفي يملك القدرة على إيقاف ظاهرة التطور هذه و المستندة إلى ذلك التباين, بل يشكل قوة دافعة إلى مزيد من تأكيد الشخصية و تشبثها بمواقفها و اتجاهاتها و آرائها و الإصرار عليها, ووضع المعتقلين في مسيرة نضالية ظافرة تؤكد على صلابة مواقفهم, و تحرك و تعمق الاختلاف, وتزيد الهوة بين الحاكم و المحكوم, و الوصي الذي يجد نفسه قائما على وظيفة تحريك الناس و التدخل في آرائهم و قمع حريتهم, و المساس بعقائدهم.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…