خطان متوازيان في الفكر العربي تجاه القضية الكردية

عبد الرحمن آلوجي

إن من يتعقب تطورات القضية الكردية منذ الحرب العالمية الأولى , و ما أفرزته من ملامح و خطوط , كانت حصيلة نهضة قومية شاملة , تجلت في الثورات و الانتفاضات في كل مكان , إن من يتعقب هذه التطورات يدرك بوضوح ما أثارته من ضجة و ما تثيره من اهتمام في الوسط الشعبي و الرسمي و النخبوي على مستوى المنطقة عامة و العالم العربي خاصة , حيث تشكل هذه القضية بما لها من أهمية في قلب الشرق الأوسط , محورا أساسيا من محاور العمل السياسي و مفرزاته و تعقيداته , و مستقبل العلاقة في المنطقة , بما نعلمه من تنوع أثني و فكري و مذهبي , و ما شهدته المنطقة من محاور متناقضة , و سياسات متباينة , و آثار في العلاقات الدولية و الإقليمية , كانت بمثابة فرز طبيعي لقضية أمة تتجاوز أربعين مليون نسمة , لها تاريخها العريق في المنطقة , بما يتجاوز أحد عشر ألف عام
و بما لهذا الثقل الديمغرافي من أثر في الجغرافية البشرية و السياسية في المنطقة , إذا علمنا أن هذا الثقل يشكل ضغطا على السياسة الإقليمية و العالمية منسجما مع المواثيق و القرارات الدولية , و متعلقا إلى حد كبير بحق تقرير المصير و حقوق الإنسان و لوائحها و معاهداتها , مما أثار و يثير خطوطا متباينة في المعالجة و المنهج و طريقة التداول , و أشكال المواجهة , و صيغ مختلفة تتفاوت حدة و هدوءا , و تتنوع  أشكالها و ترجماتها على أرض الواقع , في الجانب الآخر الذي يمثل الشعوب المتعايشة في المنطقة , و التي يفترض فيها أن تقف بوضوح على جوهر هذه القضية الحيوية , تاريخا و أثنية و تطورا وواقعا جغرافيا , و مخزونا هائلا من الثروات الظاهرة و الباطنة , في مساحة تتجاوز حجم فرنسا في تنوع مناخي ساحر , و أرض خصبة و أنهار كبرى و ينابيع و جداول تتحدر من قمم جبال شامخة , تحدت عوامل الفناء , و أكسبت الإنسان الكردي كل عناصر الإباء و الإصرار و العزة و عدم الركون إلى الذل و الانحناء.
إن هذه القضية بتعقيداتها و تشعباتها و مواكبتها لمجمل التطورات الإقليمية و العالمية أفرزت جملة من تعقيدات المعالجة في المنطقة عامة , ما بين حملات عسكرية وحشية , قصدت الإبادة الجماعية , و استخدمت نظرية الأرض المحروقة على مدى عقود من السنين , تجلت في قمع مريع , استهدفت الإنسان و البيئة و الثروة ونسمة الحياة, في حملات (قوج كيري , زيلان , ديرسم , ساسون , مهاباد , ساقيز , نغده , خورمال , بهدينان , كرميان , حلبجة …..) , على تفاوت في الحملات و الأزمنة و الأمكنة , معززة النظرية القائمة على الاستئصال و محو الوجود , و إنهاء القضية بالقوة القاهرة , و هي تشكل إحدى أشد أشكال البؤس و التخلف في المواجهة و المعالجة و التصدي لقضية عادلة بأسلوب يعتمد النسف و السحق و الإلغاء , و هو ما أدى إلى ظاهرتين متعاضدتين , أولاهما تجلت في زيادة الإصرار و المقاومة و المواجهة بوعي أكبر انتشر كردستانيا في كل مكان , للتصدي لكل أشكال التصفية و الإنهاء باتجاه تصعيد النضال عسكريا و سياسيا , و حيثما توفرت الظروف والإمكانات , أما ثانيهما فقد تجلت في نشر القضية دوليا , و إعطائها بعدا واضحا في محافل و مراكز القرار العالمي , و بخاصة في بداية التسعينات بعد الانتفاضة التاريخية الكبرى و الهجرة المليونية في كردستان العراق , و ما أفرز ذلك من تجربة كردستانية فتية , بعد صدور القرار الدولي بحماية الإقليم من بطش النظام الدموي المقبور في العراق , و ما أعقب ذلك من تطورات عمقت القضية , و رفعت دعائمها , و حشدت آلاف الأنصار لها من شعوب المنطقة و العالم.
لقد باتت هذه القضية بمثابة إحدى المحاور و المحركات الأساسية في المنطقة , مما أكسب الحركة الكردية في كل مكان مزيدا من الأنصار , كما أفرزت كثيرا من الخصوم , ممن ورثوا فكرا قوميا بدائيا متخلفا , تمثل في وسط أكاديمي و نخبوي عربي و تركي و فارسي , كما تمثل في وسط شعبي منقاد , بحكم موروثات استندت إلى ذلك الفكر البدائي المحكوم بمجموعة عوامل ترتكز إلى الكراهية , و عدم الوضوح , و الخلط المقصود أحيانا من قبل أنظمة متعاقبة , وجدت في الكرد و قضيتهم خطرا على الوجود الآخر و مقوماته و بقائه , في إرث موهوم بعيد عن الحقيقة و الواقع الحياتي المعاش.
و قد تجلى في الفكر العربي نموذجان , و خطان لا يكادان يلتقيان , خطـا يعتمد فكرا متوازنا , ذا بعد إنساني , و رؤية متكاملة , و فهم عميق لتاريخ الكرد و وجودهم الأصيل في المنطقة , و دورهم الروحي و الحياتي و الدفاعي عن مقدراتها , و إسهامهم الحضاري و المشترك , و خطا آخر يعتمد ذلك الفكر الذي أشرنا إليه , متمثلا في مجموعة عريضة , استوحت مفاهيم من محور مركزي يستند إلى السذاجة و سطحية الطرح و بدائية النظرة العنصرية و الاستعلائية , و الفكر الإقصائي الموروث , و المؤرّث بالمناهج و القواعد التربوية التي تغذي هذا الاتجاه و توتره , و تقوده رسميا في نعت كل فكر يمتّ إلى هذه القضية بالشعوبية و التآمر و التخوين , ليشكل هذا الخط عنصرا داعما لفكرة الإلغاء و إنكار الوجود و القفز فوق الحقائق.
و قد تجلى الخط الأول بنصاعته و قوته و مستنده العلمي و الإنساني في طابع فكر يتسم بالعمق و الفهم و إدراك الشراكة التاريخية , و الدور الحضاري , و الإسهام العلمي لهذه الأمة العريقة في مجمل المسارات و أكثرها أهمية و حيوية , و قد توضح هذا الخط , و تبلور نهجه من خلال أعلام الفكر العربي الحر , و الذي اشتد وضوحه في العقود المتأخرة , و بعد الويلات و المحن التي تعرض لها الكرد , و بخاصة بعد مجازر الأنفال و الحصاد الكيماوي في كردستان العراق , تجلى ذلك على يد كثير من الأكاديميين و الكتّاب و الباحثين , ممن كان لهم استناد منهجي إلى رؤى متقدمة وسابقة لأمثال محمود أمين العالم , و فهمي الشناوي , و سعد الدين إبراهيم , و أقطاب الحوار العربي الكردي في القاهرة و سائر العواصم العربية , لتبرز إلى الواجهة أسماء لامعة , تبلور هذا الفكر و تحدد معالمه , كان من أبرزهم , المفكر المصري فهمي الهويدي , و الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد رئيس تحرير (المجلة) , و المفكر الحقوقي البارز عبد الحسين شعبان , و إيهاب نافع , والدكتور منذر الفضل , و الكاتب العراقي كريم بدر , و الحقوقي فايق الشيخ علي , و الباحث المفكر د.

طيب تيزيني , و الأكاديمي البارز أحمد البرقاوي , و كثير من الأسماء اللامعة  التي أدركت بجلاء و عمق درجة معاناة هذه الأمة , و حقها في الحياة و الوجود , و شراكتها الإيجابية في أهداف و تطلعات شعوب المنطقة , و جيرتها المتوافقة مع المد الحضاري و السلمي و المدني , و حقها الطبيعي في أن تنعم بحياة الازدهار و الرقي , و تحقيق التواصل والتعارف و التكامل مع أمم المنطقة و العالم , ليكون الاختلاف بين الناس في الألسنة و الألوان آية من آيات الله , و مظهرا من مظاهر العظمة في التنوع و الإثراء وإغناء الحضارة الإنسانية.

أما الخط الثاني و الذي أشرنا إليه في سطحيته و سذاجته فإنه يندرج في خانة التحدر و الوقوع في مهاوي السياسة العنصرية البائسة , و التي تجلت في حملات منظمة من خلال أقلام مسعورة , تستند إلى فكر هزيل , لا يكاد يصمد مع أبسط حوار علمي و موضوعي, لتهافته و هفافته , و ركاكة أركانه , و استناده إلى اتهامات جاهزة وباطلة على أساس تخويني و مؤامراتي لا تكاد ترقى إلى أبسط قواعد الجدل المنطقي , لافتقارها إلى الاكتناز المعرفي , و الرؤية التاريخية و الواقعية الدقيقة , تجلى ذلك في أقلام العرفي , و غازي عبد الغفور ومحمد طلب هلال , و القلمجي , و البكري , و ثلة ترى في الكرد فيروسا قاتلا , أو قبائل متناحرة مهاجرة , أو مجموعة سلاب و نهاب , أو نفرا مجهولي الهوية و التاريخ , أو مجموعة خونة و مرتزقة  , أو جماعة تعيش على فتات حضارات الآخرين , لتخدع بهذا الخط المتهاوي و المنحرف و البعيد عن حقائق الحياة مجموعة الجماهير التي تستند إلى فكر بعيد عن التدقيق و المنهجية و الطابع العلمي , مما يفترض بالكتاب و المستنيرين الكرد فضح و تعرية هذا الخط , و تنسيق المواقف و الجهود مع الفريق الأول , و شحذ الأمكانات و الطاقات العلمية و المتوفرة , لتعزيز الخط العلمي المستنير و الموضوعي الجاد, لإشادة منهجية تعلي هذه الرؤية , و تقود إلى الازدهار و التطور اللائقين , لبناء أعمق العلاقات و أكثرها رسوخا مع أحرار العرب و خيرة مفكريهم.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شيروان شاهين تحوّل الصراع في سوريا، الذي بدأ منذ 14 سنة كحركة احتجاجات شعبية، من حالة صراع بين ميليشيات مسلحة وسلطة منهكة على مستوى أطراف المدن والأرياف إلى صراع طال شكل الدولة ككل. حيث أفرزت الحرب الأهلية واقعًا وعنوانًا جديدًا في 8 ديسمبر 2024: انهيار دولة البعث وإعلان دولة القاعدة. تميّز حكم البعث، الذي بدأه أمين الحافظ “السني”…

اكرم حسين   طرح الأستاذ عاكف حسن في مقاله هل ما زلنا بحاجة إلى الأحزاب السياسية؟ إشكالية عميقة حول جدوى الأحزاب السياسية اليوم، متسائلاً عمّا إذا كانت لا تزال ضرورة أم أنها تحولت إلى عبء ، ولا شك أن هذا التساؤل يعكس قلقاً مشروعًا حيال واقع حزبي مأزوم، خاصة في سياقنا الكردي السوري، حيث تتكاثر الأحزاب دون أن تنعكس…

صلاح عمر   ثمة وجوه تراها حولك لا تشبه نفسها، تبتسم بقدر ما تقترب من الضوء، وتتجهم حين تبتعد عنه. وجوهٌ لا تعرف لها ملامح ثابتة، تتشكل وفقًا لدرجة النفوذ الذي تقترب منه، وتتلون بلون الكرسي الذي تطمح أن تجلس بقربه. هؤلاء هم “المتسلقون”… لا يزرعون وردًا في القلوب، بل ينثرون شوك الطمع على دروب المصالح. لا تعرفهم في البدايات،…

أزاد فتحي خليل*   لم تكن الثورة السورية مجرّد احتجاج شعبي ضد استبداد عمره عقود، بل كانت انفجاراً سياسياً واجتماعياً لأمة ظلت مقموعة تحت قبضة حكم الفرد الواحد منذ ولادة الدولة الحديثة. فمنذ تأسيس الجمهورية السورية بعد الاستقلال عام 1946، سُلب القرار من يد الشعب وتحوّلت الدولة إلى حلبة صراع بين الانقلابات والنخب العسكرية، قبل أن يستقر الحكم بيد…