منذُ اللحظةِ التي سقط فيها نظام الشاه محمد رضا بهلوي ، وزحفَ أصحابُ العمائم من منظومة الملالي إلى سُدةِ الحكم ِ، وتمَّ الاعتراف بالإمام الخميني كممثلٍ لولاية الفقيه أو كولي الفقيه ، وبالتالي كمرشدٍ أعلى للثورة و للجمهورية ، وعَمِلَ الحرس الثوري إلى ضرب كافة القوى السياسية الفاعلة والمؤثرةِ في المجتمع الإيراني من قوى قومية أو سياسية ذات صبغة يسارية معارضة لنظام الشاه ، والتي ساهمت بشكل أو بآخر في وصول هذه المنظومة إلى مواقع ِالسلطةِ المطلقة ، تماشياً مع وعود الخميني بإعادة حقوق المغبونين وإنصافهم.
إنَّ هذه المقدمةَ الموجزةَ والمبسطةَ قد تكون صالحةً كمدخل للبحث في فلسفة المشروع الإيراني الطموح والسافر والمرعبِ في آنٍ معاً، والذي ساعدَ وسهَّلَ لتمددهِ العديد من الأطراف الدوليةِ والإقليمية على امتدادِ أكثر من ربع ِقرنٍ من الزمان.
وإذا كانت الرؤية ضبابيةً لدى البعض للوقوف على حقيقة هذا المشروع في بداياته إلا أن العديدَ من المراقبين والسياسيين والمثقفين والكتاب والمفكرين في منطقتنا كانوا قد لجأوا آنذاك إلى التلميح للتعبيرعن مخاوفهم من تسارع وتصعيد وتيرةِ النهج الإيراني في استمالة بعض القوى الفاعلة في المنطقة ، سواء أكانت هذه القوى سلطوية أوتنظيماتٍ شبه عسكرية أو أحزابا سياسية تنهج باتجاه تشكيل ميليشيات ٍمسلحة ٍفي المستقبل ، بهدف دمجها كأسس وركائز وأدوات مستقبلية تدعم بشكلٍ أو بآخر نجاحَ المشروع ِالإيراني ذي الصبغة ِالطائفية .
وجغرافياً أخذ هذا المشروع شكل الهلال مما استدعى البعض لتسميته بالهلال الشيعي ، الذي يمتد من باكستان وأفغانستان شرقاً وصولاً إلى سوريا ولبنان وفلسطين جنوباً ماراً بإيران والعراق بطبيعة الحال ، وإذا كان البعض يستهجن هذا الطرح على أساس أن السنة يشكلون الغالبية العظمى من القوة البشرية الواقعة ضمن هذا الهلال ، فإن الجواب على هذا الاستهجان بسيطٌ وسهلٌ ويكمن في النشاط المحموم لحركة التشيّع ِ(أي تبني المذهب الشيعي) التي تجري على قدم ٍوساق وتستهدفُ المسلمين السنة من كافة المذاهب بل ومن كافة القوميات أيضاً ، تارةً بالترهيب وتارةًُ بالترغيب.
وحريٌّ بالتعريف أنَّ هذا التشيُّع يجري تحت سمع وبصر بعض الحكومات في المنطقة إنْ لم نقل بمباركتها.
وإذا كان البحث في الأوضاع السياسية والاجتماعية للجناح الشرقي من هذا الهلال يأخذ الترتيب الثاني من اهتمام شعوب شرق المتوسط من حيث أهميتها وتأثيرها ، فإنَّ البحث في التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأَمنية للجناح الغربي لهذا الهلال ـ إذا صحَّ التعبيرـ يأخذ ترتيباً متقدماً على سلَّمِ الأولويات ، باعتبارأن الأوضاع المعقدة الراهنة في المنطقة تعتبر بشكلٍ أو بآخرافرازاً رئيسياً من إفرازات هذا المشروع الطائفي القادم من إيرانَ والمعالج ِمحلياً .
وتقريباً للفكرةِ إلى الذهن يمكننا اللجوءَ إلى الاستعانة بالمثل الشعبي القائلِ (هذه هي الطاسة وهذا هو الحمَّام).
بمعنى من شاء فليكن ومن لم يشأ فليكن أيضا .
والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوة ٍالآن، وللحقيقة نقول: هو ليس سؤالاً واحداً، وإنما هي مجموعة من الأسئلةِ تطالبنا بإلحاح بإجاباتٍ منطقيةٍ وواضحةٍ لا لبس فيها، وأما الأسئلةُ في مجملها فتتلخصُ في: لِمَ إيران وليس سواها ؟ .
ولماذا إيران الملالي وليس إيران الشاه مثلاً ؟.
وكيف تم التسهيل لهذا التمدد ولمصلحةِ مَنْ ؟.
وماهي القوى التي تستطيع مواجهة هذا المشروع وهل بإمكانها فعلُ ذلك ؟.
وللإجابة على السؤال الأول ـ وهو مدخل للإجابة على كل الأسئلة التي تليهِ ـ ينبغي علينا العودة إلى الوراء قليلاً لنتفهمَ طبيعةَ ودورَ إيران كلاعب إقليمي في المنطقة وذلك قبل ظهور قوى إقليمية أخرى تستطيع سياساتها التأثير في أوضاع المنطقة وهي تفعلُ ذلك الآن .
فعلى الدوام كانت أدوار إيران في عهد الشاه تنحسر في كونها أنها كانت حليفاً استراتيجياً لأمريكا ولأوربا الغربية في مواجهة الإتحاد السوفييتي وحلفائه في المنطقة ، نظراً للموقع الجغرافي لإيران والمتمثل بامتداده للحدود العازلة بين الاتحاد السوفييتي ومنطقة الخليج العربي وأيضاُ قربهِ من الساحات التي كانت تنشط فيها حركات التحرر الوطني كأفغانستان والعراق على سبيل المثال ، ولم يكن هذا الدور ضارَّاً بمصالح المنطقة العربية بالتقديرات والتقييمات التي كانت متوفرة آنذاك .
لأن دول الخليج قاطبةً كانت تصنف ضمن الدول الصديقة للولايات المتحدة وهي لاتزال كذلك الآن .
وبالتالي لم يكن مطلوباً من إيران ولم يكن وارداً أيضاً لأن تلعب إيران أدواراً أخرى، وعلى وجه الخصوص تلك المتعلقة بجيرانها العرب، فيما عدا بعض التدخلات أو الاحتكاكات العابرة مع العراق والتي كانت تمسُّ الشأن الكردي ، وغالباً ماكانت هذه الاحتكاكات تحت السيطرة ، طبقاً لمصالح المعسكرين الشرقي والغربي.
إنَّ سقوط نظام الشاه وصعود الخميني لإدارة دفة الحياة في البلاد انطلاقا من حتمية ولاية الفقيه والتي شرَّعً لها آيات الله من داخل حوزة قم العلمية ، واندلاع الحرب العراقية الإيرانية ـ التي كاد وهجها أن يحرق عمائم آيات الله في إيران ـ ، وانقسام العرب مابين داعمٍ لهذا الطرف أوذاك ، كان بداية اختلاط الأوراق السياسية في المنطقة والتي لاتزال المنطقة تحت تأثير تداعياتها إلى اليوم ، وربما ستمتد هذه التداعيات لأجيالٍ قادمةٍ.
ومن المفيد جداً القول بأن هذه المرحلة الزمنية بكل أحداثها وتفاعلاتها شكلت الإرهاصات الأولى لفلسفة المشروع الإيراني والذي تأكد فيما بعد، باستسلام صدام حسين لشروط الخمينيين واستسلام الخمينيين لشروط المجتمع الدولي، وربما كانت تلك نقطة البداية.
إذاً..
فالدول العربية التي دعمتْ إيران خلال حرب السنوات الثماني يساندها في ذلك إعلامها الشمولي ، كانت ولاتزال جزءاً مهماً من تعقيدات المشكلة ، وليستْ جزءاً من حلِّ المشكلة.
ومن الممكن
توضيح الرؤية عبر طرح معادلةٍ بسيطةٍ للغاية ، فإذا كانت سوريا دولةٌ عربية ويحكمها حزب البعث ذو الأهداف الثلاثة ، والعراق دولة عربية ويحكمها حزب البعث صاحب ذات الأهداف وذات (المفكر المؤسس) ، فلماذا إذاً كانت الصواريخ السوريةُ تسقطُ فوق بغداد والبصرة والعمارة عبر طهران ؟! .
ولماذا كانت السيارات المفخخة العراقية تَضربُ الأزبكية ومحطة حافلات حمص وقطارات حلب اللاذقية ؟!.
ومِنْ إحدى المفارقات التي تبعث على الدهشة أنه كان يُكتبُ على جواز سفر المواطن السوري (يسمح له بالسفر إلى كافة بلدان العالم ـ عدا العراق ـ) ولم يكنْ يُكتبُ على ذلك الجواز ـ عدا إسرائيل ـ ؟!.
ومن هنا تتضح الخيوط الأولى للتسهيلات التي توفرتْ لإيران والتي ذكرناها آنفاً بقصد التمدد الإيراني باتجاه الغرب.
ناهيك أن بعض المدن العربية أصبحت مرتعاً للإيرانيين من العجائز والأرامل واليتامى والمحاربين والفارِّين والمستقوين والمستضعفين والمستغلِّين والمصلّين والراكعين والمؤتَمَنين من جانب النظم الإيراني ، كلُّ ذلك تَحْتَ أسماءَ كالسياحة والتجارة والتعاون المشترك.
وبدأ حلُمُ الملالي يتحقق عندما بدأتْ طلائع الحرس الثوري الإيراني تظهر في بعض المناطق اللبنانية ذات الأغلبية الشيعية كبعلبك والهرمل وضاحية بيروت الجنوبية والجنوب اللبناني بصفةٍ خاصة ، في الوقت الذي كانت الإستخبارت السورية تمسك بكل المفاتيح التي تفتح كافة الأبواب اللبنانية ، ما كان منها فوق الأرض وماكان تحت الأرض .
وليس كما يُشاعُ بأنَّ الأجهزة الأمنية اللبنانية هي التي كانت تتابع الأمور الأمنية ، وكان دور الاستخبارات السورية ينحصرُ في الحفاظ على أمن القوات السورية المتواجدة في لبنان !!.
بحق..
فإنَّ العمليات الإستخباراتية معقَّدةٌ تعقيداً مركباً وخاصة تلك العمليات العابرة للحدود والتي تتقاطع أو تتصادم مع أحداث محلية أحياناً ، ولا يكفي أن ندحرجَ تصريحاً صحفياً ونمشي ، كي نقنع الناس بما أقنعنا به أنفسنا على أنَّه حقيقة.
فالمسألةُ تبدأ أحياناً بتنظيم القاعدة في وزيرستان لتخترق العراق بإذن من طهران ثم تحط رحالها في نهر البارد وعين الحلوة مروراُ بالمطارت والضواحي والثكنات وصولاً إلى أبعد من جنوب لبنان ، وقد يكون المسار العكسي أيضاً صحيحاً ، وليس هذا بخافٍ على أحد ، فعامة الناس باتتْ تدرك اليوم أنَّ كل ماحدث وما يحدث وما سيحدث لاحقاً مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بفلسفة المشروع الإيراني والذي تكون قرابينهُ دائماً من خارج الحدود الإيرانية .
كما أكدت الأحداث الأخيرة في بيروت وبعض المناطق اللبنانية الأخرى ، وكما يحدث في بعض المناطق العراقية ذات النفوذ الإيراني ، وربما في مناطق أخرى غير منظورة.
والواضحُ حتى هذه اللحظة، أن هذا المشروع المخيف والمدمِّر سيستمر بوتيرة تصاعديةٍ معتمداً على وهنِ الولايات المتحدة في مشروعها الشرق أوسطي، وعجز إسرائيل بالقيام بعمل عسكري ضد إيران على المدى المنظور، وغياب قوى إقليمية أو محلية مؤهلة للتعامل مع هذا التمدد ، وأيضاً المراهنة على عامل الوقت ريثما تمرُّ العواصف ، والعامل الأهم هو التمسك الإيراني وحلفائه بمشروعهم حتى لايضيع الحلم ، ولا أدلُّ على ذلك من كلمات الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله مؤخراً حين قال بشكلٍ علنيٍّ وصريح ٍوللمرة ِالأولى : أفتخر بأنني فردٌ من ولايةِ الفقيه ….
إن القوى الحقيقية التي يمكنها وقف هذا الزحف الفارسي والذي بدأ بتأثيره المباشر على حياة ومستقبل شعوب المنطقة بشكلٍ مباشر، وفي أكثر من موقع ، هي قوى التغيير الديمقراطي المؤمنة بأن مواجهة الأنظمة المتخلفة والشمولية ، لايكون إلا ببناء المجتمعات المؤمنة بالتعايش الاختياري والسلم الأهلي وتكافؤ الفرص في حقوق المواطنة المبنية على خياراتِ الحرية والعدالة والديمقراطية ِ، وقد أجاز لنا التاريخ أن نفهم بأن القوى التي تعيش في النور ستنتزع البقاء والاستمرارية ، وأن القوى التي تعيش في الظلام فإنَّ مكانها خارجَ التاريخ …