مقدمة:
بداية لا بد من التذكير بان النقد السياسي حق فكري و واجب وطني و اجتماعي، من دونه لا تكون سياسة و لا يستقيم لها أمر، و خير دليل على ذلك الاشكاليات التي تشوب المشهد السياسي-الحزبي في اقليم غرب كوردستان وفي اعلى مستوياته الهرمية، و هذا بذاته مؤشر واضح و صريح لانعدام ثقافة النقد الموضوعي و البناء الذي يقوي ارادة التقدم و البناء و ينتج وعي فاعل و منتج و يصقّله لجهة التطوير و التحديث، و يحقق المعادلة ا لتي رافقت نضال البشرية من اجل العدالة الاجتماعية ” الانسان المناسب في المكان المناسب”.
لذا كلنت فكرة تفكيك نماذج من بيانات آذار و مناقشة مفرداتها السياسية و طرح بعض الاسئلة حولها عسى ان تكون مساهمة متواضعة باتجاه توحيد الخطاب السياسي الكردي الذي ما زال يرتكز على الموروث الثقافي القائم على عدم الاكتراث بالوعي الجمعي و ما يطرأ عليه من تطور نوعي و على انتاج نقد عدمي هدّام ينتج بدوره وعيا سلبيا، سطحيا، فارغا و لسانا سوقيا و مبتذلا.
النموذج الاول: بيان هيئة العمل المشترك للكورد السوريين في المانيا
العنوان:
يتضح من العنوان اننا بصدد قراءة بيان سياسي كتب بمناسبة الذكرى ( السنوية) الرابعة للانتفاضة.
فما هو البيان؟ البيان لغويا هو ما يبيّن به الشيء من الدلالة و غيرها، و البيان السياسي هو تكثيف و تركيز سياسة الحزب حول حدث او مناسبة او مستجدّ ما و نشره ليكون في متناول الجميع من اصدقاء و اعداء بهدف توضيح موقف الحزب و تعبئة رفاقه و جماهيره على ذلك الاساس.
و هنا لا بد من التأكيد على ضرورة ملائمة العنوان للمتن او للعرض.
بالنسبة لبيان الهيئة فالعرض لا يتناسب في بعض فقراته مع العنوان المذكور حيث جاء فيه: “لتلك الأسباب ، وبهذه المناسبة تتوجه ” هيئة العمل المشترك للكرد السوريين في ألمانيا ” ببيانها هذا إلى الرأي العام الألماني آملين التضامن مع معاناة وبؤس الشعب الكردي في سوريا ، واتخاذ مواقف من النظام الإستبدادي لإلغاء جميع المشاريع العنصرية …الخ.”
هنا من الواضح ان الهيئة تتوجه بنداء سياسي الى الرأي العام الالماني و لم يعد بيانا صرفا.
فما هو النداء السياسي؟ النداء السياسي هو التعبير عن حالة عجزذاتي في قضية ما و الاستنجاد او الاستقواء بقوة غير ذاتية معروفة و محدودة و محاولة تحريكها للمساندة و مطالبتها بالتدخل لازالة غبن او ظلم معين.
هنا نلاحظ الاختلاف الوظيفي و السببي بين البيان و النداء.
فهل من جدوى او فائدة بخلط او دمج عنصرين مختلفين في الوظيفة؟ و الانكى من ذلك زيّل البيان بعنوان مكان التجمع الذي ستنطلق منه المظاهرة، اي بمعنى ان البيان يقوم بوظيفة ال “دعوة” ايضا.
بالنتيجة اصبح البيان ثلاثي الابعاد، يختزل ثلاث وظائف و التي من المفروض ان توزّع تحت ثلاثة عناوين مختلفة تناسب كل منها المتن او العرض المقدّم له، و هي : ” بيان” ، ” نداء” و ” دعوة”.
المخاطب الهلامي:
من المفروض ان يكون المخاطب به ضمن صلاحيات و امكانات المخاطب و حسب جهة الاختصاص، لا سيما اذا كان المخاطب يقع ضمن جغرافية مجتمع مدني تخصصي و مؤسساتي و يخضع لقوانينه كما هو الحال في المانيا.
فبيان الهيئة “يأمل من الرأي العام الالماني التضامن مع معاناة وبؤس الشعب الكردي في سوريا، و اتخاذ مواقف من النظام الاستبدادي لإلغاء جميع المشاريع العنصرية ، والسياسات الشوفينية ، والضغط عليه للإعتراف بالحقوق القومية المشروعة لشعب أصيل يعيش على أرضه التاريخية ، وإلغاء حالة الطوارئ ، ورفع الأحكام العرفية ، والإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين في سجون النظام ، واحترام حقوق الإنسان”.
و السؤال الذي يطرح نفسه، هل ما ورد اعلاه من مطاليب شرعية تقع ضمن دائرة اختصاص الرأي العام؟ الا يجهض ضبابية المخاطب( جهة الاختصاص) تحقيق المطلب؟ أليس النداء موجه الى عنوان مجهول؟ و اذا قسمّنا جدلا الرأي العام الى رأيين: رأي عام شعبي و رأي عام رسمي، فأيهما معني بلائحة مطاليب الهيئة؟ من سيتخذ المواقف و من سيضغط على النظام؟
السقوط العمد:
لا شك ان المختصين و المحترفين في اللغة ايضا غير معصومين عن الاخطاء اللغوية التي تسقط سهوا و خاصة خلال الكتابة الالكترونية، و الخطأ السهو بشكل عام غير محبب فيه ولكنه مبرر الى حد ما رغم ما يمكن ان يحدثه من تشويه و اساءة للنص، و لكن اذا كان الخطأ عمدا فيجب البحث عن اسباب وقوعه، لربما يكون الامر(السقوط العمد) صحيحا على عكس فهم القارئ.
و من احدى امثلة السقوط العمد في بيان الهيئة، هو تفسير احد اعضاء لجنة صياغة البيان للسقوط العمد لكلمة آلاف بما يلي: ” مئات الجرحى والمعتقلين” تعني تماما ” مئات الجرحى وآلاف المعتقلين”، فتأمل يا رعاك الله.
سياسة التمييز القومي:
جاء في البيان:” و ما زال النظام مستمرا في نهج سياسة التمييز القومي، فقد قرر في المرحلة الاخيرة استقدام ثلاثمائة اسرة عربية بغية توطنيها في أملاك قرى كردية في منطقة ديريك- المالكية – فأضحت – نتيجة ذلك-آلاف الاسر الكردية عرضة للفقر و البؤس”.
بالسؤال عن ما يقوم به النظام المستبد تجاه الشعب الكردي في سوريا من سياسات الاضطهاد و الانكار و عدم الاعتراف بالوجود و الصهر القومي و الاجراءات الشوفينية..
الخ، وصولا الى القتل على الهوية، هل هذا كله مجرد سياسة تمييز قومي أم هي سياسة تمييز عنصري بامتياز؟؟ ناهيك على ان مصطلح التمييز العنصري اكثر تداولا في اورقة الامم المتحدة، و هناك نصوص و تدابير قانونية خاصة للقضاء عليه و ازالة آثاره.
وعلى سبيل المثال و ليس الحصر، الاتفاق الاممي على يوم 21 آذارمن كل عام منذ عام 1960 كيوم دولي للقضاء على التمييز العنصري.
و النقطة المهمة الثانية هي: هل استقدام ثلاثمائة اسرة عربية تدخل ضمن “نهج سياسة التمييز القومي” كما جاء في البيان؟؟ ام تدخل ضمن نهج الاستمرار في تطبيق و تنفيذ المرحلة الثانية من مشروع الحزام العربي السيء الصيت (بناء المستوطنات) ؟؟ من الملاحظ ان الخروج عن التحليل و التعليل الصحيح أوقع البيان في فخ المبالغة السياسية، فهل صحيح ان آلاف الاسر الكردية ستتعرض للفقر و البؤس نتيجة استقدام ثلاثمائة اسرة عربية؟ و هل مناهضة الفقر هو المدخل لرفض و ادانة هذا الاستقدام؟ أم المدخل هو الرفض القاطع لمشروع الحزام العربي السيء الصيت جملة و تفصيلا وكل ما يترتب عليه من معضلات سياسية و اقتصادية و اجتماعية؟
“منذ أواخر الخمسينات” أم “منذ الاستقلال”:
جاء في البيان: ” فالأنظمة المتعاقبة على دست الحكم منذ أواخر الخمسينات من القرن المنصرم وحتى هذا اليوم لم تحقق الحد الأدنى من الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي”.
و السؤال هو ايهما اصح منذ اواخر الخمسينات ام منذ الاستقلال؟؟ لا شك ان هناك اتفاق بين القوى السياسية السورية على ان المرحلة الواقعة بين اعوام 1954-1958 كانت مرحلة الهامش الديمقراطي و بعض من الحريات و لكن هل كان هناك- في هذه الفترة- اي اعتراف بالحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي؟ و هل كان دستور البلاد يعترف بوجود الشعب الكردي كثاني اكبر قومية في البلاد؟ و ان سوريا دولة متعددة القوميات؟ طبعا لا، لذا الافضل اعتماد “منذ الاستقلال” وفق البرنامج السياسي للهيئة.
اسباب هجرة الكرد من مناطقهم:
جاء في بيان الهيئة حرفيا ما يلي: “واستمرارآ في سياسة تجويع الشعب الكردي ، إلى جانب فصل الطلاب والموظفين ، فرض النظام حصارآ اقتصاديآ جائرآ على المحافظة وخاصة على المناطق الكردية ، فحرمها من المشاريع الإنمائية ، وبناء المصانع والمعامل وعلى اعتبار أن المحافظة تعتبر من أغنى المحافظات بإنتاج المحاصيل الزراعية ، ومادة البترول والغاز من دون أن يستفيد من مردودها أبناء شعبنا الكردي .
ماأدى ذلك إلى اقتلاع الآلاف من الأسر الكردية من حضن أرضها ، فألقت بنفسها في أحزمة الفقر حول المدن السورية الكبرى ، أو الهجرة نحو دول عديدة في العالم ، وخاصة دول الإتحاد الأوربي هربآ من غائلة الجوع ، وضنك العيش ، وسوء الأحوال”.
ان اعضاء لجنة الصياغة – باعتبارهم جميعا لاجئين سياسيين- على علم مسبق بعدم وجود ما يسمى باللجوء الاقتصادي في دول الاتحاد الاوربي و على علم بان الشرط الرئيس في الحصول على اللجوء (الاقامة) بعد تقديم الطلب هو اقتناع الدوائر المختصة بوجود خطر حقيقي على حياة مقدّم الطلب في وطنه، و ان هذا الخطر هو الدافع الاساسي لهروبه منه، و هم على علم بان دول الاتحاد الاوربي تقوم باعادة فتح ملفات الاجانب( اللاجئين) بين الحين و الاخر و يتم تسفير الكثيرين منهم الى أوطانهم اذا تبيّن ان ذلك الخطر قد زال او انه كان مجرد ادعاء، هذا من جهة، و من جهة اخرى، فهم على علم ايضا بان الشعب الكوردي يتعرض الى اضطهاد مزدوج طبقي و قومي، و ان الاضطهاد الطبقي – على العكس من الاضطهاد القومي – لا يقتصر على الكورد فقط بل يشاركهم فيه ابناء جميع مكونات الشعب السوري بما فيهم العرب انفسهم، و لو بمستوى ادنى و اقل ،لان كل ماذكر في البيان من سياسات اقتصادية(خاصة) جائرة، حقيقة قائمة و ليست موضع الشك او الاستخفاف عندنا، اي بمعنى ان المعيار الطبقي (العامل الاقتصادي) يعتبر احد الاسباب الرئيسية للهجرات (داخلية او خارجية) عبر التاريخ بغض النظر عن تكوينة الدولة (متعددة القوميات او مكوّنة من قومية واحدة) و لكنه ليس السبب المباشر في حالة الكورد.
فما هو السبب المباشر في انتشار هذه الظاهرة بهذا الشكل الواسع و الكبير بين الكورد على وجه الخصوص فضلا عن ابناء القوميات الاخرى؟
ان السبب المباشر و الرئيسي لهذه الظاهرة في حالة الكورد هو سياسات الانكار و الاضطهاد القومي التي تستهدف الوجود الكوردي ارضا و شعبا بالارتكاز و العمل على تغيير الطابع الديمغرافي لاقليم غرب كوردستان و الاّ بماذا يفسّر الدور الملحوظ للاجهزة الامنية و عملاهم و بمساعدة سخية من حزب الله اللبناني في التهجير المبرمج للكورد في السنوات الاخيرة؟
مما سبق يتّضح ان تعليل الهجرة الواسعة و الكبيرة للكورد الى دول عديدة في العالم و خاصة دول الاتحاد الاوربي ب ” غائلة الجوع و ضنك العيش و سوء الاحوال”- حسب بيان الهيئة- لهوموضع الاستهجان و الاستنكار عند كل سياسي كوردي و عند اغلبية اعضاء الهيئة انفسهم لانه مجانب للواقع و للحقيقة و يزيل الصفة السياسية عن الجاليات الكوردية في الخارج و عن الهيئة نفسهاو بالتالي ينزع عنهم صفتهم التمثيلية كسفراء لقضيتهم العادلة، و يغض النظر- دون وجه حق- عن وجود الالاف من المناضلين و المعتقلين السياسيين و الجرحى و المتضررين في الخارج كضحايا الاضطهاد القومي المتمثل في سياسات النظام الشوفينية و اجراءاته العنصرية.
مما سبق نستنتج ان عدم ظهور بيان بهذا الشكل الى النور افضل بكثير من ظهوره.