مقومات السلام العالمي.. الحلقة الثانية ..

عبد الرحمن آلوجي

إن ارتباط المجتمع  الإنساني – كما سبقت الإشارة إليه في الحلقة الأولى – بالقيم والدوافع والحاجات العليا للإنسان , على الرغم من أهمية ضرورات البقاء ودوافعه الحافظة للنوع , وتلبية الحاجات الفطرية الأساسية, إن هذا الارتباط يجعل لهذا المجتمع قيمته ودوره البنائي الأساسي في الازدهار والاستقرار والأمن الغذائي والاجتماعي, والضمانة الحقيقية لحفظ الأمن والسلام العالمي , إذ أن هذاالارتباط يخفف من غلواء الانحراف والانجرار وراء نزعة القطيع في التزام الحاجات الأساسية , والاستناد إلى الغرائزية في التوجه دون حساب القوة الدافعة إلى الامتداد الحضاري والمدني , بإشباع هذه النزعات أو تلك
مما تحدد الوظيفة الآنية والمحدودة للإنسان , وللمحيط الاجتماعي حوله , في تأكيد الحفظ والصيانة , والالتفاع بالملبس والمسكن , والانتفاع بالطعام والشراب, والتكاثر والتناسل, وطلب الرزق والتماس سبله بمختلف الوسائل , ثم الانتقال إلى ألوان الزخرف والرياش والترفيه – رغم أهمية كل ذلك كما أسلفنا – وهو ما يجنح إليه الإنسان بطبيعته , مع استخدام قواه وطاقاته و فاعليته و إمكاناته الجسدية و العلمية و النفسية , لإشباع هذه الأساسيات مهما كلفه ذلك من سعي متواصل , و تذليل للعقبات , و قهر للصعاب , قد تصل درجة الصراع , و قد تنتقل إلى العنف و القتل و التدمير , و نهب الدول , و سلب إمكانات , و قهر مجتمعات … مما يهذذ السلام العالمي , وينذر بكوارث و محن , و يزرع أحقادا و ثارات , و يجرّ ويلات و حروبا طاحنة , تدير – مرة أخرى – عجلة الكراهية و التأريث و الفتك و الإركاب بكل أشكاله و صوره , و المفاهيم و ردود أفعال و التراكمات التي تؤدي إلى إحن و أوبئة نفسية , تتوغل في أعماق الأفراد و الجماعات , و تلون الأعماق بكل السخائم و المعكرات , و الركون إلى رواكد آسنة , و رؤىً مخضبة بألوان مكفهرة , و أشكال في الانتقام , لينتقل هذا الإرث إلى المناهج و المفاهيم , و التربية و الإعلام , و التوجيه و الإرشاد , في شكل بيانات و آراء و كتب مدرسية و توجيهات و مدارس سياسية , مما يصبغ المجتمعات بالتدابر والقطيعة , والاستعداد للإرهاب بأشكاله وصوره , وتهيئة الأرضية الملائمة لكل عمل عدواني , من شأنه أن يدمر كل أسباب الثقة والتواصل , ويهيء الأرضية للقمع والفساد والاضطراب الاجتماعي وفي المقابل نجد كل الأسباب والأسانيد والدعائم لفكر هو ثمرة عقائد ومفاهيم ورؤى ً أكثر تلبية للحاجات والضرورات القيمية والأخلاقية والتربوية المقابلة , والتي تتجاوز الحاجة الإنسانية الفطرية , إلى الحاجات والضرورات والقيم العليا التي تحافظ على امتداد النوع الإنساني , وتفاعله , وتكامله , وصولا إلى درجة من الارتقاء والتحرر من العقد الذاتية , والنزعات الغرائزية , وأساسيات القطيع الضامنة للنوع , إلى أساسيات المجتمع الإنساني , فيبدأ بتكوين الإنساني في ضميره وتصوره وشعوره , وقيمه وإحساسه بالحياة في كل جوانبها المشرقة , وآفاقها المبدعة , ومفاهيمها في العلوم والمعارف وثمرات الإبداع , و القيم الإنسانية و التراثية الرفيعة , مما يدل على الارتقاء فوق الدوافع العضوية , بتحرير الإنسان و ميحطه من كل ألوان الرهق النفسي , و العبودية للغريزة , و الانصياع للدافع العدواني , و محاولة تملك ما للآخرين , و الاستحواذ على الأرض و الكيان و المتاع , و الممتلكات , و الإمعان في سلب إدارة الشعوب , و التفكير الوصائي , و الؤية العنصرية الاستعلائية , و مفاهيم التحكم و الإقصاء , و إشاعة الفتك و التعذيب النفسي و الجسدي , و فرض حالات الاغتراب ..

مما يضير بإنسانية هذا المخلوق الذي يحمل كل كوامن الإبداع , و كل عناصر و نوازع القيمة الإنسانية العليا , مما يمكن استجاشة دخائله ,  و نبش الكامن من الدافع إلى كل ما هو نافع و مثمر و مفيد في بناء عوامل السلم و المدنية و الخير و الازدهار , و نشر قيم الفضيلة , و نزع كل نزعات التوتر و الدافع باتجاه التصعيد , تأسيسا لحالة قويمة دافعة باتجاه البناء و الإعداد و التوجيه لمجتمع إنساني , يزدهر فيه الإنسان بعطائه , و فكره , و إبداعه , و تقدمه في الميادين العلمية , بالاستفادة من كل معطيات التقدم العلمي و التطور الإنساني , عبر اعتماد منهج حواري , حوار الحضارات والمذاهب والاتجاهات والأفكار للوصول إلى قيم مشتركة , ومثل عليا تلتقي حولها الجماعة الإنسانية, والمجتمع الإنساني بكل خصاله العالية ..

 
إن نقطة الانطلاق الأساسية في بناء السلم العالمي , وإشادة صرح مجتمع مستقر عادل , تتكافأ فيه الفرص , وتستتب فيه الأحوال والهيئات والأوضاع , وتتنامى من خلال المناخات الهادئة الرحبة كل أسباب التطور العلمي ,و مواكبة المجتمع الإنساني الرائد ..

أن نقطة الانطلاق هذه تتأتى من خلال تحرير ذات الإنسان وفكره و شعوره من الدوافع العضوية , و الغرائز و الشهوات القريبة و الاستئثارات الفردية , ونزغات ذاتية مفرطة في الدونية , وفق معايير وقيم واوضاع ومناهج , وإعداد طويل وعميق ومؤثر ,ليملك قرار نفسه و مجتمعه ,ويدرك  حريته وإنعتاقه من ربقة المفاهيم  التطورات البدائية و حس القطيع ,إلى رحابة الفكر الإنساني,و مقومات إبداعه , و أسباب تقدمه و إزدهاره, وما يفعل ذلك بقوة في المجتمع المحيط ,لتترسخ مبادئ السلم, و  ترتقي إلى الا زدهار العلمي والاقتصادي والاجتماعي ,وتنتفي كل اسباب التوتر والعنف وقيم الكراهية ….


إن أكبروأهم مقومات السلام العالمي, والاستقرار المدني , والازهار والأمن ,وتقدم المجتمعات الإنسانية على نسق البناء وإعداد الإنسان ورفع سويته , تتجلى بتعزيز قيمه الرفيعة , ودوافعه العليا , وتهذيب نظرته وتطهيرها من دنس الحقد , ورجس الكراهية, وتنقية مفاهيمه, ودفعها باتجاه النقاء, والإيمان بالحياة في ظل التواصل والتكامل والتساند والبناء , وبخاصة مع ابناء وطن يجتمع فيه كل طيف بما يحقق التناغم والتنوع والتقارن والتعددية وعوامل إثرائها , باحترام الإرث الإنساني الجامع, بعلومه وآدابه وفنونه , وقيمه الروحية, وتراثه الأخلاقي , في عملية إعداد للإنسان ودوره, إعمارا وتشييدا وتخطيطا , ورفعا لدعائم مجتمع يعتمد طرقا منوعة في الإنفاق في سبيل بناء منهجي , يوفر المناخ العلمي المطلوب لرفاه الإنسان ورخائه, وعلو كيانه ورفعة شأنه , باستبعاد ونبذ أسباب التصارع والتناحر والأثرة والمقت والبغضاء, وكل مكامن الكيد والدسيسة والوقيعة والتآمر, ومسالك التشويش والتضليل, والتوتير والإقصاء وسوء توزيع الثروة وحكرها ووضعها في أيدي المتخمين من السماسرة واللصوص والفاسدين, بحرمان مستحقيها ممن يعانون مرارة البؤس والفاقة والإملاق, ممن لا يكادون يجدون ما يسد الرمق ويغني ويمني من جوع ماحق,إلى جانب فقدان عوامل الراحة ودواعي الأمن في المال والنفس وثمرات الكد المتواصل والجهد المغرق, ما مايشهده يوميا من حالات الفزع المرعب والإرهاب والفتك وإزهاق الأرواح بغير جريرة, مع ما نشهده في كثير من الأحيان من تمييز واستعلاء عرقي وفتن مذهبية وتناحر على الفكر والاختلاف وبث للفرقة والخصام في الرؤية السياسة والفكرية واختلاف الرأي مما لايعد شناعة ولا إثما في مقاييس المجتمع الإنساني المتحضر وآفاقه الرحيبة وفكره المستنير.


إن الدعوة إلى حرية الإنسان الفكرية وإغناء عالمه بالقيمة الإنسانية الرفيعة وإعداد ه وتنشئته وتهييئه وطول تربيته وإغناء مسيرته التربوية الحافلة بكل الطعوم والمفاهيم والرؤى العامرة بحياة زاكية مزدهية نافعة من شأنها أن تضع القواعد الكبرى في بناء أسس المدنية والعمران والقيمة الفضلى والحقيقية للإنسان, بما يرقى بالدور الإنساني ويعلو به, في محيط متحرك , ومن خلال عمل ميداني واقعي يترجم هذه الرؤية عملا مجديا رائدا وبناء, يلحظ كل اسباب ومقومات فكر عالمي متقدم , يخدم المسيرة الإنسانية الرفيعة, ويترجم هذا التوجه في واقع مواجهة الاستعداد لكل عوامل الصراع والتوتر وبؤره وما يتعلق بذلك من قيم استبدادية ونزعات تسلحية  , والطاقة على محاربة كل ما يهدد هذا الوجود والكيان الإنساني , وتحركه الاجتماعي , نحو نزع فتائل التوتر , وأسباب القمع وأشكال الاستبداد , وتهيئة الأجواء إلى  مناخات مدنية وديمقراطية تحافظ على حقوق الإنسان و القانون الدولي , وعومل تحرر الإنسان في المجتمع الإنساني وترسيخ قيم الديمقراطية والعدل والمساواة في الفرصوإتاحة كل أسباب التقدم نحو الشراكة الحقيقية بين مختلف أطياف المجتمع الإنساني وتكويناته في العراق وأفغانستان والبلقان ولبنان وسوريا وسائر بلدان الشرق الأوسط , وحسن التعامل مع طاقته وانطلاقته وفق تلك المنظومة القيمية والمعرفية والأخلاقية الجامعة , ليكون ذلك عاصماً من كل أشكال الهيمنة والاستبداد , وذهنية الإقصاء والاستعلاء وما تجره من نكبات وارتدادات مؤسسية تؤدي بالمجتمع إلى التناحر والتحارب وتهديد السلام في المجتمع , وما يخلف ذلك من أجواء مشحونة تهدد السلم والأمن الإنساني , وتوسع رقعة الحرب والصراع , ليكون ذلك مقدمة إلى تهديد السلم العالمي , وزرع بؤر مرشحة لذلك , وقابلة للاحتراق والانفجار , وهو ما ينبغي ملاحظته ومتابعته ولجم أسبابه وتحديد عوامله , ومحاصرة ذلك كله , وفق منهج متكامل ميداني وعلمي بعيدا عن الرؤى المجنحة والتخايل الرومانسي بقدر استناده إلى مقومات سيكولوجية وفكرية راسخةفما يحصل في العراق وأفغانستان من استحقاقات فترات الارتكاز إلى القمع والاستبداد , وما نشهده من تحول في ميزان القوى , وتحرك باتجاه عملية سياسية تعددية جديدة تحترم خصائص الإنسان وسمات تمدنه وتحضره , كذلك في لبنان في ظل اتفاق اختصر المسافات وتجاوز المحن وحدد الوظيفة العملية في بناء عمل معقد يمكن أن يجر إلى تحول حقيقي في منطقة الشرق الأوسط والعالم , بما يوصل إلى أمن وأمان وسلام وتعددية مذهبية وسياسية وفكرية , وبعد عن القمع والتشريد والتقتيل المذهبي والطائفي , وهو ما نأمله في تحقيق الازدهار و المدنية في كل جزء من العالم , بما يحقق العدل والكفاية وقرن الفكر بالممارسة.
———–

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…