إعلان عاجل جدّاً : هنا مركز لشراء (قسائم المازوت)

   إبراهيم اليوسف

لاتزال عملية استلام قسائم المازوت، من قبل المواطنين في منطقة الجزيرة، مستمرّاً، حيث تمنح للأسرة الواحدة قسيمة  تمكّنها الحصول على ألف ليتر من المازوت ، بالسّعر المدعوم ، أي المخفّض، ياعيني على الدعم ، وبارك الله لحكومتنا الميمونة، على ذلك..

.!
وإذا كان المواطن الكرديّ الذي انسلخت عنه الجنسية قد استفاد من هذه الهدية الحكومية ، شأنه  في ذلك شأن الفلسطيني النّازح عن بلده، فإنّ آلاف المكتومين من مواطنينا ، قد حرموا من هذه (النّعمة) مع الأسف الشديد ، دون أن تراعى ظروفهم في مواجهة البرد الشديد ، والفقر العتيد…!.

ولعلّ ما جعلني أتناول هذه النقطة – هنا- هو ما بتنا  تشهده في الأيام الأخيرة، من اضطرار مواطني هذه المنطقة الخضراء ، سابقاً ، لبيع قسائمهم ، هذه، ولأقل : قسمتهم الضّيزى ، وهو ما لم يتمّ بكلّ تأكيد إلا تحت سطوة الحاجة القصوى ، الملحّة، حيث يقدّم ربّ الأسرة- وأيّة ربوبية هنا يا ربّ!- ومنذ الآن على بيع القسيمة- القسمة، كي تكون أسرته على موعد مع البرد في الشّتاء المقبل، مع أن الكثير من الأسر في هذه البقعة الغنية جدّاً، والمعطاء نفطياً، وزراعياً ، ووطنياً ، لم تدخل أصلاً مادة المازوت بيوتهم في الشتاءات السابقة ، حين كان المازوت يباع بالسعر العادي المدعوم ، قبل أن تتمّ هجرة الألوف من الأسر إلى المدن الكبيرة ، كي تعيش في بيوت – الصّفيح/ التنك (وهي موجودة حتى في أوربا ولا أحد أحسن من أحد) بل في الخيم المفتقدة للخدمات، جملةً وتفصيلاً، و المتشكلة حول هاتيك المدن الكبيرة ،  وهي عموماً مدن لا نفط في محيطها، أو تحت أقدام بنيها، وهي أقلّ خيرات من منطقتنا، التي باتت تفرغ يومياً من بنيها هؤلاء ، وتشهد  هجرة  أليمة مستمرّة  ، لدرجة أن محطّة قطار قامشلي باتت تشهد– وعلى نحو متوسطيّ – هجرة ما يقارب عشر أسرفقيرة ، منكوبة ، يومياً، إلى المحافظات الأخرى – بضم الهمزة- بحثا عن  الرّغيف، ولعلّ أكثر ما آلمني ، وأرجو ألا يكون صحيحاً، هو أن بعض هؤلاء المهاجرين المجوّعين، كتب إعلاناً على لوحة ألصقها على مدخل مخيمه يقول :
 لسنا غجراً ، مع احترامي الكبير للغجر، ويقال : إنهم كتبوا مثل هذه العبارة ، للتخلص ممّن اعتقد أن هذه الخيم لمن يسمين –عادة – بالحجيات- وهنّ أعلى مرتبةً- بحسب العارفين- من بائعات الهوى …..!

وحقيقةً ، لا بدّ من أن تقرع الأجراس من أجل أن تبادر الجهات المعنية في هذه السّنة 2008، ولا أقول العام ، نزولاً عند رأي العرب التي كانت تفرق بين سنوات الجفاف وأعوام الخصب،  وهو ما نبّهني إليه ذات يوم، عمي الشيخ عبد القادر، صاحب القصيدة الشهيرة:
Li van niska li van e dese
Ci bun giyaye melkesa

Bi das u tapan u” meqesa”
Nayen cinine “ya sitar”..!

  والتي كتبها ذات سنة محل ، بالنّسبة إلى أسرتينا ، وأنشدها الفنان الرّاحل سيد محمد شريف برزنجي، بصوته العذب وعلى إيقاع الدفّ……..!.

 أجل ، إن هذه السنة 2008هي بامتياز :سنة الهجرة كما أسميها ، سنة القحط، والجفاف التي خسرنا فيها أكثر من ثروة بما في ذلك ثروتنا الحيوانية، التي باتت تنفق، و يكاد لم يبق لنا منها حتى الرّوث لنتدفأ عليه في الشتاءات، ونطبخ على ناره بدلاً عن الغاز، بل بتنا نخسر أغنى ثرواتنا:
المواطن، بعد ضياع الزّرع والضرع ، كي نتحسّر على الأيام المازوتية الخوالي، و لكي ينتصف التاريخ إلى قسمين : ق .

ه  وب ه ، وهو ما لم آت به أيضاً من بنات خيالي، لأنّ الآباء والجدود كانوا يتحدّثون بألم كبير، عن سنوات أليمة ، مرصوفة في ذاكراتهم ، كالخناجر، وبياض الطّناجر، من بينها سنة 1958 التي انتشر عبرها في منطقتنا اسم “جمال” على المواليد الجدد، آنذاك ، حين كان يوزّع الدّقيق على الجوعى، بل ثمّة أسماء من بينها “محل” وكان في قريتنا- تل أفندي مسقط رأسي- أحدهم بهذا الاسم : سليمان محل، ممّن اغتبط أبي لسماع منام خاص له، حين انفتحت عيناي على النور وخبز التنور، لأول مرّة…..!.

 ولعلّ آخر من حدّثني في “فقه المحل” بكسر الحاء ، هو العلامة ملا محمد ديواني ، وفي مكتب الصديق  محمد اسماعيل   في قامشلي، وهو رجل دين طاعن في التّجربة، وكاتب، حين قال منذ أيام عن ذكرياته الأولى مع المحل في قريته “كرصوار” الشيتية، شرقيّ قامشلي، وراح يعدّد أسماء من كانوا يقدّمون الطعام في تلك المنطقة للائذين بهم، من أخوتهم القادمين من مناطق كرديّة أخرى ، وذكر اسم جدّي العالم – الشّيخ إبراهيم- الذي كان يقدّم وجبة الإفطار لهؤلاء في كلّ يوم، طوال تلك السنة العجفاء ، ليقدّم غيره سواها، وهو ما كنت أعرفه بدوري عن جدّي – نفسه- الذي أفرغ كلّ عنابره للأسر المنكوبة، يوزّع القمح عليهم مجّاناً ، ويحضّ على ذلك من فوق منابره ، بينما كان صديقه الشيخ الخزنوي -قدّس سره– كما روى ذلك أبي، وبعض من هم الآن أحياء- يقدّم القمح لهؤلاء، لكن، على أن يعيدوا إليه- مثله- في الموسم المقبل، وحين احتجّت إحدى جدّاتي على تصرّف جدّي الذي لم يحاك صديقه الشيخ ، ردّ عليها:
إن أبواب الجنّة مشرعة اليوم بأكثر، و إنني والله لأطلقن زوجة تحتج على دخولي الجنة….!
وهو ما دفعني لأن أتساءل:
أين جيلنا من تلك الأخلاق، ولكن حسبي وغيري من الشرفاء ،حشرني الله معهم، ساسةً ، وناشطين ، وحقوقيين ، وكتاباً، من فارغي العنابر ، والطنابر، والطناجر، أن نتناول مثل هذه المعاناة ،بما أمكن، كي نسهم مع غيرنا من غيارى في رفع المحنة العابرة ،عن أهلنا ، وبلدنا، بما أمكن، أعانهم، وأعاننا الله أجمعين….!

وعوداً على بدء:
 يقيناً ، إن من يساوم على وقود بيته ودفء أبنائه، في شتاءات الجزيرة التي لا يرحم بردها السليمانيّ القارص أحداً، لم يفعل ذلك إلا مضطرّاً، كارهاً رغم أنفه ، خاصةً ، ودائرة نبّاشي القمامة في مدننا باتت تكبر يوماً بعد آخر ، كي تتكوّن في هذه المنطقة بورصة قسائم المازوت، وتتراوح تسعيرتها بين تسعة آلاف ليرة سورية، و اثني عشر ألف ليرة سورية، كي يكون لها تجّارها وسماسرتها، بل ربّما انتبهت شركات الفساد الذي –ساد- إليها، فتفتح شركات خاصة بها، كي تكون مصائب قوم عند قوم أرصدةً في البنوك، والجيوب….!.

اللّهم ليس لنا عنابر قمح نساعد المنكوبين ، فلا تجعلنا ممن يتاجرون بهذه القسائم ، وغيرها ، في زمان جفاف المواسم، وتكشير المباسم، وذبول المياسم، ولا تجعلنا شركاء في الحرام ، وأبقنا دائما مع الجياع ، لا مع الضباع ، فما أقسى الضياع….

آمين ثم آمين ….يا رب العالمين …..! .

……..
كان العنوان الأصلي للمقال الساخر قليلاً : “في فقه المحل”، لكنّني ارتأيت تغييره ، نتيجة  ل”مزاج شخصي …خاص”…!.

– خبرصحيح لم أصدّقه ، و لا علاقة له بمتن المادة البتّة:
يروي القادمون في هذه الأيام من بلد مجاور، يقع على بعد مئات الأمتار من منزلي ، مني-  وهذا فعل ماض مبني للمجهول- المزارعون والفلاحون فيه -أيضاً – بالجفاف ، بأن حكومتهم- وأنا لا أقولها دعاية لها، انتهت للتوّ، وبعد أسابيع من العمل المتواصل، من عملية تقدير ما خسره هؤلاء ، نتيجة الجفاف ، لتعوضهم عن كل ذلك من خزينتها، وفي انتظار تقديم ما يلزم –كذلك- من بذار ، وسماد، ومصاريف للموسم القادم ، وأرجو من الله أن يكون القادم أجمل، وألطف ، وأحسن …….!

-أديب كردي ، يكتب بلغته الأمّ له عدد من الكتب، ويغنّي بعض قصائده عدد كبير من الفنانين والفنانات الكبار، فتسمع في كافة أجزاء كردستان، أقدم منذ أشهر على بيع جهاز كمبيوتر، كان أهداه إليه أحد الفنانين، وآخر ما قام به صاحبنا نتيجة البطر، هو إنّه باع أيضاً حصّة أسرته من قسائم المازوت، معرقلاً بذلك خطة جهابذة الاقتصاد في بلده، ضمن حدود أسرته…..!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…