افتتاحية جريدة الوحـدة العدد /154/ *
يلاحظ كل المراقبين بأن القضية الكردية في سوريا بدأت تحظى باهتمام ملحوظ في الآونة الأخيرة، وذلك لأسباب بعضها موضوعية، أنتجتها التطورات الإقليمية، وأخرى ذاتية لها علاقة عضوية بتلك التطورات.
فبالإضافة لوقوع سوريا بشكل عام في مهب رياح التغيير التي بدأت تهبّ على العالم منذ عقدين من الزمن، فإن المحيط الإقليمي بما فيه الكردستاني، بدأ يضخّ تأثيرات مباشرة، وخاصة من العراق الذي انقلب بين الأمس واليوم ، ليتحول من دولة كان يحكمها نظام دكتاتوري يحاسب الناس على النوايا وينشر الموت والدمار، ويزرع المقابر الجماعية في كل أنحاء العراق، إلى دولة تحتكم لصناديق الاقتراع التي وجدت طريقها إلى كل مكان، لتوفر لمواطنيها جميعاً حرية الاختيار والمشاركة السياسيةوهو ما دفع العراقيين عرباً وكرداً وأقليات قومية إلى المخاطرة حتى بأرواحهم في سبيل ممارسة حقهم في التعبير ، ليتحولوا إلى نموذج لشعب يعشق الحياة الحرة الكريمة، ويتحول العراق معهم إلى مدرسة حقيقية للديمقراطية التي أينعت وسط الدمار وفي ظل الإرهاب الذي سيندحر حتماً أمام إرادة الرافضين لعودة الدكتاتورية والطامحين إلى نظام ديمقراطي فيدرالي أقرّه الاستفتاء العام على الدستور، لينعكس ذلك وغيره على الشارع الكردي السوري، خاصة بعد أن تحررت كردستان العراق بقسميها، الخاضع منه لنظام بغداد الذي تحرر من الدكتاتورية، والخاضع للإدارة الكردية الذي تحرر من الهيمنة والتدخلات الإقليمية،والتي بتحررها، تحررت العلاقات الكردستانية مع دول الجوار الكردي، وأصبح بإمكان الحركة الكردية في سوريا وفي الأجزاء الأخرى الحصول على الدعم السياسي والمعنوي والإعلامي بعد أن ظلت محرومة منه زمناً طويلاً لأسباب معروفة تتعلق بطبيعة العلاقة مع الأنظمة الحاكمة في تلك الأجزاء… وهكذا، انعكست تطورات المحيط الكردستاني على الداخل الكردي في سوريا على شكل آمال متزايدة، أخذت معها شكل خط بياني أرادت السياسة الشوفينية وضع حد لصعوده المتنامي في أحداث آذار 2004 عندما أرادت افتعال حالة شغب مفتعلة واستغلالها لقمع نضال شعبنا الكردي وتحطيم إرادته ، ورغم وجود أسباب ودوافع أخرى وراء تلك المؤامرة تعود بعضها لتبرير استعادة الدور والتدخل الأمني وتبرير ممارسة القمع ، فإن تحجيم النضال الوطني الكردي كان في مقدمة تلك الدوافع، لكن وحدة الموقف الوطني الكردي والتفاعل العضوي بين الحركة الكردية وجماهيرها، وانطلاق تلك الأحداث على شكل ردود أفعال وانتفاضات إلى مختلف المناطق والتجمعات الكردية ، أحبطت تلك المؤامرة، ونقلت الوضع الكردي إلى موقع متقدم، حيث انتزعت الاعتراف بوجود الشعب الكردي وتوزعه، ورسمت خارطة المناطق الكردية، وأثبتت وجود قضية كردية مشتركة ربطت بين الجميع، وأكدت حاجتها لحل عادل، وباتت الحقيقة الكردية غير قابلة للنكران، ولذلك فإن السياسة الشوفينية لم يبق أمامها في ظل الواقع الجديد، سوى التنكر لشرعية الحركة الكردية والسعي لإيجاد بدائل اجتماعية لم تستطع السلطة تأمينها، بسبب نضج هذه الحركة ووعي جماهيرها وانخراطها في النضال الديمقراطي العام، وتلاقي غالبية أطرافها مع معظم القوى والفعاليات الديمقراطية السورية في إعلان دمشق على ضرورات التغيير الديمقراطي السلمي وعلى الحل الديمقراطي العادل للقضية الكردية في سوريا التي تتطلب المزيد من التعريف والتضامن، وكذلك بسبب الاهتمام الذي تلقاه قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا بشكل عام، ومنها القضية الكردية بين أوساط الرأي العام في الخارج.
في ظل ما تقدم من تلك الأوضاع المستجدة، بات لزاماً على الحركة الكردية مواكبة تلك المستجدات بالبحث والعمل على إيجاد مرجعية قومية تملك حق القرار والتمثيل، وتحديد الأهداف المتلائمة مع التشخيص الدقيق للواقع، والانطلاق منه لبناء مستقبل واعد، ولما كان الداخل الوطني الكردي في سوريا هو الوعاء الذي يجمع الغالبية العظمى من جماهير شعبنا الكردي، ويختزن تاريخه ويجسد جغرافيته، ويمثل الساحة الأساسية لنضاله والمسرح الوحيد لمعاناته واضطهاده، فإنه يجب أن يكون الموقع الرئيسي الذي يجب أن يشهد بناء أية مرجعية تمثل إرادته وتعبر عن همـومه وتطلعاته، لأنها -أي المرجعية- في هذه الحالة، ستكون أكثر التصاقاً بالشعب الكردي وأصدق تعبيراً عن آماله وآلامه، وأكثر تمثيلاً لتطلعاته، وسيحميها ذلك من الانحراف والاستغلال معاً.
وهذا لا يعني بحال من الأحوال تجاهل دور الخارج الكردي وأهمية الجالية الكردية التي عليها أن تكون رديفة للنضال الذي يخوضه شعبنا الكردي في الداخل بدلاً من الوصاية عليه وتجاوز حركته المنظمة التي لا تقلل من مكانتها كل الإشكالات المحيطة بها والعراقيل التي تعيق تطورها، كما أن التأكيد على دور الحركة المنظمة في قيادة النضال الوطني الكردي، لا يعني احتكار هذا النضال الذي يجب أن تشارك فيه كل الفعاليات الاجتماعية والثقافية والشخصيات الوطنية، بل يعني أن هذه الحركة بما تمثله من طاقات وتختزنه من خبرات وما تتحمله من مسؤوليات،هي المهيئة أصلاً للقيام بهذا الدور.
من هنا، فإن المحاولات الجارية لنقل مركز القرار الكردي إلى الخارج بحجة القيود المفروضة على تحركات الداخل واستغلال عدم قدرة الحركة الكردية على تحقيق استكمال وحدتها النضالية، لترتفع الأصوات الداعية عملياً إلى تجاوزها، يجب أن تكون حافزاً لبذل المزيد من الجهود لتأطير وتوحيد وتنظيم النضال الوطني الكردي الذي يجب أن يبدأ بحوار ديمقراطي مسئول بين أطراف الحركة الكردية لبلورة برنامج سياسي موضوعي يلبي طموحات شعبنا الكردي من جهة، ويحقق الحد الأدنى من التضامن والقبول من قبل شركائنا من القوى الديمقراطية السورية، من جهة ثانية، ونعتقد أن الرؤية المشتركة للحل الديمقراطي للقضية الكردية التي أقرت من قبل الهيئة العامة للتحالف والجبهة الكرديين، (مع إمكانية التغيير والتبديل في بنودها بغية إثرائها وإغنائها من خلال النقاش الأخوي البناء)، تصلح أن تكون قاعدة مناسبة لهذا الحوار مع الأطراف الكردية الأخرى والفعاليات الوطنية.وبهذه المناسبة فإن أية مماطلة في هذا الموضوع، تشجع البدائل الأخرى سواء ما تتعلق بنقل مركز القرار الكردي وبنائه خارج تربته الوطنية أو ما يتعلق بتناطح بعض الأفراد، هنا وهناك، لاستلام مهام المبادرة.
ومن هنا، فإن مجرد رفض بناء مرجعية كردية في الخارج-رغم صوابية هذا الرفض- لن يكون كافياً ومقنعاً إذا لم يترافق ذلك بعمل ميداني لبنائها في الداخل، لأن ضرورات تلك المرجعية باتت أكثر إلحاحاً، نظراً للتحديات العديدة التي يواجهها نضالنا وحاجة شعبنا إلى ممثل شرعي ووحيد يقود العمل الوطني في هذه الظروف التي تعج بكل الاحتمالات، بسبب حساسية الوضع السوري عموماً وتصاعد آمال التغيير الديمقراطي وضرورة استعداد الحركة الكردية لتمارس دورها الوطني المطلوب انطلاقاً من مبدأ الشراكة الوطنية والاعتراف الدستوري بوجود الشعب الكردي كثاني قومية في البلاد، وإعادة النظر في التقسيمات الإدارية في المناطق الكردية وتطوير الإدارة المحلية/الذاتية/ بما يتلاءم مع خصوصيتها القوميـة.
——
* الجريدة المركزية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا(يكيتي)