أي «أمن قومي ووطني» أمن النظام أم أمن الشعب ؟

صلاح بدرالدين

من المعلوم أن مقولة “الأمن القومي” المتداولة منذ الحرب العالمية الثانية في أدبيات الأوساط الثقافية  وخطابات القوى السياسية في الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا مازالت موضع تجاذب وأخذ ورد من جهة تعريفها وتفسير جوانبها لدى ممثلي مختلف الطبقات الاجتماعية ومثقفي الحركات الوطنية والديموقراطية وتعبيرات الأوساط الحاكمة في جميع بقاع العالم المعاصر بما فيها أنظمة وحركات شعوب الشرق الأوسط وقد لعبت الاشكالية اللغوية لدى ترجمة عبارة – نيشن – من أصلها اللاتيني الى اللغات الأخرى وخاصة العربية في تفاقم أوجه التباين حول تفسير المقولة بعكس ما هو متبع في الغرب
والتأرجح بين كلمتي – القومية – والوطنية – المتشابكتين من جهة وذات البعدين المختلفين من الجهة الأخرى في برامج القوى السياسية الحاكمة والمعارضة فالبعد القومي كما هو معروف يقتصر على أبناء القومية الواحدة والأمة الواحدة بكل معالمها التاريخية الجامعة المشتركة على غرار “الأمن القومي العربي” و “الأمن القومي الأمريكي” (باعتبار أمريكا أمة حسب تعريفها الرسمي) أما الرابط الوطني فيشمل أكثر من شعب وقومية وثقافة وأحيانا دولة في الاطار الجغرافي المحدد االتعددي مثل “الأمن الأوروبي” و “الأمن الوطني العراقي” أو السوري أو الايراني الخ ….

 
 ويعود استخدام مصطلح “الأمن” كما هو مثبت في المراجع العلمية العالمية التي اعتمدنا عليها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حيث ظهر تيار من الأدبيات يبحث في كيفية تحقيق الأمن وتلافي الحرب، وكان من نتائجه بروز نظريات الردع والتوازن، ثم أنشئ مجلس الأمن القومي الأمريكي عام 1974، ومنذ ذلك التاريخ انتشر استخدام مفهوم “الأمن” بمستوياته المختلفة طبقًا لطبيعة الظروف المحلية والإقليمية والدولية.
وهناك وجهات نظر عديدة ومتعارضة حول مفهوم “الأمن القومي أو الوطني” ومن أبرزها اعتباره أية  تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها الى تحقيق الأمن من خلال التطور والتنمية، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية في ظل حماية مضمونة وإن الأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التي تهدد مختلف قدراتها ومواجهتها؛ لإعطاء الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في كافة المجالات سواء في الحاجة بالقدر الذي يكفل لشعبها حياة مستقرة توفر له أقصى طاقة للنهوض والتقدم في الحاضر أو المستقبل من هنا فإن شمولية الأمن تعني أن له أبعاداً متعددة سياسي في الحفاظ على كيان الدولة واقتصادي بما يوفر المناخ المناسب للوفاء باحتياجات الشعب وتوفير سبل الأمان والرفاهية والاستقرار المجتمعي واجتماعي بما يثبت الأمن لكل المواطنين ويلبي طموحاتهم ويحترم هوياتهم الذاتية وحقوقهم القومية والثقافية وينمي لديهم مشاعر الانتماء والولاء والحب للوطن ذلك الوطن الذي يضمن حياة الأفراد والجماعات وممتلكاتهم ويوفر كل الأسباب والشروط لترسيخ الوحدة الوطنية والتعايش والمساواة والعدالة الاجتماعية كمنطلق لحفاظ الجميع على الاستقرار والدفاع عن الوطن من أية أخطار خارجية.
   في ظل الأوضاع الراهنة السائدة في بلدان الشرق الأوسط والمحكومة بغالبيتها من أنظمة معزولة عن الشعوب يمارس بعضها الاستبداد والقمع وينتهك الحريات والابادة أحيانا تجاه المقابل المختلف عرقيا وسياسيا ظهر وتكرس انقسام عميق بين خندقي كل من الأنظمة بكل بناها التحتية والفوقية ومؤسساتها ومنظوماتها الادارية والأمنية والشعوب بطبقاتها الاجتماعية وفئاتها ومكوناتها وقواها الوطنية وحركاتها السياسية المعارضة ليس في مجال الخطاب السياسي والثقافي والبرامج والمشاريع والبدائل والصراع على السلطة فحسب بل انسحب على الخيارات الاستراتيجية والمصيرية بما فيها التناقض في تفسير وتعريف مقولة “الأمن القومي والوطني” طارحا بقوة التساؤل التالي: من هو المخول في تحديد معاييرها ورسم حدودها وتشخيص أبعادها مؤسسات وأدوات النظم الحاكمة أم قوى الشعب المقهور ؟
   تؤكد تجربتنا الوطنية السورية على حدوث شرخ عميق منذ عقود يتوسع ويتعاظم يوما بعد يوم بين نهج نظام الاستبداد الحاكم من جهة وبين الشعب السوري بجميع مكوناته وأطيافه من الجهة الأخرى وليس هناك ما يجمع الطرفين المواجهين الا في مخيلة من يحاول الحفاظ على “خط رجعة ما ! ” فالنظام المعزول من محيطه العربي والمرتبط بالمشروع الايراني يرى  دوامه واستمراريته من أولويات “الأمن القومي” ويعتبر خصومه من أطراف وقوى ومجموعات المعارضة الوطنية خونة يهددون الأمن القومي ! واذا كانت غالبية الأطياف المعارضة حسمت خيارها ووضعت مشروعها الوطني الديموقراطي كبديل لنظام الاستبداد عبر تحقيق عملية التغيير الديموقراطي السلمي فمن تحصيل حاصل رفض اطروحات النظام وخطابه السياسي في تعريف الأمن القومي والوطني حول راهن البلاد ومستقبلها وتركيبة الدولة القائمة ودستورها وشعاراتها وحتى حدودها الدولية التي فرط فيها النظام من لواء الاسكندرون الى الجولان المحتل وقوانينها وهيكليتها الأمنية التي شيدت حسب مقاس وعقلية ونهج الحزب الشمولي الواحد والحاكم الفرد الواحد والمنظومة الأمنية المغروسة في صلب خصوصيات حياة السوريين وقد نجد بعض المترددين المحسوبين على المعارضة ما يزال يراهن على اصلاح النظام ويستبشر الخير في الرئيس الشاب وبالتالي يعبر عن موقفه بوضع خطوط حمر واشارات منع المرور ويوحي بالتوافق مع النظام في جملة أمور وقضايا يحظر تناولها أو الاقتراب منها ومن بينها موقف النظام من القضية الكردية دون أي سند واقعي سوى ممارسة لعبة استغلال اسم وموقع المعارضة في أوراقه التفاوضية السرية مع أجهزة النظام الحاكم.
      من الواضح أن غالبية قوى المعارضة الوطنية السياسية الجذرية بمثقفيها ومناضليها تتوافق حول القضايا المصيرية التي تؤسس لسورية الجديدة في اطار المفهوم الجديد “للأمن الوطني” كمدخل لابد منه لتحقيق وضوح الرؤيا حول مفهوم الأمن في المحيطين العربي والأوسع والذي يستند حسب قراءتنا الى الأسس التالية:
 1 – “أمن وطني” يرمز الى درجة عالية من المناعة لدولة سورية الجديدة التعددية الديموقراطية بهويتها الوطنية وسيادتها على كامل التراب الوطني ومن يعيش عليه بدستورها العصري الضامن للاستقرار ولحقوق المكونات الوطنية القومية والثقافية والاجتماعية وصيانة مقدراتها من الأخطار والتحديات من أي مصدر كان.


 2 – “أمن وطني” يجسد دولة الحريات العامة والمساواة والعدل تنتفي فيها كافة صنوف وأشكال الاضطهاد لأسباب قومية ودينية ومذهبية وتسأصل فيها جذور الارهاب والعنف وتجفف ينابيعها المادية والايديولوجية.
 3 – “أمن وطني” يحقق الوحدة الوطنية الصلبة ويؤسس لحل عادل للقضية الكردية يلبي طموحات الشعب الكردي ومطاليبه المشروعة في الاطار الوطني الديموقراطي وضمن سورية ديموقراطية تعددية موحدة وفي ظل دستور توافقي يضمن حقوق الجميع دون تمييز ويمهد لتعزيز جسور الصداقة والاحترام المتبادل بين الشعبين العربي والكردي في المنطقة.
 4 – “أمن وطني” يسعى لاستعادة دور سورية الرائد والايجابي في جامعة الدول العربية والعمل العربي المشترك والتعاون مع الأشقاء وعدم التدخل بهدف الهيمنة والوصاية والابتزاز في شؤون الدول العربية كما يجري الآن حيال الأشقاء في لبنان والعراق وفلسطين.
 5 – “أمن وطني” في سياق علاقات اقليمية ودولية متكافئة بمعزل عن الانخراط في أحلاف ومحاور معادية للسلم والاستقرار وتخدم مصالح الآخرين كما هو متبع راهنا ضمن الحلف الذي يقوده ايران ويضم مختلف جماعات الأصولية الاسلامية.

    ان من أخطر منزلقات البعض من المحسوبين على المعارضة الانحياز المفضوح الى صف سلطة الاستبداد بشأن مفهوم وتطبيقات “الوحدة الوطنية” المتبعة الآن على طريقة النظام والقاضية بعزل واقصاء المكون الكردي وعدم الاعتراف به وجودا وحقوقا وحرمانه وقمعه وقتل أبنائه على رؤوس الأشهاد بين الحين والآخر وقد بلغ الحقد الشوفيني الظلامي لدى هذا البعض من “الشوفينيين الجدد” الى درجة توجيه رسائل لكسب ود أجهزة النظام على حساب الحقوق الكردية المشروعة التي لاتتجزء من حقوق الشعب السوري برمته في الحياة الحرة بدولة المؤسسات والقانون ووطن سعيد فهل يستحق هذا البعض شرف الانتساب الى صفوف المعارضة الوطنية بعد الآن ؟ وهل هو مؤهل سياسيا وأخلاقيا للمساهمة في عملية التغيير الديموقراطي ؟ .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…