تركيا … وماذا بعد الانسحاب ؟

  الدكتور عبد الحكيم بشار


إذا كان التدخل التركي في كردستان العراق واجتياحه لها لم يكن مفاجئاً لأحد على ضوء جملة من القرارات والتصريحات منها قرار البرلمان التركي بتفويض الجيش للقيام بعلية عسكرية في كردستان العراق لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني (الهدف المعلن) وتصريحات المسؤولين الأتراك بهذا الشأن خاصة رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية والتحركات والتحشدات العسكرية على حدود الإقليم كل ذلك كان جلياً وكان الاجتياح متوقعاً وقد حصل فعلاً إلا أن الذي لم يكن متوقعاً بل فاجأ معظم دول العالم وحكوماته وساسته ، هو الانسحاب المفاجئ للجيش التركي، فحتى في اليوم السابق للانسحاب كانت تصريحات جميع المسؤولين الأتراك تؤكد أن لا جدول زمنياً للانسحاب وأن العمليات العسكرية مستمرة ، وأن الشريط الحدودي للعراق طالما هو غير خاضع لسيطرة الحكومة المركزية والحكومة الإقليمية فإن من حق تركيا البقاء فيه للحفاظ على أمنها ؟  غير أن التصريح الوحيد الذي صدر في اليوم السابع من الاجتياح عن رئيس الأركان التركي أن هناك تباطؤاً في العمليات العسكرية بسبب كثافة الثلوج المتساقطة ، وفي اليوم الثامن وبدون مقدمات قرر رئيس هيئة الأركان التركية انهاء العمليات العسكرية وانسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية بعدما نفذت مهمتها (حسب تصريح المسؤول التركي)؟!.

إذاً القوات التركية نفذت مهمتها حسب تصريح المسؤول التركي ؟؟ ولكن السؤال المطروح أو الأسئلة المطروحة : ماذا كانت مهمة القوات التركية وأهدافها من هذا الاجتياح ؟ وهل حققت تلك الأهداف فعلاً ؟ وما هي السيناريوهات المحتملة والكامنة وراء هذا الاجتياح والانسحاب المفاجئ ؟

1- إن الهدف المعلن لهذا الاجتياح هو القضاء على قواعد حزب العمال الكردستاني ، بل القضاء على الخطر الذي يهدد أمن تركيا ؟؟ فالكل يدرك أن حزب العمال الكردستاني قد غير استراتيجيته بشكل نوعي من الدعوة إلى إقامة دولة كردية مستقلة تضم كردستان تركيا وإيران والعراق ، إلى الدعوة إلى اقامة دولة ديمقراطية في تركيا ، وإن الحزب أعلن الهدنة ووقف العمليات العسكرية من طرف واحد ولمرات عدة ولفترات طويلة ، وإنه تحول من حالة الهجوم على الأهداف التركية إلى حالة الدفاع عن النفس ، وبهذا المعنى فإن العمليات العسكرية لحزب العمال الكردستاني لم تعد تشكل خطراً على تركيا وتهديداً لأمنها (كما تدعي) ، كما أن تركيا اجتاحت كردستان العراق مرات عدة بحجة القضاء على عناصر حزب العمال ، ولم تنجح فيها وكذلك هذه المرة أيضاً ، ولن تنجح البتة طالما تفكر بالعنف كاستراتيجية لها في التعامل مع القضية الكردية أو البعض من جوانبها لأن العنف لا يمكن أن يولد إلا العنف .

2- إن تركيا تعيش أزمة داخلية مستمرة فمنذ وفاة أتاتورك والجيش نصب نفسه حامياً للعلمانية والكمالية والديمقراطية في تركيا وبالتالي نصب من نفسه مطرقة على رأس جميع الحكومات التركية ومهيمناً على قراراتها الاستراتيجية ، أي أن على الحكومات التركية أن تلتزم بمبادئ الدولة التركية (العلمانية) ، وان أي تجاوز لها يمنح الحق للجيش بالتدخل وإسقاط الحكومة ، وكثيرة هي الحكومات التي اسقطتها الجونتا التركية وهذه الأزمة لا تزال مستمرة ومتفاقمة ، فالعديد من الحكومات التركية حاولت التخلص من هيمنة الجيش ولكن لم تستطع ، وحالياً فإن الحكومة التركية الحالية تبدو قوية بموازين القوى السياسية والمعادلات الديمقراطية الداخلية ، فقد حصلت على أغلبية في البرلمان تخولها لتشكيل حكومة بمفردها على خلاف جميع الحكومات السابقة والتي كانت تضطر إلى تشكيل تحالفات عدة مع العديد من الأحزاب ، لذلك كان رؤساء تلك الحكومات يعانون من ضعف حقيقي داخل البرلمان ، ونفس الشيئ بالنسبة لرئيس الجمهورية ، الذي ينتمي إلى نفس الحزب مما أكسب الحكومة قوة دستورية برلمانية ، وقوة جماهيرية إضافة إلى أن هده الحكومة قد حققت تنمية اقتصادية استثنائية في تركيا يضاف إلى ذلك نهجها السياسي (الإسلام المعتدل) والذي بات مطلوباً أمريكياً وأوربياً بل عالمياً لمواجهة التيار الإسلامي المتطرف ، كل هذه المزايا تجعل من حكومة أردوغان حكومة قوية بكل المقاييس ، ولكن لا تزال الجونتا التركية (راعية الكمالية) تحافظ على قدر كبير من قوتها وموقعها وهي تسعى إلى عرقلة العديد من سياسات واستراتيجيات الحكومة من جهة ، وعلى خلق بؤر توتر واضطراب تمنحها المزيد من الصلاحية والمزيد من القوة تجعلها ندية للحكومة بل لتتفوق عليها في بعض القضايا ، ويأتي الاجتياح التركي لكردستان العراق كأحد تجليات هذه الأزمة الداخلية (أزمة الصراع بين المؤسسة المدنية القوية ، والمؤسسة العسكرية التي تسعى إلى الاحتفاظ بقوتها ودورها) كما في عهد الحكومات السابقة.

3- عرض واستعراض للقوة : الأوضاع الإقليمية تشهد توتراً وتصعيداً متزايدين ، واتسعت هوة الخلافات والصراعات وتعمقت بشكل ينذر بنشوب حرب إقليمية واسعة في أي لحظة قد تكون كارثية إذا أخطأ أحد أقطاب الصراع الإقليمي حساباته ، أو اتجه ولو خطوة واحدة باتجاه التصعيد ، لأن التوتر قد أوصل بأقطاب الصراع إلى حالة التماس المباشر، وإلى مرحلة تنذر بالصراع المباشر في أي خطوة غير محسوبة حتى أن شرارة ما قد تكون سبباً كافياً في اندلاع حرب إقليمية ، ورغم وجود العديد من القضايا الاستراتيجية في المنطقة والتي لم تجد طريقها إلى الحل مثل القضية الكردية والفلسطينية والجولان المحتل… إلخ إلا أن أكثر البؤر توتراً وترشيحاً للتوتر والتصعيد هي الساحة اللبنانية والملف النووي الإيراني والقوى الإقليمية المرتبطة بشكل مباشر بهاتين القضيتين ، ومن هذا المنطلق ، وباعتبار أن تركيا خارج نطاق التحالفات المباشرة المرتبطة بهذه البؤر فإن عليها أن تلعب دوراً إيجابياً على الصعيد الإقليمي وذلك بالمبادرة على حل مشاكلها الداخلية ، ونعني بها القضية الكردية حلاً ديمقراطياً عادلاً عبر الحوار مع ممثلي الشعب الكردي مع القناعة التامة بأن حل القضية الكردية سيعزز من موقع تركيا ودورها على الصعيد الإقليمي والدولي ، وسيحقق قدراً أكبر من الاستقرار الأمني والاقتصادي فيها ، وسيمنحها القدرة والفعالية للقيام بدور إيجابي في تهدئة التوتر الإقليمي ولعب دور الوسيط في حل قضاياه ، ولكن مما يؤسف له فإن تركيا وإزاء هذه المعمعة لجأت إلى استعراض القوة وعرض العضلات بغية توجيه رسائل مفادها أن الجيش التركي يملك من القوة والمقدرة لسحق أي توجه يعارض أو يخالف توجهاتها ، وأن الجونتا التركية لاتزال تحتفظ بدورها المحوري في قيادة المفاصل الاستراتيجية لتركيا بغض النظر أي من الحكومات تحكم تركيا ، ورسالة إلى إقليم كردستان العراق مفادها بأن تركيا لن تسمح لهذا الإقليم بالمزيد من التطور والازدهار والاستقرار ، ولن تسمح بتأثيراته الإيجابية على دول الجوار (الدول التي تقتسم كردستان) ولن تسمح للشعب الكردي وقادته أن يلعبوا دوراً وطنياً أساسياً في العراق أو دوراً إقليمياً بارزاً .

4- منع تطبيق المادة 140 أو عرقلة تطبيقها أو تعديلها بما يحقق المصالح التركية وبالضد من إرادة الكرد .

ورسالة إلى الدول الإقليمية بأن تركيا دولة قوية وقادرة ليس فقط على حماية حدودها وسيادتها ، بل قادرة على القيام بدور هام خارج حدودها ، ولكن يبدو أن ذلك العرض والاستعراض للقوة قد فشل في تحقيق نتائجها سواء كانت السياسية منها أو العسكرية حيث بدا الجيش التركي ضعيفاً وهزيلاً وغير قادر على هزيمة عدد قليل من المقاتلين الكرد مما أفقد الجيش التركي قسماً كبيراً من هيبته.

5- ضرب التجربة الفيدرالية: نعتقد بل نكاد نجزم أن أحد الأهداف الرئيسية للاجتياح التركي لكردستان العراق هو إجهاض التجربة الديمقراطية الفتية ، وإذا كانت مختلف الظروف لا تسمح بتحقيق ذلك فإن عرقلة تطور التجربة ، وخلق الاضطراب ، ومنع الاستقرار فيها ، ومنع تأثيراتها الإيجابية على الأجزاء الأخرى وخاصة تلك الدول التي تتقاسم كردستان ، يكون هدفاً مهماً وأساسياً إضافة إلى أهداف أخرى لا تقل أهمية وهي تحجيم دور كرد العراق وقادتهم إلى الحد الذي يجعل دورهم ثانوياً وغير فاعل لا على المستوى الوطن العراقي ولا على المستوى الإقليمي بحيث تصبح الفيدرالية مجرد اسم ليس إلا.

6- وهناك احتمال وارد ، وتأتي إمكانيته إذا كان فعلاً أن القادة الأتراك (حزب العدالة والتنمية) لديهم تفكير استراتيجي بعيد المدى لخدمة دولة تركيا على المدى البعيد ، وهذا الاحتمال يستند على إعطاء الجيش فرصة أخيرة للقضاء على ما يسمونه تهديد حزب العمال الكردستاني ، وفي حال فشله في تحقيق ذلك – وهذا مؤكد – باعتبار أن العنف الذي تمارسه تركيا ضد الكرد لا يولد إلا العنف ، وفي هذه الحالة يمكن للمؤسسة المدنية إذا كانت تتحلى بالجرأة الكافية أن تأخذ قراراً تاريخياً لصالح تركيا أولاً والمنطقة ثانياً وذلك بإبعاد الجيش عن ملف القضية الكردية بشكل نهائي والبدء بحوار جدي حول القضية الكردية مع ممثلي الشعب الكردي في كردستان تركيا ، وحينها سيجد الساسة الأتراك أن يد الكرد ممدودة لهم ليس في كردستان تركيا بل أيضاً القادة في كردستان العراق كما صرح بذلك السيد الرئيس مسعود البارزاني في أكثر من مناسبة باستعداده لمساعدة تركيا إذا اعتمدت منهج الحوار لحل القضية الكردية.

إن المتتبع لتطورات الأحداث يمكنه أن يستنتج بسهولة فشل تركيا الذريع سياسياً وعسكرياً في حملتها الأخيرة ، فهي لم تحقق القضاء على تهديد حزب العمال الكردستاني ، وفشلت في استعراض القوة العسكرية ، وكذلك في التأثير على الوضع في كردستان العراق ، فقط إذا كان الاحتمال الأخير هو المنطلق لدى الساسة الأتراك فيمكن القول بنجاح سياستهم وما عداه فمهما كانت أهدافها فإنها فشلت في تحقيقها ، وأعتقد لم يبق أمام الساسة الأتراك بعد هزيمتهم (أعني هزيمة العسكر) إلا استكمال هزيمة العسكر داخلياً واللجوء إلى الحوار لحل القضية الكردية حلاً عادلاً .

 

في 10/3/2008

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…