فوزي الاتروشي*
قبل (38) عاماً تهيأ للعراق ان يكون بوابة مشرعة لرياح التغيير الديمقراطي وسنحت له الفرصة لوقف الاستنزاف البشري والاقتصادي والمعنوي من خلال ايقاف نزيف الدم في كوردستان, وعبور ضفة المستحيل الى الممكن بالتوقيع على اتفاقية الحادي عشر من آذار التي جهزت الارضية الصلبة لحل اكبر معضلات العراق وهي القضية الكوردية.
ونذكر جميعاً ان شاعر العرب الاكبر الجواهري كتب حينها قصيدة رائعة في (125) بيتاً تغنى فيها بالسلام والتآخي وببطولة ونبل البارزاني الخالد حين قال عنه :
عملاق جنٍّ في الحــــروب ودعلـــــجٌ
في السلم يحمي الجلــــد بالنشــــــــاب
ومضى قائلاً بحكمة ودراية فائقتيـــن :
يعيــــــــا الجحيم بأن يسعِّـــر أمة ً..
فـــــاذا هي اختلفت فعود ثقـــــــــــاب
واذ نعود بالذاكرة الى تلك الايام وننعش فيها يوميات ذلك الزمن نستخلص قيمة اساسية هتكها النظام الدكتاتوري السابق مع سبق الاصرار وهي التملص من العهود والوعود ونقض الاتفاقية من الاساس واعلان الحرب مجدداً في آذار 1975 وشن أكبر حرب عنصرية بغيضة على كوردستان العراق اقترنت بالجينوسايد المادي والمعنوي والثقافي والبيئي باعتراف اجماع المنظمات الحقوقية الدولية, ولا سيما منظمة مراقبة حقوق الانسان في الشرق الاوسط التي اصدرت كتاباً ضخماً بالانكليزية عام 1995 حول تفاصيل جرائم الانفال وحلبجة.
وكان يمكن تلافي كل ذلك وتوفير انهار من الدماء والدموع لو ان الحكومة العراقية اتصفت انذاك بشئ من الحكمة والعقلانية والسلوك البراغماتي في الحكم, ولو انها ادركت ان الحديد والنار لا يفلاَّن ارادة الشعوب, وانما يزيدانها اشتعالاً وتحدياً واصراراً على المقاومة.
كان الطرف الكوردي منذ البداية صادقاً في طرح الحلول لمشكلة مستفحلة في حين كان الطرف الحكومي ينشر الكلام المعسول مقروناً بسموم النوايا, ونتذكر ان البارزاني الراحل كان يشك في النوايا ويدرك ان الحكومة العراقية قد تنقلب على كل بنود تلك الاتفاقية المفصلية في تاريخ النضال التحرري الكوردي, ولذلك صرَّح حينذاك لصحيفة “المصور” المصرية ما مفاده انه قلق ويتوجس خيفة من نقض الحكومة لالتزاماتها وذلك ما حصل بالفعل.
اليوم ونحن نعود الى الوراء نعلم كم كانت تلك الاتفاقية مهمة في التاريخ الكوردي ووضعت الاساس السليم لحل القضية الكوردية في العراق لغاية عام 1992 حين قرر البرلمان الكوردستاني رفع السقف المطلبي الكوردي من الحكم الذاتي الى الفيدرالية لأسباب موضوعية وذاتية يقف على رأسها التطور الحاصل في النظام الدولي الجديد وتحول الحكم الذاتي المسخ الذي طبقه النظام على هيئة حرب عنصرية في الخفاء تحت غلالة ما سمته الحكم الذاتي للتعتيم على العالم كله.
والسبب الاخر ان الفيدرالية فيها من الضمانات والآليات التي تمنع تحكم المركز بالاقاليم ما يعني انعدام فرص قيام المركز مجدداً بشن حملات عسكرية على كوردستان.
لقد عززت اتفاقية آذار الوضع الكوردي و أرست علاقة خضراء بين الشعبين الكوردي والعربي وانتزعت الاعتراف لأول مرة بوجود الكورد كقومية ثانية في العراق ليرد ذلك بنص واضح في الدستور العراقي .
كما كانت الاتفاقية مرتكزاً للانفتاح على مجمل القوى الديمقراطية والوطنية العراقية حيث انفتحت أفاق للحوار معها واصدرت بعض الاحزاب صحفها الخاصة بها , وشكلت صحيفة “التآخي” آنذاك منبراً اعلامياً مؤثراً بأتجاه تعميق التحالف الكوردي العربي وعرض مجمل الهموم والشؤون الكوردية والعراقية على صفحاتها.
واستدعت الاتفاقية الاقدام على جملة من الخطوات الانفتاحية على القوميات الاخرى في العراق كالتركمان والكلدوآشور والسريان حيث صدرت قوانين لمنحها الحقوق الثقافية وتأسست مديريات للثقافة تبعتها اصدارات بهذه اللغات القومية.
واليوم اذ نعيش اجواء عملية سياسية متعثرة ونعاني من التأخير والمماطلة في مجمل الملف الكوردي في العراق والاستحقاقات الكوردية والعراقية, نتذكر هذه الاتفاقية بمزيد من الشوق نحو مستقبل اكثر اشراقاً للقضية الكوردية في العراق, ونتطلع الى ان تصبح التجربة الكوردية وحكومة وبرلمان اقليم كوردستان اكثر رسوخاً في الارض واكثر قرباً من المواطن ومن الجذور الاساسية التي نمت وترعرعت عليها الحركة التحررية الكوردية.
*كاتب ومحلل سياسي