أما آن لأم الجَعَارِ (*) الإمتثال لمنطق الحِوار ؟

علي الجزيري

 

الغزو التركي لكردستان موغل في القدم ، فهو يعود ـ على أقل تقدير ـ الى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي ، منذ أن راود فلول الطورانيين (الأرغوز) القادمين من أقاصي الشرق ، ممن زحفوا كأسراب الجراد وهي تأكل الأخضر واليابس ، حلم الإجتياح غرباً .

أما العدوان التركي على إقليم كردستان العراق اليوم والذي تم بضوء أخضر من واشنطن وتواطىء إقليمي لايخفى على كل متتبع ، فهو بدوره حلقة من مسلسل الإجتياحات التركية المتكررة لأراضي الإقليم منذ العهد البائد ، له أبعاده التكتيكية أيضاً ، التي تخدم في النهاية الأمن الإستراتيجي للأنظمة التي تقتسم كردستان ، الذي يتوخى وأد طموح الكرد منذ الحرب العالمية الأولى ، في التحرر والإنعتاق من النير القومي.

 

  جدير ذكره ، ان الكرد ـ وهذ ليس سراً ـ وقفوا الى جانب العثمانيين منذ بداية تأسيس إمبراطوريتهم ، لكنهم كوفئوا بتحويل إماراتهم المتعددة الى أنقاض، أما الذين دعموا صروح الدولة التركية ، تلك التي أقامها الذئب الطوراني أتاتورك على جماجمهم ، فقد خُيبت آمالهم أدراج الرياح بعد ان عُلقت أجسادهم على أعواد المشانق ، وهاهم الكرد اليوم لا يحصدون سوى الندم من تحالفهم مع الثعلبين (غول ـ أردوغان) المتمسحين برداء الاسلام ، واللذين لايتورعان عن إعداد التوليفة القديمة / الجديدة (عجينة الاسلام التركي بخميرة ايديولوجيا أتاتورك هذه المرة طبعاً)، بعد أن سبقهما ما يسمى باليسار التركي في إعداد توليفة مشابهة في العقود المنصرمة ، أعني عجينة قوامها الماركسية الممزوجة بالمنطلقات النظرية لأتاتورك ، وكأن التاريخ يعيد نفسه.

مما يدعوني الى القول بأن الحركة الكردية في كردستان تركيا أيضاً لم تتعظ بعد ، بدليل أنها لدغت من ذات الجحر مرات ومرات ، ولم تفطن مثلاً لما قد يسببه تواجد مقاتلي حزب العمال الكردستاني في الطرف الآخر من الحدود من نتائج وخيمة لإخوتهم في إقليم كردستان العراق.

من هنا كان يتوجب ـ بقناعتي ـ على هذا الحزب تقدير الظروف الآنفة الذكر ، والإمتثال لمنطق الواقعية السياسية ، بغية تجريد تركيا من تلك الذريعة الواهية التي تتذرع بها دوماً أمام الرأي العام العالمي وكأنها الضحية وليس الجلاد ، رغم قناعتنا بأن تركيا لن توفر فرصة في المستقبل لإجهاض التجربة الفيدرالية في كردستان العراق والانقضاض عليها أو زعزعتها ، إن إستطاعت الي ذلك سبيلاً.

هذا من جهة ، أما من جهة أخرى ، فقد طرأت تطورات عميقة على المشهد السياسي العالمي بعد إنتهاء الحرب الباردة وإنهيار الاتحاد السوفييتي وجدار برلين ، بحيث بات الإحتكام الى إستخدام السلاح ليس ضرباً من ضروب إرهاب الدولة الممارس ضد الكرد على أكثر من صعيد فحسب ، بل مؤشراً على عدم قدرة الأنظمة التي تحكم اليوم بقبضتها الأمنية على شعبنا الكردي وفي مقدمتها النظام القائم في تركيا ، على إستنطاق التاريخ وإتخاذ العبر والدروس من صيرورته (درس العراق مثلاً) ، فضلاً عن دأب هذه الأنظمة في تجاهل القضية الكردية بأي ثمن ، وعدم الرضوخ لمبدأ حق تقرير المصير لشعب ينوف تعداده على (40 م .

ن).

فجوهر القضية الكردية ـ كما يقول رئيس إقليم كردستان العراق ، الأخ مسعود البارزاني ـ يعود الى :[ التناقض بين المستوى المتنامي للوعي القومي عند الكرد ، الذي يعبر عن نفسه في النضال العنيد من أجل الحقوق القومية التحررية ، وعدم رغبة الأوساط الحاكمة للبلدان التي تقتسم كردستان ، بالحقوق الشرعية للشعب الكردي] (مجلة النهج ، العدد 23 / 24 ـ عام 1989 م).

ما أود الإشارة اليه في هذا السياق ، هو أن تركيا ما زالت ـ كعادتها ـ تعتكز على (فقدان المناعة) الذي كان يتسم به المجتمع الكردي في تركيا فيما مضى في مواجهة أساليب الترغيب والترهيب تارة أوالتضليل الذي كانت تمارسه المؤسسات الإعلامية التركية بغية حجب الحقائق تارة أخرى .

لكن تركيا التي تصلبت شرايينها ، تعيش مأزقاً حقيقياً اليوم ، حيث الفساد ينخر بنيانها أولاً ، والكابوس الكردي بات يثقل كاهلها ثانياً ، لأن التكاليف المادية للحرب في كردستان تركيا تتجاوز ( 10) مليار دولار أمريكي سنوياً ناهيك عن تكاليفها المعنوية ، كما أن ملف مجازر الأرمن ما زال ينتظرها في الأدراج ثالثاً.

ورغم ذلك فهي ما زالت تتخبط في سياستها التقليدية ، وتتردد بين اللجوء الى العنف في مواجهة القضية الكردية العادلة وبين الإقدام على حوار سلمي وفق منطق العصر، هذا المنطق الذي بات يقتضي بالضرورة إجراء إصلاحات جذرية عاجلة لا تحتمل المزيد من المراوغة أو التأجيل فيما يخص الملف الكردي على نحو التحديد ، سيما وأن تركيا تتطلع ومنذ فترة طويلة في الانضمام الى الاتحاد الأوربي ، ولم تسعفها عضويتها في حلف الناتو في شق الطريق اليه.

لقد تنبأ (مصطفى كمال) ذاته ـ كما يقول ( اسماعيل بيشيكجي في كتابه القيم : كردستان مستعمرة دولية) ـ  بتفاقم هذه الأزمة ، منذ أن ألقى في الثلاثينات خطاباً أمام أعضاء جمعية تاريخ تركيا ، وتساءل يومها : لماذا خسرنا البلقان ؟ .

ثم ما لبس أن قدم بنفسه الإجابة على ذاك السؤال ، مبيناً أن شعوب البلقان حين إنكبت على إعداد دراسات عن آدابها ولغاتها وتاريخها وثقافاتها ، تولد لديها وعي قومي ، ساعدها على النهوض ضد الامبراطورية العثمانية .

وكأني به كان يستشرف آفاق المستقبل للقضية الكردية في الوقت نفسه ، ويتوقع خروج المارد من قمقمه ، ليكشف زيف إدعاءات أحفاده ويزيح مسوح الاسلام عن عوراتهم.

ما من شك أن أنقرة قد تتمكن من تجفيف البحر ، لكنها ـ كما يقول يشار كمال ـ لن تنجح في إصطياد الأسماك .

فليس من المنطق أن يتباكى الأتراك على مصير الأقلية التركية في بلغاريا ، ويغضوا الطرف عن مأساة ما يزيد عن (30 م .

ن ) من الكرد المجردين من أبسط حقوقهم القومية في تركيا ، ولا يمكن لكل ذي بصيرة أن يركن في ظل ثورة الإتصالات التي أذابت الثلج وأبانت المرج ، لإزدواجية المعايير التركية هذه بأي شكل من الأشكال.

 

*أم جَعَار : اسم للضبع لكثرة جعرها (المنجد في اللغة والأعلام)

 

  قامشلي ـ في 9 آذار 2008 م

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…