تركيا بين الكمالية والديمقراطية

درويش محمى
 
أول ما يكتشفه المتصفح للدساتير التركية المتعاقبة, الحرص الشديد للمشرع التركي على الحضور القوي “للزعيم الخالد والبطل المنقطع النظير – كما ورد في مقدمة الدستور التركي لعام 1982- كمال اتاتورك”, ولم يقتصر تأثر المشرع التركي بقيم ومبادئ مؤسس تركيا كمال اتاتورك, ومنطلقاته الفكرية المفعمة بالنزعة القومية الطورانية المتطرفة والولع الشديد بالغرب, بل وصل الى حد الانبهار بالسيرة الحياتية والوظيفية للقائد, وعلى وجه الخصوص صفته العسكرية, لذا نجد المشرع التركي وهو يفصل في فقرات ومواد الدستور التركي, شديد الكرم مع جنرالات بلاده ومؤسستهم العسكرية
فاتاتورك الرمز هو الحاضر الدائم في الوجدان القانوني التركي, ففي فكره وجد المشرع الخلاص للامة التركية, وعلى طريقته فقط يمكن الحفاظ على المكانة اللائقة لتلك الامة, بعبارة اخرى, المشرع التركي اعتمد الطريقة السلفية العقيمة في التقيد بالشرع الاتاتوركي, فلم يقتصر على الالتزام بفكر القائد بل قلده في التصرف والفعل .
الانظمة والقوانيين الدستورية التي وضعها المشرع التركي تماشياً مع الاتاتوركية, بنزعتها القومية المتطرفة من جهة, وتقليد الغرب ومجاراته من جهة اخرى, جعل من الدستور التركي خليطا متناقضا غير منسجم, وهذا التناقض بحد ذاته يفسر بقاء تركيا الى يومنا هذا, على مفترقات طرق صعبة وعديدة, فتركيا لاتنتمي الى الشرق كما انها لاتنتمي الى الغرب, وهي ليست بالدولة الاستبدادية الخالصة ولا هي بالدولة الديمقراطية, كما انها ليست اسلامية ولا علمانية حقيقية, وتركيا لا تزال تحلم بدخول جنة الاتحاد الاوروبي, في الوقت الذي تتبنى سياسات قومية استبدادية, ويحكمها دستور قامع للحريات بجميع اصنافها, الفردية والجماعية والدينية والاثنية .
التداول السلمي للسلطة وحرية تشكيل الاحزاب السياسية وحرية تكوين الجمعيات النقابية والانتخابات الحرة والصحافة المستقلة, مظاهر ديمقراطية نجح الاتراك في ترسيخها وتفعيلها في الحياة السياسية التركية, وعلى الارجح, كان للغرام الاتاتوركي الجارف للغرب المتطور, التأثير البالغ على تحقيق تلك الانجازات الهامة في تركيا, لكن في المقابل, تفشي النزعة القومية المتطرفة, سواء على صعيد النخبة السياسية والمثقفة او على الصعيد الشعبي, بالاضافة الى اعتبار الاتاتوركية مصدرا دائما وثابتا للتشريع في تركيا, شكلت في السابق وتشكل اليوم, عقبة حقيقية قوية امام تحقيق الدولة الديمقراطية, والعقيدة الاتاتوركية التي بفضلها تم تشيد الجمهورية التركية, اصبحت عائقاً خطيراً امام تطور وتقدم المجتمع التركي, وقد فطن البعض من الساسة واساتذة الجامعات والمفكرين الليبراليين والصحافيين والكتاب الترك, لتلك الحقيقة البديهية في الثمانينات من القرن الماضي, الامر الذي دفع ببعضهم الى اصدار دعوات صريحة لبناء الجمهورية التركية الثانية, في اشارة لضرورة التخلص من الارث الاتاتوركي ومايشكله من عبئ ثقيل على تقدم تركيا, تلك الدعوات لا تزال قائمة, وان كان التيار الاسلامي الحاكم في انقرة, هو الاكثر قدرة لبناء مثل هذه الجمهورية حسب المعطيات الانية.
امتيازات الجيش التركي الدستورية, وتدخله المستمر في الحياة السياسية, وقمع الحريات, والخرق اليومي لحقوق الانسان, والقوانين الكثيرة التي تحد من حرية التعبير, كالمادة الدستورية 301 على سبيل المثال لا الحصر, وانكار وجود قومية ثانية في البلاد يبلغ تعداد نفوسها 20 مليون كردي, وعدم الاعتراف الصريح بمذابح الارمن, وارهاب وقمع الكتاب والمفكرين اللااتاتوركيين, عقبات تواجه الديمقراطية التركية, وتشكل معضلة حقيقية تحتاج الى حلول حاسمة من قبل الطبقة السياسية التركية, لكن اقوى تلك العقبات على الاطلاق, هو عدم توافر الارادة الحقيقية الصادقة التي تؤمن بالديمقراطية نهجاً وممارسة, فالتحول الديمقراطي عملية شاملة وحزمة متكاملة لا انتقائية, لتحقيقها لا بد من انتهاج سياسة مدنية عصرية متسامحة, واجراء عملية تنقية للدستور التركي من الشوائب الاتاتوركية, واجراء تغييرات جوهرية فيه, وعدم الاكتفاء بتغيير بعض المواد بشكل انتقائي, والمحاولات التي اقدمت عليها تركيا الى اليوم, لا تصل الى المستوى المطلوب لاجراء تغيير حقيقي في البنية السياسية والقانونية للبلد, ولا تتعدى عن كونها محاولات لتجميل صورة تركيا للانضمام الى مجموعة دول اوروبا المرفهة .
من الصعوبة بمكان, معرفة ما تحمله المرحلة المقبلة من تطورات في قضية الصراع بين الكمالية والديمقراطية في تركيا, بالرغم من تصويت الناخب التركي باغلبية مطلقة للاسلاميين غير الكماليين مؤخراً, فالصراع بين الطرفين لايحسم وفق ارادة الناخب وحسب, بل يخضع لمعادلات اخرى مؤثرة, والجيش التركي هذا الرقم الصعب لا يزال يعتبر عاملا قويا في تحديد نتائج هذا الصراع, حيث يتحرك – كما عهدنا من قبل –  في اللحظة الاخيرة للقضاء على كل من تسول له نفسه انهاء الحقبة الاتاتوركية, والشارع التركي نفسه رغم عزوفه عن الاتاتوركيين والاحزاب القومية اليمينية منها واليسارية, الا انه معجون بالفكر الاتاتوركي, وربما يكون الدافع وراء اختياره الاخير, النزاهة والجدارة التي ابداها حزب العدالة والتنمية التركي في فترة حكمه السابقة, وفي كل الاحوال من غير الممكن الجزم, بان اختيار الناخب التركي الاخير للااتاتوركيين يعني تخليه عن الاتاتوركية بشكل تام .
اولى محاولات دمقرطة تركيا, جرت في الخمسينات من القرن الماضي, على يد السيد عدنان مندريس رئيس الوزراء التركي الاسبق, صوت له الناخب التركي بنسبة 62 بالمئة, ليعدم العام 1960 على يد الاتاتوركيين من جنرالات الجيش التركي, بتهمة الانقلاب على الاتاتوركية, كذلك الحال بالنسبة لرئيس الوزراء التركي السابق توركوت اوزال, فقد تعرض هو الاخر لعملية اغتيال فاشلة من قبل القوميين الترك, ولازالت الشكوك قائمة على تورط الاستخبارات التركية “ميت” في موته المفاجئ, هذا عن ماضي تركيا والصراع بين الديمقراطيين والاتاتوركيين, اما اليوم وبعد وصول حزب العدالة والتنمية الاسلامي التركي الى الحكم, وسيطرته على مفاصل الحكم الثلاث في تركيا, رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية والبرلمان التركي, يبدو ان الصراع بين الديمقراطيين والاتاتوركيين, سيأخذ منحي اخر, فالعوامل الدولية والاقليمية تختلف اليوم عن الخمسينات من القرن الماضي, والزمن لم يعد زمن الحرب الباردة, والاتاتوركية بحكم الزمن والتجربة اثبتت عقمها وفشلها, والرغبة في الانتماء الى الغرب المتطور جامحة وقوية, لكن يبقى السؤال الاهم على الاطلاق والمؤثر على نتائج الصراع بين الكمالية والديمقراطية في تركيا, يدور حول حقيقة نوايا الاسلاميين الترك, وهل هم بالفعل اصحاب اجندة ديمقراطية ? وهل حقاً صراعهم مع الاتاتوركيين صراع حريات وديمقراطية ام صراع عقائدي ?
لاشك, ان منع المحجبات من الدخول الى الحرم الجامعي والدوائر الرسمية بحكم القانون, شكل مظهراً فظاً للفاشية الاتاتوركية وخرقاً فاضحاً للحرية الفردية وحق المساواة, وقيام حزب العدالة والتنمية التركي, باجراء اول تغيير دستوري يعيد لشريحة واسعة من المحجبات حقهم المهدور في التعليم والتوظيف لدى مؤسسات الدولة الرسمية, كانت خطوة على الطريق الصحيح, لكن في نفس الوقت, يشكل اختيار مسألة الحجاب حصراً دون غيرها من القضايا الكثيرة المهمة والملحة التي تستوجب التغيير في الدستور التركي, يشكل سبباً وجيهاً للتشكيك في النوايا الحقيقية لرجب طيب اردوغان وحزبه .
الشعور الدائم الذي كان ولايزال, يتملك التركي كونه دخيل على منطقتنا, شكلت لديه عقدة نقص مزمنة, جعلت منه عرضة للتعصب والتطرف القومي اكثر من غيره, وبفضل تلك العقدة السيكولوجية التي تعود الى اكثر من 900 عام تقريبا, يمكن فهم تفشي نزعة المغالاة القومية الحادة لدى الشارع التركي العريض, وانصياعه للقيم الاتاتوركية كل هذه الفترة, والخشية كل الخشية ان يكون دعاة التغيير من الاسلاميين الاتراك, يعانون من نفس العقدة, بالاضافة لعقدة الخلافة الاسلامية – العثمانية التي اوصلت اسلافهم لمشارف فيينا, وحكموا بأسمها الشرق الاوسط والادنى وشمال افريقيا مايقارب الخمسة قرون, والخشية ان يكون انتمائهم العقائدي اقوى من ايمانهم بالديمقراطية, وتبقى تركيا اسيرة الاتاتوركية والنزعة القومية المتطرفة الى اجل اخر .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…