دهام حسن
إن الحركة التقدمية العربية، أو ما اعتدنا على تسميتها باليسار العربي، ترى ما حالها اليوم ؟ هل هي ما تزال في غفوة.؟ أم هي في بداية صحوة ونهوض، وبصدد استئناف طريقها النضالي؟ كما عهدناها في سنوات الحرب العالمية الثانية، وما بعدها بعقدين، من القرن الماضي..
هل انهيار ما عرفت بالمنظومة الاشتراكية، سبّب كل هذا التراجع، والانكفاء على الذات، ومن ثم الانحسار إذا ما غالينا قليلا ؟ كيف نفسر هذا المد الأصولي الإسلامي، كحركة سلفية ما ضوية، ونحن نؤمن، أن لا مستقبل لها على المدى البعيد، في الوقت الذي نشهد سبات اليسار ؟
إن الحركة التقدمية العربية، أو ما اعتدنا على تسميتها باليسار العربي، ترى ما حالها اليوم ؟ هل هي ما تزال في غفوة.؟ أم هي في بداية صحوة ونهوض، وبصدد استئناف طريقها النضالي؟ كما عهدناها في سنوات الحرب العالمية الثانية، وما بعدها بعقدين، من القرن الماضي..
هل انهيار ما عرفت بالمنظومة الاشتراكية، سبّب كل هذا التراجع، والانكفاء على الذات، ومن ثم الانحسار إذا ما غالينا قليلا ؟ كيف نفسر هذا المد الأصولي الإسلامي، كحركة سلفية ما ضوية، ونحن نؤمن، أن لا مستقبل لها على المدى البعيد، في الوقت الذي نشهد سبات اليسار ؟
أما نلمس أن الظروف القاسية تعصف بالطبقات الدنيا من المجتمع العربي، دون أن يحرك النظام العربي الفاسد ساكنا، ودون أن يبذل أي جهد لمواجهته.؟ أما آن لليسار أن يترجل، وينزل إلى ساحة النضال.؟ أم ترى أنني بتساؤلاتي هذه، أدور في دوامة الطوباوية، أو كمن يدق في الماء.؟ كما يقول المثل الشعبي..
إن الواقع يطرح أسئلة عديدة، تثير حميّة كلّ من المتأمل، والمعني، والمكابد..
فاليسار العربي ـ برأيي ـ لتاريخه، لم يستطع الفكاك من إسار الماضي، فهو ما زال على سجيته النضالية، وشعاره المعروف ( يسقط الاستعمار)، وحسبك هذا الشعارـ برأيهم ـ هوية تزكيه مهما تلونت به مشارب النضال، وتنوعت؛ هذا ما كان يتميز به اليسار، وربما كان ينفرد في هذا المضمار، ويتقدم على سواه؛ إن اليسار الماركسي، عليه أن يدقق في كثير من المبادئ والمفاهيم النظرية اليوم، وألا يتشبث بنظرية الأمس، بأنها حقيقة مطلقة، فكل شيء في تطور وتبدل وتغير، هذا ينسحب على المجتمعات مثلما ينسحب على المفاهيم والأفكار…
ــ من أهم الأخطاء التي وقع فيها اليسار العربي، وربما عمّ بعض هذه الأخطاء غالبية الحركات اليسارية وعلى نطاق واسع من العالم، وهي..
إن حركة اليسار لم تعش، ولم تمارس الديمقراطية في حياتها الداخلية الحزبية، بل كثيرا ما كانت تسخر من الديمقراطية الغربية بعكس ماركس، الذي أشاد بها غير مرة، وكأنما الإشادة بهذه الديمقراطية هي إشادة بالرأسمالية، وهذا ما دأبت عليه القوى الوطنية في البلدان العربية ــ الحمل على الرأسمالية ــ وهي كانت محقة وستبقى، إذا لم تعزلها عن النضال في الميادين الأخرى، فالرأسمالية في البداية ارتبطت بالاستعمار، والبلدان العربية جميعها عانت السيطرة والاحتلال، فهل يصدق خلع الديمقراطية على أمثال هتلر وموسوليني وفرانكو، أقطاب الحرب العالمية الثانية.؟ وهل هؤلاء الأقطاب مارسوا الديمقراطية في قياداتهم السياسية للنظم الرأسمالية، أم كانوا وليدي الحريات، حتى يؤمنوا بالديمقراطية، ويفسحوا المجال للحريات العامة.؟ هنا علينا أن نعي وندرك بداية، من أن الديمقراطية ليست صنعة رأسمالية، بل إن انتزاعها جاء نتيجة نضال الطبقات الدنيا، وليست منحة منها، حتى نتطير منها، ونشيح بوجهنا عنها تذمرا .! إذن برأينا لا بد لحركة اليسار العربي من أن تمارس الديمقراطية في حياتها الداخلية داخل تنظيماتها أولا، ومن ثم تطالب بها في الدولة، وفي المجتمع حتى يكون مقنعا في توجهاته..
ــ لا بد من التركيز على الجانب المعرفي، وتغليبه على الجانب السياسي؛ فالسياسة فن الممكن، وهذا صحيح، وهو نشاط يومي وآني، لكن استراتيجيا، لا بد للإنسان من أن يرجح الجانب المعرفي، يهتدي به، فالمعرفة تمهد له السبيل، للسير قدما على الطريق الصحيح، الذي يرسمه العقل..
لكن، كثيرا من أحزابنا اليسارية، يغدو عنده التكتيك الآني، ومصانعة السلطة نهجا دائما، بحيث تضيع في ثناياه المبادئ والمفاهيم النضالية الأخرى، التي آمن بها أعضاؤها، وانجذبت إليها الجماهير فالتفت حولها، وشدت من أزرها، لاسيما في ترجمة كل ذلك على صعيد الممارسة النضالية في الساحة الوطنية..
كما ينبغي الفهم، وإفهام الناس، من أن سقوط المعسكر الاشتراكي، ينبغي ألا يقودنا إلى الإحباط، والانكفاء والتحسر والتأسف، بل ينبغي أن يكون ذلك حافزا لنا لمزيد من دراسة المسائل النظرية، وبرؤية جديدة، والوقوف عندها بالتأمل، واتخاذ الأساسيات في الماركسية، وطرح ما لم يعد صالحا، فكثير من المفاهيم لا بد لها أن تشيخ، بتعبير ماركس، لا بد لنا من تجاوز الجمود، أليست (التحليل الملموس للواقع الملموس) مأثورا ماركسيا ؟ ألا يدفعنا ذلك إلى قراءة الواقع في أية مسألة، أية معضلة، تعترضنا ؟ ومن ثم البحث عن المعالجة في ضوء ذلك، لا الركض وراء النظريات، وبترها عن سياقها التاريخي، أليست الحياة المعيشة بمثابة حقل يمدنا بأفكار ومفاهيم ، يعكسها الوقع في مخيلتنا لنتصرف في ضوء ذلك وعلى هدي العقل لمعالجة تلك المسائل برؤية ( التحليل الملموس للواقع الملموس) فكم بددنا من جهود فكرية حول مصطلحات، كنا نختلف على تعريفها بسفسطة حوارية وتصادمية لا تنتهي، كمثل خلافنا: هل العرب يشكلون أمة أم لا ؟ وهل صدام حسين (فاشي) أم ديكتاتور؟ وأحدهم قضى في السجن فترة ليست بقصيرة، عندما عكس سياسة حزبه، بأن صداما ليس فاشيا، وإنما هو ديكتاتور، تيمنا بالتحليل السوفييتي…
ــ لا بد لليسار من اتخاذ الدولة، أيا كان شكل النظام ، لا بد من اتخاذها خصما.! وربما يفاجئ واحدنا بمثل هذا الطرح ، لكن أسارع إلى القول للإيضاح، بأن الخصم هنا لا يحمل معنى العدو، بل بمعنى التحدي، التنافس، الندية في النضال السياسي، إبانة الخطأ في سياسة الدولة عن الصواب، التنافس على طرح البرنامج الأفضل، بغية إزاحة المقصر والمتقاعس عن تحقيق ما وعد به من برامج، والاستعداد للاضطلاع بالمسؤولية وبالمهام التي توكل إليه لترجمتها والاستعداد للمساءلة، والتقدم ببرامج يتعهد العمل بموجبها أمام منتخبيه…
أقول..
حتى لو استلم اليسار الحكم، فعلى أحزابه أن تتمتع بهذه المزية، بهذا القدر من النقد والتحليل، والوقوف بالضد من أخطاء الحكومة؛ ثم أن هناك آلاف القضايا والمسائل تتعلق بحياة الشعب المعني، فمن ترى يتحمل مسؤولية تلك القضايا والمسائل، التي تؤثر سلبا على حياة المواطنين غير النظام الحاكم .؟ هنا لا يمكن لليسار أن يتماهى بعباءة السلطة، أو أن يتراخى في مواجهة الأخطاء، ويغمض عينه إرضاء للسادة الحكام، حتى لو كان رفاقهم من يحكمون…
ـــ إن الساحة الوطنية تبقى أهم ميدان للنضال، ومن يتغافل عن ذلك بشعارات أخرى، فما هو إلا تعبير عن عجز وهروب من مقتضيات النضال، وإيهام للآخرين وتعمية لهم، وتسليم بالواقع المرفوض جماهيريا… هناك قمع وفساد، وما ينجم عنهما من فقر وجوع ونهب وبطالة؛ هذه المسائل بحاجة إلى تصد لها؛ فاليوم ـ مثلا ـ تجتاح موجة من الغلاء العالم العربي قاطبة، ألا يعد مثل هذه الجائحة فرصة سانحة لليسار، للمناضلة وفرض وجوده، وشد الناس نحو أبجديته النضالية المعهودة.؟ ثمة تهاون في النضال على صعيد المطالب الجماهيرية الشعبية، وتهادن مع النظم الشمولية على هذا الصعيد؛ ويبقى شعار (يسقط الاستعمار) هو السيف المسلول بأيدي تلك القوى، لتبرز هويتها اليسارية، كما مر معنا آنفا هل هذا يكفي.؟ ألا يقتضي من اليسار الجهاد الأكبر على الصعيد الداخلي ترى.؟
ــ على اليسار ألا يسارع، أو يبادر للدخول في حكومات النظم الشمولية، والمشاركة الشكلية في الحكم، إلا إذا امتلك القوة والقدرة، تمكنه من فرض بعض من أجندته النضالية، بحيث لا تكون هذه المشاركة قيدا يحد من نشاطه السياسي، وينبغي أن تكون مسألة الديمقراطية على رأس مهامه المطلبية، ومن أبرز علامات النظام؛ لا بد أن يكون هناك مجال واسع، تتحرك فيه المعارضة، فالدولة تصنف في خانة الاستبداد إذا لم تتمتع المعارضة، بقدر كبير من حرية التعبير والتحرك والنشاط السياسي، وما لم تتمتع بالديمقراطية السياسية في الانتخابات مثلا..
ــ لا بأس أن يأخذ الموقف النقدي من النظام الرأسمالي حيزا واسعا في الباحة النظرية عند اليسار، ويكون النقد صحيحا، وعلى أسس علمية، وليست عاطفية، ومن دون إبهام، أو إيهام أحد، لأن الحقيقة هي التي ينشدها الناس في النهاية، وفي نشدان الحقيقة تكمن مصلحة هؤلاء الناس، وما عاد ينطلي على أحد الكذب والمخادعة؛ فالحقيقة تبقى أفضل وسيلة لجذب الناس وشدهم نحو الغايات النضالية النبيلة؛ مع كل ما قلناه ؛ يبقى النظام الرأسمالي في شكله الغربي ومع كل علاته، أفضل بكثير من نظم ما تزال في عهدة أناس يعيشون في حقبة ما قبل الرأسمالية؛ حتى عندما نهاجم الرأسمالية نظريا، ينبغي ألا يحجب عنا هذا الهجوم ملاحظة ذهنية قادتنا بممارساتهم القبلية، الذين ينظرون إلى شعوبهم، كنظرة السادة للرعايا لا أكثر، فهؤلاء السادة يخيفوننا من الاستعمار والاحتلال، وهم يستعبدون شعوبهم، وينظرون بصلف إلى مواطنيهم نظرات دونية، وبازدراء، نظرات السادة للعبيد، ونظرات الشيوخ للخدم، ونظرة الأغوات للقرويين المستضعفين…
ــ على اليسار أن يقر بحقوق الأقليات العرقية والدينية، في برامجه، وفي ممارساته السياسية، وألا يكتفي ببعض الشعارات المبهمة، التي تأخذ طابع العمومية، كما تأخذ أكثر من تأويل وتفسير، مثل التماهي بشعار المواطنة والمساواة أمام القانون… عليه أن يتناول الجزئيات بالتفصيل، فما يتمتع به الإنسان الذي ينتمي للقومية الكبيرة، أو الديانة الكبيرة، ينبغي أن يتمتع به أيضا الإنسان المنتمي للقومية الصغيرة، أو الديانة الصغيرة، على اليسار أن يتأمل في هذه المعادلة ويقبل بها؛ فالمنتمي للقومية الكبيرة، أو الديانة الكبيرة، يتكلم بلغته، ويتعلم بها، ويمارس شعائره الدينية بحرية، ويحصر انتخاب رئيس الجمهورية، في قوميته ، وبدين تلك القومية، يمارس الطقوس الدينية، ويحتفل بالأعياد القومية والدينية، يدعو للوحدة العربية، والذي يقابله ويتضمن لو تأملنا، حتما وحكما حق تقرير المصير للقوميات أو للشعوب الأخرى… فهل يقر اليسار لهؤلاء المستضعفين من أبناء الأقليات القومية، أو الأقليات الدينية بشرعية التمتع بكل هذه الحقوق المتاحة لأبناء القومية الكبيرة.؟ إذا كان الجواب بنعم، فمعنى ذلك أن اليسار قد ناصر حقوق الأقليات فعلا لا قولا بعبارات تأخذ طابع العمومية، وأوضح لنا معنى المواطنة الحقيقية، وخطا خطوة نضالية على السكة الصحيحة..
ــ ينبغي على اليسار أن يقرّ بأخطائه، وأن يقف عندها بشجاعة ومسؤولية، دون ذلك لا يمكن له أن يتخطاها، وأن يسعى لاكتساب المصداقية من جديد، وأن يقرن النظرية بالممارسة، وأن يبقى في علاقة عضوية مع المجتمع؛ كما عليه أن يتحسس معاناة الناس، ويعي تطلعات الجماهير الشعبية، يحسن التعامل مع الواقع، يستمد منه أفكاره، يعكسها الواقع، فترتسم في مخيلته، لتترجم بعد ذلك إلى عمل وممارسة؛ على اليسار ألا يغفل عن تناول مسائل وقضايا مهمة وأساسية تمس حياة المواطنين مثل: الفقر، الجوع، القمع، الفساد، البطالة، الغلاء، انخفاض الأجور، الرشوة، المحسوبية..إلخ قائمة لا تنتهي من الممارسات السلبية، عليه أن ينتقدها، ويطرح رؤيته في المعالجة، كما عليه أن يبدي ملاحظاته في سياسة الدولة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدستور والقوانين والاستثمارات والتعليم إلخ لا بد من رصد كل ذلك، وعرض وجهة نظره بدراسة تقدم للحكومة كمعالجة لتجاوز الحالة الراهنة، ويواصل نضالا ته على هذه الجبهة دون توقف، على اليسار أن يواكب التطور، وأن يتحسس التبدلات والتحولات الجارية في العالم، وأن يتنبه للتطور التكنولوجي السريع، والثورة المعلوماتية المذهلة..!
ــ يمكن لليسار أن يلملم فصائله، تحت سقف نضالي مشترك، ولا بأس عندها من تعددية وتباينات في الرأي داخل التنظيم أو الحزب، وأظن أن الديمقراطية كفيلة بتيسير وتسهيل سبل التدامج، أو التنسيق، والالتفاف حول برنامج وطني، دون إقصاء لأحد، وهنا يتسع إطار الفكر، ويغتني التنظيم بهذه التباينات، بحيث يسع الجميع، ولا يستبعد أي وطني مخلص شريف…
وأخيرا لا بد من التنويه، أن أثينا في الفترة مابين 8 و 10 تشرين الأول الماضي، شهد مؤتمرا عالميا ضم 64 حزبا شيوعيا وعماليا، وأصدر الاجتماع في ختام هذا اللقاء بيانا تحت عنوان (مقاومة العدوانية الأمريكية ـــ جبهات للنضال والبدائل) كان البيان طويلا نسبيا زاد عن 115 سطرا، البيان بمجمله انصب على السياسة الخارجية لتلك الأحزاب، والهجوم على الغرب الرأسمالي، وحمله كل الآثام، وربما لم يكن في أجندة هذا اللقاء الواسع تناول الأوضاع الداخلية للأنظمة اللاديمقراطية التي تضطهد شعوبها، لأن ذلك سيكون إحراجا لبعض الأحزاب التي حضرت هذا اللقاء، وبينها أحزاب، كثيرا ما تمالئ تلك النظم، بل تدرأ عنها كل التهم، وهي تعودت بدورها التركيز على الإطراء على السياسة الخارجية لأنظمتها، وتدفع بكل الشرور نحو العامل الخارجي؛ فقد تطرق المجتمعون في نهاية البيان، في الأسطر الثلاثة الأخيرة بعبارات خجولة، إلى التضامن ( مع الشيوعيين وغيرهم من الشخصيات والقوى والأحزاب التقدمية الأخرى الذين يعانون القمع والسجن، ومع أولئك الذين لا يسمح لهم بمزاولة نشاطهم السياسي…….ضرورة الفعل التضامني ضد القوى اللاديمقراطية التمييزية الرجعية التي تستهدف الحريات والحقوق الديمقراطية.) انتهى البيان بهذه العبارات القليلة، بعد أكثر من مئة وعشرة أسطر، انصبت كلها على أمريكا واليابان والغرب…
إن لفظة التضامن باعتقادي مع الشيوعيين وسواهم، من قبل الأحزاب الشيوعية والعمالية في وجه القمع والسجن والقوى اللاديمقراطية، موقف خجول وغير كاف بصيغتها الواردة هنا، وقاصر عن التعبير، وكأن النضال في هذه الجانب هامشي على أهميته، وملحق للنضال الحقيقي، النضال ضد الاستعمار؛ كان لا بد من إدانة سياسات تلك الدول (اللاديمقراطية التمييزية الرجعية…..) التي تضطهد شعوبها، وتستهدف الحريات والحقوق الديمقراطية…!
إن الموقف من العدوانية الأمريكية في كثير من المواقف لا يختلف عليه اثنان، لكن رفاقنا يعتبرون تلك المواقف من الفرائض، ويمرون على القضايا مثل : الاستبداد، القمع، السجن، انتهاك الحريات العامة مرور الكرام، باعتبارها من النوافل، ويعيرونها اهتماما هامشيا؛ ألم أقل في ثنايا مقالتي، رغم الظروف الموضوعية، أن اليسار مازال في سباته، فمتى يشهد الصحوة ترى.!؟ الأمل معقود على الجيل الصاعد المتعلم، الذي يستفيق على هذه الخطايا بحقهم وبحق مجتمعهم، وهذا بالضرورة، يستلزم من قادة الفكر إنارة مسالك دروب النضال، ليأخذ به الجيل الجديد كأمضى سلاح يشهره في وجه أنظمة القمع والاستبداد واللاديمقراطية التمييزية الرجعية…!
إن الواقع يطرح أسئلة عديدة، تثير حميّة كلّ من المتأمل، والمعني، والمكابد..
فاليسار العربي ـ برأيي ـ لتاريخه، لم يستطع الفكاك من إسار الماضي، فهو ما زال على سجيته النضالية، وشعاره المعروف ( يسقط الاستعمار)، وحسبك هذا الشعارـ برأيهم ـ هوية تزكيه مهما تلونت به مشارب النضال، وتنوعت؛ هذا ما كان يتميز به اليسار، وربما كان ينفرد في هذا المضمار، ويتقدم على سواه؛ إن اليسار الماركسي، عليه أن يدقق في كثير من المبادئ والمفاهيم النظرية اليوم، وألا يتشبث بنظرية الأمس، بأنها حقيقة مطلقة، فكل شيء في تطور وتبدل وتغير، هذا ينسحب على المجتمعات مثلما ينسحب على المفاهيم والأفكار…
ــ من أهم الأخطاء التي وقع فيها اليسار العربي، وربما عمّ بعض هذه الأخطاء غالبية الحركات اليسارية وعلى نطاق واسع من العالم، وهي..
إن حركة اليسار لم تعش، ولم تمارس الديمقراطية في حياتها الداخلية الحزبية، بل كثيرا ما كانت تسخر من الديمقراطية الغربية بعكس ماركس، الذي أشاد بها غير مرة، وكأنما الإشادة بهذه الديمقراطية هي إشادة بالرأسمالية، وهذا ما دأبت عليه القوى الوطنية في البلدان العربية ــ الحمل على الرأسمالية ــ وهي كانت محقة وستبقى، إذا لم تعزلها عن النضال في الميادين الأخرى، فالرأسمالية في البداية ارتبطت بالاستعمار، والبلدان العربية جميعها عانت السيطرة والاحتلال، فهل يصدق خلع الديمقراطية على أمثال هتلر وموسوليني وفرانكو، أقطاب الحرب العالمية الثانية.؟ وهل هؤلاء الأقطاب مارسوا الديمقراطية في قياداتهم السياسية للنظم الرأسمالية، أم كانوا وليدي الحريات، حتى يؤمنوا بالديمقراطية، ويفسحوا المجال للحريات العامة.؟ هنا علينا أن نعي وندرك بداية، من أن الديمقراطية ليست صنعة رأسمالية، بل إن انتزاعها جاء نتيجة نضال الطبقات الدنيا، وليست منحة منها، حتى نتطير منها، ونشيح بوجهنا عنها تذمرا .! إذن برأينا لا بد لحركة اليسار العربي من أن تمارس الديمقراطية في حياتها الداخلية داخل تنظيماتها أولا، ومن ثم تطالب بها في الدولة، وفي المجتمع حتى يكون مقنعا في توجهاته..
ــ لا بد من التركيز على الجانب المعرفي، وتغليبه على الجانب السياسي؛ فالسياسة فن الممكن، وهذا صحيح، وهو نشاط يومي وآني، لكن استراتيجيا، لا بد للإنسان من أن يرجح الجانب المعرفي، يهتدي به، فالمعرفة تمهد له السبيل، للسير قدما على الطريق الصحيح، الذي يرسمه العقل..
لكن، كثيرا من أحزابنا اليسارية، يغدو عنده التكتيك الآني، ومصانعة السلطة نهجا دائما، بحيث تضيع في ثناياه المبادئ والمفاهيم النضالية الأخرى، التي آمن بها أعضاؤها، وانجذبت إليها الجماهير فالتفت حولها، وشدت من أزرها، لاسيما في ترجمة كل ذلك على صعيد الممارسة النضالية في الساحة الوطنية..
كما ينبغي الفهم، وإفهام الناس، من أن سقوط المعسكر الاشتراكي، ينبغي ألا يقودنا إلى الإحباط، والانكفاء والتحسر والتأسف، بل ينبغي أن يكون ذلك حافزا لنا لمزيد من دراسة المسائل النظرية، وبرؤية جديدة، والوقوف عندها بالتأمل، واتخاذ الأساسيات في الماركسية، وطرح ما لم يعد صالحا، فكثير من المفاهيم لا بد لها أن تشيخ، بتعبير ماركس، لا بد لنا من تجاوز الجمود، أليست (التحليل الملموس للواقع الملموس) مأثورا ماركسيا ؟ ألا يدفعنا ذلك إلى قراءة الواقع في أية مسألة، أية معضلة، تعترضنا ؟ ومن ثم البحث عن المعالجة في ضوء ذلك، لا الركض وراء النظريات، وبترها عن سياقها التاريخي، أليست الحياة المعيشة بمثابة حقل يمدنا بأفكار ومفاهيم ، يعكسها الوقع في مخيلتنا لنتصرف في ضوء ذلك وعلى هدي العقل لمعالجة تلك المسائل برؤية ( التحليل الملموس للواقع الملموس) فكم بددنا من جهود فكرية حول مصطلحات، كنا نختلف على تعريفها بسفسطة حوارية وتصادمية لا تنتهي، كمثل خلافنا: هل العرب يشكلون أمة أم لا ؟ وهل صدام حسين (فاشي) أم ديكتاتور؟ وأحدهم قضى في السجن فترة ليست بقصيرة، عندما عكس سياسة حزبه، بأن صداما ليس فاشيا، وإنما هو ديكتاتور، تيمنا بالتحليل السوفييتي…
ــ لا بد لليسار من اتخاذ الدولة، أيا كان شكل النظام ، لا بد من اتخاذها خصما.! وربما يفاجئ واحدنا بمثل هذا الطرح ، لكن أسارع إلى القول للإيضاح، بأن الخصم هنا لا يحمل معنى العدو، بل بمعنى التحدي، التنافس، الندية في النضال السياسي، إبانة الخطأ في سياسة الدولة عن الصواب، التنافس على طرح البرنامج الأفضل، بغية إزاحة المقصر والمتقاعس عن تحقيق ما وعد به من برامج، والاستعداد للاضطلاع بالمسؤولية وبالمهام التي توكل إليه لترجمتها والاستعداد للمساءلة، والتقدم ببرامج يتعهد العمل بموجبها أمام منتخبيه…
أقول..
حتى لو استلم اليسار الحكم، فعلى أحزابه أن تتمتع بهذه المزية، بهذا القدر من النقد والتحليل، والوقوف بالضد من أخطاء الحكومة؛ ثم أن هناك آلاف القضايا والمسائل تتعلق بحياة الشعب المعني، فمن ترى يتحمل مسؤولية تلك القضايا والمسائل، التي تؤثر سلبا على حياة المواطنين غير النظام الحاكم .؟ هنا لا يمكن لليسار أن يتماهى بعباءة السلطة، أو أن يتراخى في مواجهة الأخطاء، ويغمض عينه إرضاء للسادة الحكام، حتى لو كان رفاقهم من يحكمون…
ـــ إن الساحة الوطنية تبقى أهم ميدان للنضال، ومن يتغافل عن ذلك بشعارات أخرى، فما هو إلا تعبير عن عجز وهروب من مقتضيات النضال، وإيهام للآخرين وتعمية لهم، وتسليم بالواقع المرفوض جماهيريا… هناك قمع وفساد، وما ينجم عنهما من فقر وجوع ونهب وبطالة؛ هذه المسائل بحاجة إلى تصد لها؛ فاليوم ـ مثلا ـ تجتاح موجة من الغلاء العالم العربي قاطبة، ألا يعد مثل هذه الجائحة فرصة سانحة لليسار، للمناضلة وفرض وجوده، وشد الناس نحو أبجديته النضالية المعهودة.؟ ثمة تهاون في النضال على صعيد المطالب الجماهيرية الشعبية، وتهادن مع النظم الشمولية على هذا الصعيد؛ ويبقى شعار (يسقط الاستعمار) هو السيف المسلول بأيدي تلك القوى، لتبرز هويتها اليسارية، كما مر معنا آنفا هل هذا يكفي.؟ ألا يقتضي من اليسار الجهاد الأكبر على الصعيد الداخلي ترى.؟
ــ على اليسار ألا يسارع، أو يبادر للدخول في حكومات النظم الشمولية، والمشاركة الشكلية في الحكم، إلا إذا امتلك القوة والقدرة، تمكنه من فرض بعض من أجندته النضالية، بحيث لا تكون هذه المشاركة قيدا يحد من نشاطه السياسي، وينبغي أن تكون مسألة الديمقراطية على رأس مهامه المطلبية، ومن أبرز علامات النظام؛ لا بد أن يكون هناك مجال واسع، تتحرك فيه المعارضة، فالدولة تصنف في خانة الاستبداد إذا لم تتمتع المعارضة، بقدر كبير من حرية التعبير والتحرك والنشاط السياسي، وما لم تتمتع بالديمقراطية السياسية في الانتخابات مثلا..
ــ لا بأس أن يأخذ الموقف النقدي من النظام الرأسمالي حيزا واسعا في الباحة النظرية عند اليسار، ويكون النقد صحيحا، وعلى أسس علمية، وليست عاطفية، ومن دون إبهام، أو إيهام أحد، لأن الحقيقة هي التي ينشدها الناس في النهاية، وفي نشدان الحقيقة تكمن مصلحة هؤلاء الناس، وما عاد ينطلي على أحد الكذب والمخادعة؛ فالحقيقة تبقى أفضل وسيلة لجذب الناس وشدهم نحو الغايات النضالية النبيلة؛ مع كل ما قلناه ؛ يبقى النظام الرأسمالي في شكله الغربي ومع كل علاته، أفضل بكثير من نظم ما تزال في عهدة أناس يعيشون في حقبة ما قبل الرأسمالية؛ حتى عندما نهاجم الرأسمالية نظريا، ينبغي ألا يحجب عنا هذا الهجوم ملاحظة ذهنية قادتنا بممارساتهم القبلية، الذين ينظرون إلى شعوبهم، كنظرة السادة للرعايا لا أكثر، فهؤلاء السادة يخيفوننا من الاستعمار والاحتلال، وهم يستعبدون شعوبهم، وينظرون بصلف إلى مواطنيهم نظرات دونية، وبازدراء، نظرات السادة للعبيد، ونظرات الشيوخ للخدم، ونظرة الأغوات للقرويين المستضعفين…
ــ على اليسار أن يقر بحقوق الأقليات العرقية والدينية، في برامجه، وفي ممارساته السياسية، وألا يكتفي ببعض الشعارات المبهمة، التي تأخذ طابع العمومية، كما تأخذ أكثر من تأويل وتفسير، مثل التماهي بشعار المواطنة والمساواة أمام القانون… عليه أن يتناول الجزئيات بالتفصيل، فما يتمتع به الإنسان الذي ينتمي للقومية الكبيرة، أو الديانة الكبيرة، ينبغي أن يتمتع به أيضا الإنسان المنتمي للقومية الصغيرة، أو الديانة الصغيرة، على اليسار أن يتأمل في هذه المعادلة ويقبل بها؛ فالمنتمي للقومية الكبيرة، أو الديانة الكبيرة، يتكلم بلغته، ويتعلم بها، ويمارس شعائره الدينية بحرية، ويحصر انتخاب رئيس الجمهورية، في قوميته ، وبدين تلك القومية، يمارس الطقوس الدينية، ويحتفل بالأعياد القومية والدينية، يدعو للوحدة العربية، والذي يقابله ويتضمن لو تأملنا، حتما وحكما حق تقرير المصير للقوميات أو للشعوب الأخرى… فهل يقر اليسار لهؤلاء المستضعفين من أبناء الأقليات القومية، أو الأقليات الدينية بشرعية التمتع بكل هذه الحقوق المتاحة لأبناء القومية الكبيرة.؟ إذا كان الجواب بنعم، فمعنى ذلك أن اليسار قد ناصر حقوق الأقليات فعلا لا قولا بعبارات تأخذ طابع العمومية، وأوضح لنا معنى المواطنة الحقيقية، وخطا خطوة نضالية على السكة الصحيحة..
ــ ينبغي على اليسار أن يقرّ بأخطائه، وأن يقف عندها بشجاعة ومسؤولية، دون ذلك لا يمكن له أن يتخطاها، وأن يسعى لاكتساب المصداقية من جديد، وأن يقرن النظرية بالممارسة، وأن يبقى في علاقة عضوية مع المجتمع؛ كما عليه أن يتحسس معاناة الناس، ويعي تطلعات الجماهير الشعبية، يحسن التعامل مع الواقع، يستمد منه أفكاره، يعكسها الواقع، فترتسم في مخيلته، لتترجم بعد ذلك إلى عمل وممارسة؛ على اليسار ألا يغفل عن تناول مسائل وقضايا مهمة وأساسية تمس حياة المواطنين مثل: الفقر، الجوع، القمع، الفساد، البطالة، الغلاء، انخفاض الأجور، الرشوة، المحسوبية..إلخ قائمة لا تنتهي من الممارسات السلبية، عليه أن ينتقدها، ويطرح رؤيته في المعالجة، كما عليه أن يبدي ملاحظاته في سياسة الدولة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدستور والقوانين والاستثمارات والتعليم إلخ لا بد من رصد كل ذلك، وعرض وجهة نظره بدراسة تقدم للحكومة كمعالجة لتجاوز الحالة الراهنة، ويواصل نضالا ته على هذه الجبهة دون توقف، على اليسار أن يواكب التطور، وأن يتحسس التبدلات والتحولات الجارية في العالم، وأن يتنبه للتطور التكنولوجي السريع، والثورة المعلوماتية المذهلة..!
ــ يمكن لليسار أن يلملم فصائله، تحت سقف نضالي مشترك، ولا بأس عندها من تعددية وتباينات في الرأي داخل التنظيم أو الحزب، وأظن أن الديمقراطية كفيلة بتيسير وتسهيل سبل التدامج، أو التنسيق، والالتفاف حول برنامج وطني، دون إقصاء لأحد، وهنا يتسع إطار الفكر، ويغتني التنظيم بهذه التباينات، بحيث يسع الجميع، ولا يستبعد أي وطني مخلص شريف…
وأخيرا لا بد من التنويه، أن أثينا في الفترة مابين 8 و 10 تشرين الأول الماضي، شهد مؤتمرا عالميا ضم 64 حزبا شيوعيا وعماليا، وأصدر الاجتماع في ختام هذا اللقاء بيانا تحت عنوان (مقاومة العدوانية الأمريكية ـــ جبهات للنضال والبدائل) كان البيان طويلا نسبيا زاد عن 115 سطرا، البيان بمجمله انصب على السياسة الخارجية لتلك الأحزاب، والهجوم على الغرب الرأسمالي، وحمله كل الآثام، وربما لم يكن في أجندة هذا اللقاء الواسع تناول الأوضاع الداخلية للأنظمة اللاديمقراطية التي تضطهد شعوبها، لأن ذلك سيكون إحراجا لبعض الأحزاب التي حضرت هذا اللقاء، وبينها أحزاب، كثيرا ما تمالئ تلك النظم، بل تدرأ عنها كل التهم، وهي تعودت بدورها التركيز على الإطراء على السياسة الخارجية لأنظمتها، وتدفع بكل الشرور نحو العامل الخارجي؛ فقد تطرق المجتمعون في نهاية البيان، في الأسطر الثلاثة الأخيرة بعبارات خجولة، إلى التضامن ( مع الشيوعيين وغيرهم من الشخصيات والقوى والأحزاب التقدمية الأخرى الذين يعانون القمع والسجن، ومع أولئك الذين لا يسمح لهم بمزاولة نشاطهم السياسي…….ضرورة الفعل التضامني ضد القوى اللاديمقراطية التمييزية الرجعية التي تستهدف الحريات والحقوق الديمقراطية.) انتهى البيان بهذه العبارات القليلة، بعد أكثر من مئة وعشرة أسطر، انصبت كلها على أمريكا واليابان والغرب…
إن لفظة التضامن باعتقادي مع الشيوعيين وسواهم، من قبل الأحزاب الشيوعية والعمالية في وجه القمع والسجن والقوى اللاديمقراطية، موقف خجول وغير كاف بصيغتها الواردة هنا، وقاصر عن التعبير، وكأن النضال في هذه الجانب هامشي على أهميته، وملحق للنضال الحقيقي، النضال ضد الاستعمار؛ كان لا بد من إدانة سياسات تلك الدول (اللاديمقراطية التمييزية الرجعية…..) التي تضطهد شعوبها، وتستهدف الحريات والحقوق الديمقراطية…!
إن الموقف من العدوانية الأمريكية في كثير من المواقف لا يختلف عليه اثنان، لكن رفاقنا يعتبرون تلك المواقف من الفرائض، ويمرون على القضايا مثل : الاستبداد، القمع، السجن، انتهاك الحريات العامة مرور الكرام، باعتبارها من النوافل، ويعيرونها اهتماما هامشيا؛ ألم أقل في ثنايا مقالتي، رغم الظروف الموضوعية، أن اليسار مازال في سباته، فمتى يشهد الصحوة ترى.!؟ الأمل معقود على الجيل الصاعد المتعلم، الذي يستفيق على هذه الخطايا بحقهم وبحق مجتمعهم، وهذا بالضرورة، يستلزم من قادة الفكر إنارة مسالك دروب النضال، ليأخذ به الجيل الجديد كأمضى سلاح يشهره في وجه أنظمة القمع والاستبداد واللاديمقراطية التمييزية الرجعية…!