وجهة نظر حول الديمقراطية التوافقية

سعيد فرمان

أصبحت الديمقراطية وبفعل الإستراتيجية العالمية الجديدة أكثر الكلمات والمصطلحات شيوعاً وتداولاً في المرحلة الراهنة ,  سواء كان ذلك على الصعيد العالمي , أو المحلي- الإقليمي  , لا بل إنها تعد اليوم من أهم مفردات القاموس السياسي والفكري والثقافي رواجاً في منطقتنا (منطقة الشرق الأوسط), و باتت حاضرة  كمفهوم سياسي, واصطلاح ثقافي وإيديولوجي على لسان مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية , السياسية والثقافية والفكرية , وحتى الفئات الشعبية هي الأخرى لم تستطع أن تكون بمنأى عن استخدام هذا التعبير الذي بدأ يكتسح الحياة السياسية والثقافية والإعلامية , ويطرق أبواب الأنظمة والقوى التقليدية في هذه المنطقة دون أي إذن , أو موعد مسبق .

وهذا هو ما يهمنا في هذا الصدد على سبيل المناقشة وبيان الرأي .؟ فما هو سر هذه الكلمة , هل تستطيع هذه الكلمة أن تكون علاجاً سحرياً ناجحاً لمعالجة قضايانا المزمنة والمتراكمة تاريخياً , أو إنها طريقة للتعبير عن الإرادة  والرأي الحر, وآلية ناجحة لإدارة مجتمعاتنا , ودول منطقتنا ؟ أم إنها إضافة لما تنطوي عليه من تأويلات إيجابية أخرى , تشكل البلسم الشافي لمداواة جراحات شعوب وأمم هذه المنطقة ؟ وهي وإن كانت كذلك , فما هي حاجتنا نحن أبناء الشعب الكردي والشعوب والقوميات المتداخلة والمتجاورة معنا إليها, ؟ وهل من الممكن لها أن تدخل ( وفق النموذج الغربي ) في سياق ميكانزمات العمل السياسي الناجح في هذه المنطقة0 للإجابة على هذه التساؤلات وغيرها لابد من القول بداية 0 إن الديمقراطية هي من حيث المنشأ والانتماء صناعة أوربية بامتياز.؟ فقد ولدت ونمت في المجتمعات الأوربية الغربية , وهي النتاج الطبيعي لتطور وتقدم تلك المجتمعات من خلال عملية مخاض عسيرة دامت قروناً ً من الزمن , وكلفت الكثير من التضحيات في سبيل تثبيتها و ترسيخها كممارسة لإدارة وتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في الدول الأوربية والغربية .؟
لقد شهدت المجتمعات الأوربية – الغربية حالة نهوض علمي وصناعي وإبداعي مذهل , مما سمح لها ببناء وتشييد نماذج حضارية – مدنية متطورة ومتقدمة , بالتزامن مع تناول قضايا الشعوب والقوميات في منطقتها , وحلها بالركون لمنطق الاعتراف بالتنوع والاختلاف القومي والاثني , من خلال بناء الدول القومية – الوطنية , ومعالجة الاستثناءات , أو المتبقيات في هذه الظاهرة الاجتماعية(ظاهرة بناء الدول القومية) , وفق آليات العمل والممارسة الديمقراطية, ومبادئ الحرية , والمسوغات العلمية لوحدة الجنس البشري …… الخ
إن مسألة المقاربة والموازنة بين مجتمعات متطورة قطعت أشواطاً كبيرة جداً في عملية التقدم والارتقاء في جميع مجالات وجوانب الحياة كالمجتمعات الأوربية – الغربية التي شيدت نظماً ومؤسسات ديمقراطية ( وإن كانت  ليست كاملة بمعنى الكمال المطلق ), وبين مجتمعات متخلفة لازالت تعاني من مسائل ومشاكل عديدة ومتنوعة , وتنتمي في أحسن الحالات وأفضلها لمنطقة الريف العالمي , إن لم نقل لمنطقة البداوة العالمية لجهة التصنيف الحضاري والصناعي العالمي.

أقول إن مسألة المقاربة هذه تأتي  للتأكيد على أهمية معرفة , وتشخيص السياق التاريخي الذي تطرح فيه مثل هكذا رؤى وحلول لقضايا المنطقة المعقدة ,  والمتداخلة مع بعضها البعض , الواقعية منها والمختلقة !!! لكي تكون المعالجات والحلول ناجحة ومفيدة , ولكي لا تتكرر أخطاء وعيوب الماضي الذي لا زال بعضنا يحاول الاحتماء بمنظومته الفكرية والسياسية , كحالة تعبير عن عدم المقدرة في الولوج إلى الحاضر , واستشفاف المستقبل0؟ وعليه فالسياق التاريخي الراهن لمنطقتنا كما هو واضح لا يستدعي الديمقراطية وفق آلياتها و نموذجها الغربي المتطور, ذلك النموذج الذي نأمل في الوصول إليه بشكل طبيعي ومتدرج بعد أن يتم  تخطي هذه المرحلة التي لا يمكننا إلا إن  نسميها بالانتقالية والمؤقتة , أما الشكل أو النموذج الذي تحتاجه هذه المنطقة كحالة انتقالية ومؤقتة هو النموذج الديمقراطي التوافقي , أو التوافق الديمقراطي وذلك لعدة أسباب وحقائق لا يمكننا تجاهلها , أو غض النظر عنها وهي.


  1-  لا زالت منطقة الشرق الأوسط تعاني من حالة تخلف وتأخر شديدين بسبب تدني مستوى التعليم والمعرفة , وانتشار الأمية والجهل بين عامة الشعب , وسيادة منطق العلاقات والقيم العشائرية والقبلية والدينية , ومحدودية رقعة تواجد الفكر الليبرالي – العلماني , وتواضع تأثيره على الساحة السياسية والاجتماعية , إلى جانب تشويه الحياة السياسية والثقافية , وتغييب دور الجماهير وحكم القانون , وتهميش مؤسسات المجتمع المدني , وتغليب المفاهيم الغيبية والقبلية على سواهما من المفاهيم والنصوص القانونية والدستورية , وإن وجدت في بعض دول المنطقة, هذه الحالة التي تعكس إلى حد بعيد , وبشكل صادق  درجة التخلف الاجتماعي والسياسي لشعوب هذه المنطقة , تشكل حجر عثرة في طريق أية ممارسة للديمقراطية بآلياتها النموذجية المتطورة,  أو القريبة منها , وتحتم على مجتمعات هذه المنطقة , التحرك و السير باتجاه العمل التوافقي , ذي  الطابع أو المسحة الديمقراطية , والتخلي عن طرح الديمقراطية بشكلها المجرد , وبخطوطها العريضة  التي تبقى دائماً بحاجة للتحليل  والاجتهاد.؟
 2- توجد في منطقة الشرق الأوسط عدة قوميات وطوائف لم تستطع حتى الآن نيل حقوقها,  ولم تتمكن من التعبير عن إرادتها , ولغة القمع والاضطهاد والإنكار هو الأسلوب السائد والوحيد للتعامل معها , لقد خلق هذا الأسلوب الممنهج في طريقة التعامل مع قضايا الشعوب والطوائف في هذه المنطقة حالة احتقان مزمنة , انعكست سلباً على مسألة التعايش المشترك , وأفضت لزرع بذور الكراهية والحقد بين مكونات المنطقة ,  وفقدان الثقة بالآخر , والاحتماء بالطائفة أو القومية  أي كان الانتماء الفكري أو السياسي لهذه الفئة أو تلك , أو لهذا الشخص أو ذاك , لذا فإن العزف على وتر الديمقراطية بشكلها ونموذجها الغربي المتطور, والقفز على مسألة التوافقات بين أطياف ومكونات هذه المنطقة , يعكس إلى حد بعيد نظرة تبسيطية للأمور , وينم في الوقت نفسه  عن مخطط  يستهدف القوميات والطوائف المضطهدة , وذلك تحت ستار وشعار حكم الأغلبية , وخضوع الأقلية لها, تلك الاغلبيات والأقليات التي تشكلت جراء التقسيمات التي استهدفت الجغرافيا والديموغرافيا في هذه المنطقة .؟  ولاقت الشعوب والقوميات والأعراق ( كالكرد ) على أثر ذلك القمع والإنكار على أيدي حكومات وأنظمة الاغلبيات الوهمية تلك ,  ولازالت ترزح تحت نير الاضطهاد والاستبداد , نتيجة لتقسيم الأوطان بين عدة دول في المنطقة , ووضعهم في خانة الأقليات لإعطاء مشروعية وهمية لمسألة إنكار حقوقهم القومية العادلة 0
إن مسألة التوافقات التي تطرح بخصوص مشاكل المنطقة , وبعد إن تفعل بآليات ديمقراطية مناسبة ومتوافقة مع خصوصيات  شعوب , وأقوام منطقتنا , وبمراعاتها لكل ما هو ثابت وأصيل تاريخياً , وذو مشروعية جغرافياً , سيساهم في خلق المناخ الملائم  لتقليص مساحات الاختلاف والتباين بين الشعوب , والإسراع في تجاوز الظواهر السلبية التي رافقت تاريخ هذه المنطقة , وما لحق بأبنائها من غبن وإجحاف على أيدي قوى وجهات عديدة منها الخارجي البعيد , والداخلي القريب  الذي لم يرأف مطلقاً بشعوب وأبناء منطقته ؟
إن الطرح التوافقي الذي بات يزاحم الأطروحات الأخرى , يرمي لإيجاد شراكة حقيقية بين أقوام وأمم وطوائف هذه المنطقة , كما أنه يهيئ أيضاً الأرضية والمناخ المناسبين للانتقال إلى عصر ومرحلة المجتمع الديمقراطي المتطور , الذي لا يمكن له أن يقوم إلا في جو ومناخ حضاري متقدم , تنتفي فيه قمع الشعوب والطوائف , وتصان فيه حقوق الإنسان الفرد , وحقوق القوميات والأمم المغلوبة على أمرها .؟؟؟ 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…