بين السلطة والمعارضة..!

دهام حسن

تتمثل السلطة، أية سلطة كانت، تتمثل عادة، بأجهزة مختلفة، تناط بها إدارة المؤسسات الحكومية، وتصريف  شؤون الدولة، ورعاية المجتمع، وتضطلع بمهام سياسية، واقتصادية، وإدارية، وأمنية..إلخ ، وتتفرع عن هذه المسميات وحدات صغيرة، لتغطي بالتالي مساحة البلاد من أقصاه إلى أقصاه، وهذا الإيضاح والتعريف بمهام الحكومة، لا يتأثر بماهية الدولة، ديمقراطية كانت، أم استبدادية ؟ ملكية كانت أم جمهورية ؟ والسلطة على العموم، هي البنية الفوقية، تتجسد بتلك التنظيمات والوحدات التي أتينا على ذكرها، وهي تنبثق أساسا من تفاعل ومناضلة مختلف القوى الاجتماعية، في إطار علاقات الإنتاج…
أما المعارضة، فهي القوى غير الحاكمة، وموقعها خارج سراي الحكومة، لكنها تنافس القوى الحاكمة على السلطة، والمنافسة على السلطة، تأخذ طابع الصراع السلمي التنافسي في الأنظمة الديمقراطية، حيث تتعاقب على الحكم تلك القوى، أو ذلك الحزب، أي الفريق الذي يقع عليه اختيار الناخبين، فيفوز بالتالي من نال أكثرية الأصوات، ووجدنا مثل هذه السلاسة في انتقال السلطة من الديمقراطيين إلى الجمهوريين في الولايات المتحدة وبالعكس، وتعاقب المحافظين وحزب العمال في بريطانيا، وسواهما من الدول الأوربية ذات التقاليد الديمقراطية ، فرنسا، ألمانيا، إسبانيا..إلخ ؛ لكن بالمقابل، لا يتم مثل هذا الانتقال السلس للسلطة، من الفريق الحاكم إلى المعارضة، في معظم بلدان العالم الثالث، بل نكاد نقول في  البلدان العربية قاطبة، لا نجد مثل هذه الأشكال من الانتقال السلمي الديمقراطي للسلطة، أي المبني أساسا على الانتخابات الحرة الديمقراطية، ما عدا لبنان، الذي يتميز بوضع خاص ينفرد به..

هنا السلطة أبدية، وهي تكون لمن يشغلها بانقلاب، أو بفتنة داخلية، فالمنازع على السلطة، أو المعارضة مقموعة ومهمشة، والديمقراطية لها صيغة ممسوخة، وطابع هامشي في أحسن الأحوال، والانتخابات شكلية..

لهذا فمثل هذه الحكومات لا تتغير، إلا بانقلابات عسكرية، أو أثر فتنة أو مؤامرة داخل السراي الحكومي؛ فالسلطة التي تأتي بالقوة ستستمر في السيطرة، ولن تذهب بالتالي إلا بالقوة غالبا، ومثل هذه السلطة التي تنفرد بالحكم وتستأثر بإدارته، لن توفر أجواء من الحرية أو الديمقراطية، وسوف تصادر الحريات العامة، وتقمع أي حراك اجتماعي، لأن الدولة الديمقراطية لابد لها أن تكون نتاج الديمقراطية ووليدة الحرية؛ والسبل الشرعية، أي الانتخابات، لكن السلطة المستبدة، تستمد قوتها على ما تعتمد عليه من أجهزة قمعية، وإعلام مقيد وموجه، كما تعتمد على لا مبالاة الناس المحبطين وخمولهم؛ إذن قوة السلطة ليست مستمدة من حزبها، لأن الحزب سرعان ما تصبح في علاقة تبعية للسلطة، فتتسرب قيادته إلى شبكة السلطة كموظفين، فيذوب بالتالي قادته في هيكلها، وبالمقابل تهمش قواعده، ويحنط الحزب  رغم تضخمه عدديا، فالسلطة في هذه الحال، تمثل إرادة المنتفعين ولا تجسد إرادة المواطنين؛ مثل هكذا نظم، حيث تتحكم بالعباد سلطة جائرة، لا بد لها أن تسقط في النهاية، سواء بانتفاضة جماهيرية واسعة، أو بمعارضة غسلت يدها عن إمكانية التحول السلمي، أو بأقلية متآمرة داخل المنظومة الحاكمة، أو بحركة عسكرية كما تعودنا في الانقلابات التقليدية التي عرفت بها منطقتنا، والتاريخ يعج بالأمثلة، وحسبنا مثال دول أوربا الشرقية، التي سقطت واحدة تلو الأخرى، فقاعدة الأنظمة الاستبدادية ضعيفة، هشة جماهيريا، وسقوطها يعد عرسا وطنيا؛ فوجودها رهن بإرادة بعض المنتفعين فحسب، يقول ماكيافيلي في مؤلفه الشهير، الأمير : ( إن الأمير الذي يرفعه كبار الدولة إلى منصب، يصعب عليه المحافظة على هذا المنصب، أما الأمير الذي يرفعه الشعب، فأمامه فرص أكثر للمحافظة على سلطته.) إن الإنسان الذي يصل إلى السلطة بفتنة أو مؤامرة، أي بوسائل غير شرعية، من دون انتخابات، مثل هذا الإنسان الذي يحكم مع بطانة فاسدة، سوف يشكلون خطرا على البلاد والعباد، ولا بد لهم أن يسقطوا شر سقطة في النهاية؛ هذا إن لم يبادروا إلى جملة من الإصلاحات، وملاقاة تطلعات الجماهير، والسعي الجاد والدائب لمعالجة كثير من المسائل والقضايا التي تتعلق بحياة الناس وظروف معيشتهم، وإلا فلا بد من مواجهة النذير؛ كان عبد الناصر يقول:  (هل أتينا نحن لنحل محل الأسرة الحاكمة، لو استمر حالنا هكذا، سيدخل علينا آخرون، ويقتلوننا ونحن نيام ).

أي لابد من عمل شيء، لابد السير بطرقة جديدة، طريقة مغايرة، يرضى بها الناس، الذين لولا مؤازرتهم لنا لما تمكنا من الإطاحة بالملك فاروق في ثورة عارمة، أي لا يمكن لنا أن نستمر  بطريقة الملك ذاتها، وإلا فسوف نسقط كما سقطت الأسرة الحاكمة..


 إن الشخصية السلطوية، تشيع جوا نفسيا بين المواطنين، فلم يعد للموضوعية مكان، فتكثر سمة عبادة الفرد، وتأليه شخصية القادة، حتى في مستوى المدارس والمؤسسات الأخرى، تحاط المسؤول الأول بهالة من الأبهة  والتقديس، بل  تغدو البلاد وعاء خاويا، ليس بداخله إلا التلقين، وصياغة الفكر الامتثالي المشوه، والحجر على العقل المبدع، والقضاء على الروح المقاومة..

إن كل الأدواء الاجتماعية، من فقر وفساد، والاستخذاء أمام فظاظة القوي، ناجمة عن الأنظمة الاجتماعية، ولا تمت بصلة إلى الطبيعة البشرية، كل هذا يدعونا أن نقول مع نصر حامد أبو زيد : ( لا بد من كسر احتكار السلطة )، لا بد من التنمية البشرية أولا، لا بد من الديمقراطية، لا بد من احترام عقل الإنسان، باعتباره قيصر هذا العالم، بتعبير ماركس…
إن الديمقراطية في العالم العربي، لم تتأسس كثقافة، ولم تترسخ كتقليد ليأخذ بها الحاكم والمحكوم معا، بل ربما ارتبطت أنفاس من الحريات باسم حاكم متسامح، لكن سرعان ما يعصف به الخلف، أو الظروف المنذرة بالخطر على (مملكة) الحاكم، كما تراها عدسة الحاكم الجائر، فأمثال هؤلاء الطغاة، لا ينظرون إلى الشرائع والقوانين والبرامج،(إن البرامج كلها سدى، والمهم، هي الإرادة الإنسانية ) هذا ما كان يقوله هتلر، فعقلية السلطة هي دوما ضد الإنسان المتسائل عن شؤونه، المكافح لتحسين ظروف معيشته، وفي سبيل تحقيق حياة حرة كريمة، وكيف تكون بالتالي إرادة الحاكم الطاغية، إذا كان على شاكلة هتلر، وإذا كان التحكم رهنا بإرادته، فإنه لن يتورع من الإقدام عن فعل أي شيء تطوله إرادته، طالما لا تقيدها لا القوانين ولا الشرائع…
 أما المعارضة، للأسف، كثيرا ما، تتشتت جهودها، وتعيش أزمة ثقة، وتتكابد معاناة، وتفتقر إلى الالتفاف الجماهيري الشعبي حولها، وتتوزع في وحدات، منعزلة عن بعضها البعض، إن لم تكن في حالة خصام وهجوم إعلامي، هذه الحالة المزرية للمعارضة وليدة جملة من الأسباب، منها، بالدرجة الأولى، قمع السلطة التام والشامل لها، الملاحظات على بعض رموز المعارضة، وخشية الناس من ماضي بعض التنظيمات السياسية الملتبس، ولو تظاهرت تلك التنظيمات بخطاب جديد، أو أن بعض أركان المعارضة، لم تفعل شيئا عندما كانت في موقع القرار، فالخطاب الجديد قد لا يشفع لهؤلاء مهما حسنت النوايا، فقد يبقى الناس في خيفة من أمرهم، سواء أكان حزبا أم أفرادا، علما أن بعض أجنحة المعارضة، قد تطرح برنامجا طموحا متقدما جدا، فيه كثير من المجازفة واللامسؤولية، فهي كي تنافس أجنحة من المعارضة، فتزاود عليها، فهي تعد بإعطاء كل شيء، فطالما أنها لا تملك شيئا، فلن  تخسر بالتالي شيئا، وهناك مثل دارج عندنا يقول: تكبير الحجر دليل على لا جدية صاحبها بالضرب.! كل هذا بغية إيهام الناس بتلك المواقف الجريئة في الظاهر، وغير موضوعية في الباطن، وجرها للالتفاف حولها، وبالتالي إضعاف أطراف المعارضة الأخرى، بل أن بعض المعارضات، أو كما تدعي هي أنها من المعارضة، تنتقد السلطة بذكر بعض الأخطاء، التي تذكرها السلطة ذاتها في بعض محافلها عادة، وتتعهد بتجاوزها، ثم تصمت هذه المعارضة إزاء الارتكابات الفادحة التي ترتكبها الدولة، لتندار بعدها إلى المعارضات الأخرى التي لا تلتقي معها بالبرامج، فتكيل لها ما طاب لها من التهم…

 من جانب آخر، فإن ثوروية  الإنسان المعارض، لا توجب عليه أن يكون دونكيشوتيا، حالما، بل ينبغي عليه أن يكون واقعيا، مكافحا لما يمكن تقبله عقليا، وتحقيقه في الواقع، وهذا هو الثوري الصحيح، وليس الذي يجأر بشعارات زاعقة، لهذا نخلص إلى القول، أنه ينبغي أن يؤسس المعارض المدرك خياراته، طرائق نضاله، على أساس العقل، على أساس الواقع، بعيدا من التحلق في فضاءات الأحلام؛ وليعلم المعارضون بكافة أطيافهم، إن الحكومات لا تصغي إلى صوت الشعب واستغاثة الفقراء، ما لم تتمثل بمعارضة قوية متماسكة، مرهوبة الجانب، تملك  من الإمكانيات والقدرات على مواجهة السلطة وعزلها في آخر المطاف، فإذا ما تراءى  ذلك للسلطة، ولو في مرآة المستقبل غير البعيد، فإنها ـ حتما ـ ستطرح بعض المبادرات، وتندار إلى الشعب، وتوهمه بوعود هي عاجزة عن تحقيقها، وربما انفرط عقدها، وتداعت أمام سطوة المعارضة وتماسكها، فتضطر مرغمة إلى التنازلات….

لكن هنا من المهم  أن تنتبه المعارضة لحيلها، وألا تنساق وراء وعودها، لأن غايتها كثيرا ما تكون تشتيت المعارضة وإضعافها، فقد تنفرد ببعض الشخصيات والأجنحة منها، بلقاءات ووعود ومماطلة وتسويف بغية إضعاف المعارضة، وضرب بعضها ببعض، وتشتيتها بالتالي والتفرغ أخيرا بالقلة الصحيحة الباقية من المعارضة، لتقليم أظافرها، والتشفي منها، لتعود بالتالي كما كانت بعنفها المعهود، تلتهم الأخضر واليابس، دون حسيب أو رقيب..!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…