سار العثمانييون على خطى أسلافهم من قبائل سهوب تركستان الغازية بموجاتها المتتالية المعروفة بالقساوة الشديدة ضد من صادفتها لأراضي الكرد واستكملت امبراطوريتهم ومن بعدها جمهوريتهم الكمالية عملية تبديل التركيب السكاني في مناطق كردستان بادئة من الأطراف لتنتهي في قلب المراكز المدينية بتطبيق قانون النفي ضد الآلاف من زعماء وأعيان الكرد وعوائلهم باتجاه مناطق الأناضول البعيدة كاجراء عسكري لدواعي الأمن القومي التركي ! أنيط تنفيذه بالجيش مع حرمانهم من الأملاك والأموال ومصادرتها جنبا الى جنب نقل القبائل التركية بعد مدها بالمال والسلاح لتنتشر في العديد من المناطق الكردستانية واطلاق العنان لها لتذرع الفوضى وتمارس الاعتداءات ونهب أموال وممتلكات القرويين الكرد بدعم واسناد مباشرين من السلطة الحاكمة كما تم أيضا نقل الآلاف من عوائل رعايا دول البلقان من أصول تركية وخاصة من بلغاريا الى مناطق كردستان بهدف التتريك كما ذكرنا ومن حينها أصبح الكرد أقلية في بعض الولايات والمدن وصارت الغلبة للعنصر التركي الوافد وفي خطوة لاحقة جرى فرض الألقاب التركية في دوائر الجنسية والنفوس وتسجيل الولادات المقرة في جداول خاصة لايمكن تجاوزها ومنع اللغة الكردية وحظر ارتياد اللباس الكردي التقليدي والشعبي والزامية تعلم التركية وفرض مناهج التعليم والكتب المدرسية التي تمجد الترك كعنصر متفوق وحيد تحت شعار رفع في كل مكان (يا لسعادة من يكون تركيا) وقد رافقت هذه العملية التي استمرت لقرون ولم تتوقف بعد ابادة الشعب الأرمني الصديق الذي كان يعد العنصر الغالب قوميا ودينيا الى جانب السريان والروم في الكثير من المدن والمراكز الحضرية وتهجير من تبقى على قيد الحياة ومورس الموقف ذاته على الكرد من أبناء الديانة – الأزيدية – الذين كانوا في عهد السلطة العثمانية يتجاوزون النصف مليون حسب الاحصاء الرسمي الحكومي والآن لايزيد عددهم على بضع مئات في جميع أنحاء تركيا .
منذ قيام دولتي سورية والعراق وتجاهل الكرد وجودا وحقوقا في دستوري البلدين بشكل متفاوت كانت النوايا مبيتة لاستبعاد العنصر الكردي من المعادلة الوطنية والتعامل معه كجسم غريب رغم كونه من السكان الأصليين ومشاركته الفعلية في معارك الاستقلال والتحرير ومساهمته في الحياة العامة ومن الواضح هنا وجوب التميز بين الحالتين السورية والعراقية حيث سيكون تركيزنا على الأولى فمن الناحية السياسية كانت الأحزاب العربية بمعظم اتجاهاتها الفكرية البورجوازية منها والقومية والاسلامية والاشتراكية اما متحمسة لعزل الكرد كشعب وقضية أو ساكتة راضية عن كل ما يحدث لهم أو لامبالية وفي ظل هذه الأجواء استطاعت الفئات والأوساط الشوفينية في ادارات الدولة والسلطة أن تلتقط الفرصة السانحة لتحويل ذلك العداء المضمرللكرد وتلك الريبة فيهم الى الواقع العملي المعاش باتخاذ المزيد من الاجراءات الرسمية والقانونية في تضييق الخناق على الوجود الكردي بوسائل عديدة منها الحرمان من دخول الكلية العسكرية والأجهزة الأمنية والسلك الدبلوماسي أو تبوؤ وظائف رفيعة وحتى متوسطة في مختلف الادارات ومنع الثقافة الكردية من لغة ونشر وكتابة وفن وفولكلور وحظر تداول كلمة الكرد في وسائل الاعلام والكتب المدرسية ومناهج التعليم واستثناء الفلاح الكردي من تقديمات قانون الاصلاح الزراعي وتجريد الملاكين الكرد من مستحقاتهم التي ينص عليها القانون واسقاط حق الجنسية السورية من عشرات الآلاف لأسباب عنصرية وهكذا نجد أن رغبات تغيير التركيب الديموغرافي في المناطق الكردية في سورية والعراق كانت متوفرة حتى قبل سيطرة حزب البعث على مقاليد السلطة الذي أسس لمرحلة جديدة في هذا المجال.
منذ ستينات القرن الماضي وفي ظل نظام البعث في البلدين انتقلت عملية تغيير التركيب الديموغرافي الى طور – الأدلجة – والتخطيط السياسي المدروس المدعوم بالسلطة والمال المعتمد على التجارب السابقة في مجال قهر الشعوب والقوميات وازالة معالمها وخاصة تراث النازيين و – مآثرهم الفاشية – تجاه اليهود وغيرهم وكذلك (وهنا تكمن المفارقة !) مشاريع الحركة الصهيونية بخصوص التنكيل بشعب فلسطين وطرده من وطنه وتغيير تركيبة مناطقه جغرافيا وسكانيا وبناء المستوطنات شبه العسكرية على أراضيه وهذا ما نال اعجاب المسؤولين البعثيين ومثقفيهم كنموذج لتطبيقه على الحالة الكردية كما طالب بذلك علنا منظر – الحزام العربي – عضو القيادة القطرية لحزب البعث محمد طلب هلال وقد انتهج بعث العراق نفس طريق توأمه السوري وزاد عليه تطبيقات عسكرية مرعبة في كردستان العراق وصلت الى حدود الابادة العنصرية واستخدام الأسلحة الكيمياوية وفرض التهجير القسري للكرد والاسكان الاجباري للعرب في المناطق المعربة وخاصة في محافظات كركوك والموصل واربيل وديالي.
لم تختلف السياسة الكردية للصفويين في ايران عن جيرانهم العثمانيين فوضعوا على رأس أولوياتهم تشتيت الكرد وتهجير قبائلهم تحت شتى الذرائع نحو ايلام وخراسان وغيرهما من البقاع البعيدة عن كردستان وجلب الفرس والآذريين والتركمان الى مناطقهم وخاصة الى مدنهم الرئيسية التي تحول سكانها الأصلييون الى أقليات فيها وقد لعبت المسألة المذهبية دورها في تفضيل القوميات الأخرى ذات المذهب الشيعي على القومية الكردية هناك ذات الأغلبية السنية من الجهة الأخرى وفي كثير من المراحل تعرض الكرد على جانبي الحدود المشتركة الى حروب واعتداءات من التحالف الصفوي – العثماني رغم العداء المستحكم بين الطرفين وهنا لابد من الاشارة الى لجوء السلطات الايرانية الحاكمة حتى سقوط نظام الشاه الى رفع شعار – بان ايرانيزم – العنصري الشامل للكرد أيضا في سبيل تجريدهم من مشاعرهم القومية الخاصة وابعادهم عن قضاياهم المصيرية وكفاحهم العادل أما في عهد الجمهورية الاسلامية فيحارب الكرد ويجري تغيير تركيبتهم الديموغرافية بدفع نوازع القومية الفارسية والمذهب الشيعي في الوقت ذاته.
خلاصة القول: يظهر أن محاولات تغيير التركيب الديموغرافي في سائر أجزاء ومناطق الكرد في طريق التتريك والتفريس والتعريب بدأت منذ الأزمان الغابرة قبل أنظمة : الجمهورية في تركيا والاسلامية في ايران والبعثية في سورية والعراق ولكنها بلغت أوجها في عهودها الحديثة وازدادت وحشية وقسوة , كما أن العملية – تغيير التركيب الديموغرافي – لم تقتصر على الدافع القومي العنصري فحسب بل اضيف اليها الدافع الديني – المذهبي , وأن المجتمع الدولي شاهد ومسؤول عما جرى للكرد بهذا الصدد ان كان في عهود الحلفاء والمحور أو المعسكرين الشرقي والغربي خلال الحرب الباردة أما بعد ذلك ومنذ ظهور مبدأ التدخل الانساني فنعيش ظروف مرحلة جديدة قد تكون لمصلحة الشعوب المضطهدة المغلوبة على أمرها خاصة بعد بروز مؤشرات عن امكانية تضامن تيارات ومجموعات سياسية ديموقراطية خارج السلطة من أبناء القوميات السائدة الحاكمة مع الحق الكردي ورفض مخططات التغيير العنصري.